تمتمات

بقلم
فاطمة المصمودي
من الوريد إلى الوريد زَمَنَ الدّيكتاتوريّة
 وصلتني دعوة رسميّة من الجهات المختصّة للمشاركة في معرض للفنون التشكيليّة يُختم بندوة فكريّة سيقام على هامش مهرجان «الهويّة».
أخذت أستعدّ لهذا اللّقاء بكلّ حماس، حيث زوّدت محفظتي بالأوراق اللاّزمة للكتابة وأخذت أقرأ موضوع اللّقاء الّذي حُدّد تحت عنوان «أزمة الهويّة في الفنّ»، ومن ضمن الأسئلة التي كانت تدور برأسي سجّلت السّؤال الذي كان يختلجني لأطرحه على المحاضرين اليتامى الّذين سيحضرون إلى قريتنا       أو مدينتنا أو وطننا: «ما هي الهويّة؟» 
تصفّحت العديد من كتب الفنّ والمجلاّت المختصّة لأثقّف بصري علّه ينقذني من شتات فكري إن شاء هذا الأخير أن يورّطني، وكان دائما يورّطني.
حان الموعد الّذي كنت أنتظره بفارغ الصّبر، الثّالثة بعد الزّوال والطّقس لا أحد يعلم إنْ كان حارّا أم باردا حتّى مقدّم النّشرة الجويّة أعلن جهله هذا الأمر. 
انتقلت في سيّارة أجرة إلى دار الثّقافة التي طالما احترمتها أكثر من داري، دخلت البهو الواسع، ألقيت التّحيّة على من رأيتهم، وما راعني إلاّ أن اصطففت، ولا أعلم كيف حدث ذلك، مع جمع اصطفّوا بدورهم على اليمين وعلى اليسار، الأكتاف متلاصقة والعقول متباعدة أو هي متنائية، شُدّ انتباهي إلى باب البهو تماما كما فعل البقيّة. دخل جمع وجلت لهم القلوب ونُكست لهم الرّؤوس التي انشددت إليها برغبة جامحة - لم أعرف محلّها من الإعراب أو الإغراب - في أن أكون لها حلاّجا.
بدت البراءة على وجوه الحاضرين ودخل الجمع وكانوا رجالا، واللّه أعلم بعضهم ذوو قامات طويلة والبعض الآخر استوى طوله مع عرضه، ثيابهم جديدة كأنّهم في يوم عيد وقد ربط كلّ واحد عنقه بخرقة قماش وترك العقدة مكشوفة للعيان. وما أدهشني أنّ خرقة القماش هذه كان مفعولها بعيدا كلّ البعد عن البراغماتية ولم يتمّ شدّها إلى أيّ ركن من الأركان. 
حوّلت بصري نحو أحذيتهم فكدت أرى وجوه كلّ المواطنين في هذه الأحذية لشدّة لمعانها، فكأنّهم كانوا بشرا لا يمشون على الأرض. 
انتابني شعور بالخجل المفرط لتعفّر حذائي في التّراب وطفقت أمسح اليمنى في الجهة اليسرى من السّروال واليسرى في الجهة اليمنى منه، وبعد إتمام عمليّة التّنظيف هذه ألقيت بنظرة إلى الوراء متظاهرا بالاستغراب وكأنّ أحدهم قد وخزني وكانت في الحقيقة حيلة منّي لأرى ما طرأ على السّروال.
 السّروال الذي استلفته من صديق كان يبدّل سرواله في اليوم أكثر من مرّة وكنت لا أستطيع أن أبدّل سروالي سوى مرّة واحدة في الأسبوع لألبسه في الصّباح الباكر جفّ أم لم يجفّ. 
