شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
علي عزّت بيجوفيتش: «المجاهد المجتهد»
  في الثالث والعشرين من هذا الشهر تحلّ علينا الذكرى الثالثة عشرة لوفاة القائد السّياسي والزّعيم  البوسني والمفكّر الإسلامي الدكتور علي عزت بيجوفيتش، لهذا خيّرنا تخصيص هذا المقال للحديث عنه.
ولد «بيجوفيتش» في مدينة بوسانا-كروبا شمال غربي البوسنةعام 1925م (1344هـ)، لكنه عاش حياته كلّها في سارييفو، ففيها تلّقى تعليمه الإبتدائي والثّانوي. وفي عام 1943 التحق بكلية الهندسة الزّراعيّة ثمّ كلّية الحقوق سنة 1950 وتحصّل على الشّهادة العليا في القانون ثمّ شهادة الدّكتوراه سنة 1962 وعلى شهادة عليا في الاقتصاد سنة 1964.
نشأ  «بيجوفيتش» في مناخ يعادي المسلمين وينظر إليهم على أنّهم دخلاء على أوروبا، وكان ذا شخصيّة متميّزة بالجدّ والاجتهاد، والتّأمّل في أحوال المسلمين المتردّية في بلاد البلقان، فبدأ نشاطه في سنّ مبكرة ، حيث دفعه تعطشه لمعرفة دينه ووعيه بأهمّية التّعريف به إلى مشاركة بعض زملائه التّلاميذ في تأسيس نادٍ مدرسيّ للمناقشات الدّينيّة أطلق عليه تسمية «ملادي مسلماني» أي «جمعية الشّبان المسلمين». وقد سعت هذه الجمعيّة إلى بناء شخصيّة مسلمة تستطيع أن تتعايش مع الواقع الأوروبي من خلال الانفتاح على الثّقافة الغربيّة في منابعها الأصليّة، فجذبت الطّلاب المسلمين في جامعة سراييفو،الذين كانوا يرون أنّها تقدّم لهم الإسلام بطريقة تختلف عن النّموذج الذي يطرحه علماء الدّين الرّسميّون.كما قامت بدور إغاثي إنساني قبل الحرب العالميّة الثّانية وأثناءها تمثل في إيواء المهاجرين ومساعدة الفقراء وكفالة الأيتام. ولقد تعرضت الجمعية إلى تضييقات متواصلة في فترة الحكم النّازي نتيجة مقاطعتها للجمهورية الفاشيّة التي أسّسها المحتل الألماني، ثمّ في عهد الحكم الشّيوعي بزعامة «تيتو» نتيجة عداوته الشّديدة لكلّ نفس ذات مرجعيّة إسلاميّة. ولأنّ علي عزت كان من أبرز اعضائها ومعارضا بارزا للنّظام الشّيوعي، فقد تعرّض إلى الاعتقال والتّعذيب في أكثر من مناسبة وتمّت محاكمته سنة 1949  ثم سنة 1972، كما تمّ اعتقاله سنة 1983 على إثر الضّجّة التي أثارها صدور كتابه «البيان الإسلامي»،الذي جمع فيه مقالاته التي كان يصدرها بمجلة «تاكفين» وحكم عليه بالسّجن أربعة عشر عاما، بتهمة الانحراف نحو الأصوليّة والعمل ضدّ الدولة والسّعي لتحويل البوسنة إلى دولة إسلامية. ثمّ  اعتقل مرة أخرى بسبب نشره «دعاية إسلاميّة»، ثم أطلق سراحه أخيرًا في عام 1988. 
بعد تصدّع الأنظمة الشّيوعية في أوروبا الشّرقيّة، وفشلها في كبح جماح الشّعوب التّائقة إلى الحرّية، وبعد عشرات السّنين من القمع والاستبداد، اضطرّ الحزب الشّيوعي اليوغسلافي إلى السّماح بالتّعدديّة السياسية، فاستغل الدكتور علي عزّت هذه الفرصة، وبادر مع بعض رفاقه إلى تأسيس حزب العمل الديمقراطي الذي أدخل مسلمي البوسنة المعترك السّياسي ومثّل المسلمين وغير المسلمين وعمل على توحيد شعب البوسنة والهرسك. واستطاع الحزب في أول انتخابات جرت أن يفوز ويقوم بتشكيل حكومة ائتلافيّة مع الحزب الدّيمقراطي الصّربي والكرواتي.. وتحصّل علي عزت على أعلى نسبة من الأصوات ليصبح أوّل رئيس للبوسنة والهرسك في نوفمبر 1990م.
دافع ببسالة عن بلاده ضد المعتدين الصّرب حتّى توقيع اتفاقيّة السّلام في ديسمبر 1995م ثمّ فاز مرّة أخرى في الانتخابات التي أجريت في 14 سبتمبر 1996م، وأصبح رئيسَ الرئاسة الجماعيّة الثّلاثيّة مع عضوية صربي وكرواتي. ونتيجة لمرضه وتقدّمه في العمر، أعلن بيجوفيتش، استقالته من منصبه السياسي، بعد مشوار طويل وكفاح مرير انطلاقا من تبنّيه قضية المسلمين في يوغسلافيا إلى بلوغ مطمحه وشعبه في بناء دولة ديمقراطية تتوفر فيها الحريات للجميع بدون استثناء. إلا أنّه وبعد تقاعده من منصبه كرئيس دولة، ظلّ يحتفظ بمنصب الرّئيس الفخري لحزب العمل الدّيمقراطي إلى أن توفّي في مستشفى سراييفو يوم الأحد 19 أكتوبر 2003م، عن عمر ناهز الثامنة والسّبعين  بعد نحو شهر من ادخاله احد مستشفيات سراييفو للعلاج من أزمة قلبيّة حادّة .
لم يكن الدكتور علي عزت رئيساً عادياً كسائر الرؤساء بل كان سياسياً داهية، ومناضلاً عنيداً، ومفكراً عميقاً، ذا نظرة إسلاميّة بعيدة جعلته يتجاوز حدود البلقان، إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي، ليحمل هموم المسلمين حيث كانوا، ويعمل مع العاملين للنّهوض بهذه الأمّة.وبالرّغم من عدم تفرّغه للكتابة نتيجة نضاله السّياسي، فقد ألّف الرجل عدّة كتب، وكتب العديد من الأبحاث، وقدّم الكثير من المحاضرات، في ميادين فكريّة وسياسيّة. من أهم مؤلفاته نذكر «هروبي إلى الحرية» و«عوائق النهضة الإسلامية» و«الأقليات الإسلاميّة في الدّول الشّيوعيّة» و«البيان الإسلامي» و«الإسلام بين الشّرق والغرب» وهو يقرأ ويتحدث ويكتب باللغات الألمانية، والفرنسية، والإنكليزية، مع إلمام جيد بالعربية.
ولم أجد وأنا أبحث في شخصية هذا المصلح أفضل من تقديم الدكتور عبدالوهاب المسيري له حيث قال : «الرئيس علي عزت بيجوفيتش (الرئيس السابق للبوسنة، وقائدها السياسي، وزعيمها الفكري والروحي) صاحب اجتهادات مهمة فى تفسير ظاهرة الإنسان فى كل تركيبيتها. وهذه التركيبية، المرتبطة تمام الارتباط بثنائية الإنسان والطبيعة، هى نقطة انطلاقه والركيزة الأساسية فى نظامه الفلسفى... إنه ليس «مجتهدا» وحسب، وإنما هو «مجاهد» أيضا. فهو مفكر ورئيس دولة، يحلل الحضارة الغربية ويبيّن النموذج المعرفي المادي العدمي الكامن فى علومها وفى نموذجها المهيمن، ثم يتصدّى لها ويقاوم محاولتها إبادة شعبه. ولكنه فى ذات الوقت يستفيد من اجتهادات المفكرين الغربيين المدافعين عن الإنسان، ولعل إيمانه بالإنسان (الذى ينبع من إيمانه باللّه وإدراكه لثنائية الطبيعة البشرية) هو الذى شدّ من أزره إلى أن كتب اللّه له ولشعبه النّجاة، وهو الذى مكّنه من لعب هذا الدّور المزدوج.. دور المجاهد والمجتهد، ودور الفارس والرّاهب. وتتميّز كتابات على عزت بيجوفيتش بالوضوح والتّبلور».
كما قال عنه (وود وورث كارلسن): «إن تحليله للأوضاع الإنسانية مذهل، وقدرته التحليلية الكاسحة تعطي شعوراً متعاظماً بجمال الإسلام وعالميته».