ويا هول ما رأيت لقد أضحى سروال صديقي وسخا كذهنه، وانتبهت إلى كلّ الحضور وهم يضربون الكفّ على الكفّ، فعرفت أنّهم انتبهوا لهمّي وتأثّروا لما أصابني، فرمقتهم بنظرات تدلّ على إعجابي بموقفهم وحييت فيهم تعاطفهم معي ومواساتهم لي، وهززت رأسي امتنانا لهم ورأيت أحدهم وقد احتلّ مكانا قرب حبل رُبط من الوريد إلى الوريد. رأيته يدخل يده في جيبه باهتمام وتأثّر بالغ، فعرفت أنّه سيجود عليّ بثمن السّروال، حينها كدت أقفز نحوه لأمنعه من فعل ذلك. صحيح أنّ تلك الأحذية كانت هي السّبب في أزمتي هذه، ولكنّني لا أقبل أن يتحمّل مواطن واحد هذا العبء وحده، فليذهب السّروال إلى الجحيم على أن تبقى الرّؤوس اليانعة مرفوعة وتبقى نقود الرّجل في جيبه.
وتقدّمت نحو الرّجل أشدّ على يده وأحيّي فيه شهامته ونبل أخلاقه، غير أنّ حركة الرّجل كانت أسرع حيث أخرج من جيبه مقصّا وهالني ما رأيت، انتبهت إلى الحاضرين وقد تسارع ضربهم لأيديهم يدا بيد وكان أن اخترق أذني وابل من التّصفيق لم أرَ مثله في حياتي إلاّ ما أشاهده في نشرات الأخبار. وفي الحقيقة لم أكن من محبّي التّصفيق ولم يكن من هواياتي حتّى أنّني كنت أرى فيه مضيعة للهيبة والوقار، فالطّيور وحدها تصفّق بأجنحتها لتنظّف نفسها ولعلّها بادرة منّا في التّقليد لوعينا بوسخ أيادينا. 
اعترتني كلّ هذه الخوالج وخفت خوفا شديدا من هذه الحالة الهستيريّة التي أصابت الجمهور ورأيت الرّجل الكريم يتقدّم بخطى حثيثة، وعرفت أنّه يريد قصّ السّروال(سروالي) ليخفي العفن، فقد ذكروا في المراسلة أنّه على الحضور أن يرتدوا ثيابا نظيفة وجميلة. 
وكنت قد رأيت عند وصولي كلّ العمّال يركضون هنا وهناك وما رأيت منذ أتيت القرية أو المدينة أو الوطن عاملا واحدا يجري، فقد كانوا مرفّهين عن الرّكض، حركتهم في تؤدة ورصانة تكاد تخالهم أعيان البلاد وكان الواحد منهم لا ينطق إلاّ الحكمة، حتّى أنّني كنت أخجل من أن أطلب من أحدهم خدمة. 
كان الرّجل يتقدّم ويتقدّم ... تأخّرت إلى الوراء وكان الكلّ يتقدّمون إلى«الأمام»، تنفّست الصّعداء لأنّني غافلتهم، التصقت بالجدار حتّى أخفي عفن الأرض الذي زهد فيه العمّال. 
رأيت الرّجل يتقدّم مشهّرا المقصّ وأحسست أنّه ربّما أخطأني، ومؤكّد أنّه سيقصّ سروال مواطن آخر على سبيل الخطأ. 
هل أصمت وأنجو بالسّروال؟ فجأة شهدت صحوة ضميري وهممت بالصّياح: «أنا صاحب السّروال المتّهم بالعفن»، غير أنّ الرجل الكريم اقترب من حبل الوريد وسلّم المقصّ لصاحب حذاء لمّاع وكانت يد هذا الأخير أسرع إلى قصّ حبل الوريد، فانقطع نصفين تدلّيا يمينا ويسارا، ورأيت قطرات حمراء تسقط على الأرض مسحها الكلّ بأحذيتهم اللّمّاعة وقد هجموا على القاعة التي انكشف ما بداخلها بعد القصّ، كما رأيت أحذيتهم تتمسّح بالسّراويل. 
حينها فقط أدركت أنّ أحذيتهم كانت تلمع، لأنّهم كانوا يخفون العفن في سراويلهم من الخلف.