فلسطين بوصلتنا

بقلم
هبيري محمد أمين
تحرير القدس أو شرط تحرير الأمّة واستئناف دورها الحضاري
 يقوم الخطاب التّحفيزي، على شرط (لا يتحرّر القدس) وجوابه (إلاّ إذا تحرّرت باقي الدّول العربيّة) مع إضافة جمل سحريّة من قبيل (ولا تتحرّر الدّول العربيّة إلاّ إذا توحّدت). بيد أنّ الباحث في العلوم السّياسيّة، من خلال منهجيّة البحث، يدرك أنّ مثل هذه الأنواع من الخطابات لا تعدو أن تكون إلاّ لتجييش مشاعر عموم النّاس.
يمثل اللّوبي الصّهيوني قوّة ضاربة في النّسيج السّياسي والاقتصادي والإعلامي وغيره من المجالات العالميّة، وخاصّة في الدّول العربيّة سواء بالمشرق أو بالمغرب(1) ولا يمكن تحرير الدول العربيّة (أو قل المحميّات العربيّة) إلاّ من خلال الإطاحة باللّوبي المتحكّم فيها وفي قراراتها. ولا يكون ذلك فقط بكثرة عتاد ولا عدّة وإنّما أيضا بما وقر في القلوب من إيمان بالقضايا التّحرريّة. وبهذا يتمّ عكس شرط (لا يتحرّر القدس) وجوابه (إلاّ إذا تحرّرت باقي الدّول العربيّة) ليصبح الشّرط (لا تتحرّر الدّول العربيّة) ويصبح جوابه (إلاّ إذا تحرّرت القدس من الاحتلال الصّهيوني)، وهو ما يؤدّي إلى أنّ تحرير القدس، من خلال نضال المقاومة واستماتتها ضدّ الكيان الصّهيوني، هو شرط رئيسي لتحرير الدّول العربيّة والإسلاميّة واستئناف دورها الحضاري كقوّة إقليميّة ودوليّة، فيكون تحرير القدس مقدّما على تحرير الأمّة زمنيّا. ولا يمكن للمقاومة تحقيق ذلك النّصر إلاّ متى حقّقت أنواع القوّة الثلاثة؛ السّياسيّة (توحيد المواقف السّياسيّة) والمدنيّة (كسر الحصار الاقتصادي) والعسكريّة (رباط الخيل). 
ولا يمكن - بعد تحرير القدس- استئناف الأمّة لدورها الحضاري لتكون القوّة الأولى في العالم، فتكرّس وظيفة الإنسان بما هي عمارة الأرض (البعد المادّي) بقيم الاستخلاف (البعد الرّوحي) بالمنطق القرآني، إلاّ متى توفّر شرطان أساسيّان؛ شرط فكري (الجزء الأول) وشرط جيوسياسي (الجزء الثّاني) .
الجزء الأول: شرط فكري
يمكن تقسيم الجزء الأول والمتعلّق بالشّرط الفكري إلى عنصرين؛ تحرير الفكر من كاريكاتور التّحديث (العنصر الأول) وتحرير الفكر من كاريكاتور التّأصيل (العنصر الثّاني)
العنصر الأول: تحرير الفكر من كاريكاتور التّحديث
لم يخرج المستعمر من الأراضي العربيّة إلاّ بعد أن وضع وكلاء له من النّخب بأنواعها الخمسة؛ نخبة الإرادة (السّاسة) ونخبة القدرة (رجال أعمال) ونخبة الذّوق (الفنّ والثّقافة) ونخبة المعرفة (علماء) ونخبة الوجود بشقّيه (الدّيني والفلسفي). ولم يخرج إلاّ بعد أن هيّأهم ليكونوا قادة في أوطانهم وزعماء سياسيين ومثقّفين يحكمون باسم الحداثة والتّمدّن. وهو ما جعل مثلا من النّخب المسقطة على شعوب المغرب العربي اسقاطا دغمائيّا ينقلون سياسات الايديولوجيا العلمانيّة اليعقوبيّة، إرث الثّقافة الفرنسيّة في صراعها مع سلطة الدّين ورمزها الكنيسة، نقلا حرفيّا إلى مجتمعاتهم وذلك في تعدّ صارخ على خصوصيّة تلك المجتمعات ما أدّى إلى صدام بين نخبة تسعى للتّحديث القسري ومجتمعات ذات طابع محافظ تتميّز برسوخ الدّين صلب وجدانها.
ففرنسا مثلا، وبعد خروجها من الأراضي التّونسية دعّمت وصول أحد متخرّجي السّربون «الحبيب بورقيبة» إلى رأس الدّولة، ومعه الكثير من الوزراء الذين كانوا يدرسون في فرنسا. فكان من بين أولى إنجازاته أن اتخذ قرارا بغلق الجامعة الزيتونيّة أوّل جامعة في العالم بتعلّة سياسة «تعصير التّعليم» وفرض منظومة تعليميّة مستوردة شكلا ومضمونا ممّا أنتج جيلا من المثقّفين في قطيعة تامّة مع هويّتهم العربيّة الإسلاميّة.
العنصر الثاني: تحرير الفكر من كاريكاتور التأصيل
بالإضافة إلى نخب كاريكاتور الحداثة وفكرها المغشوش التي سيطرت على مفاصل الدّولة ومؤسّساتها، قام الحكّام بتشجيع ظهور نخبة تتحدّث باسم الإسلام لمواجهة الحركات الإسلاميّة، والتي يمكن تسميتها بكاريكاتور التّأصيل حسب تعبير الدّكتور أبو يعرب المرزوقي. 
و«ما يثبت توظيف الكاريكاتوريّين هو لقاء «فلاسفة» الحداثة الخلقيّة اللامباليّة بالسّياسة والدّنيا بمتصوفّة إسلام اللّامبالاة في كاريكاتور مجسّد لوحدتهما بالتّعالي الزّائف الذي يدّعي «التّعقلن» و«التّروحن». وهما كذبتان على الأخلاق فلا فلسفة دون وصل النّظر بالعمل ولا دين دون وصل العمل بالنّظر. وأكثر من ذلك، هو أنّ التّعالي المزعوم فلسفيّا على العمل والسّياسة هو موقف الجبناء، وهم أشدّ النّاس تبعيّة للأمر الواقع والطّمع في الاستفادة منه»(2).
ينتج عن تحرير الفكر من الكاريكاتورين التّحديثي والتأصيلي إعادة إنتاج فكر نابع من الخصوصيّة الثّقافية للمجتمعات العربيّة يدمج بين الطّابع الدّيني في جانبه القيمي والطّابع الفلسفي في جانبه الحداثي. ولعلّ هذا التّحرير الفكري يعقبه تحرير جيوسياسي له شروطه وانعكاساته على المنطقة العربيّة في صراعها مع القوى الكبرى في العالم وهو ما سنستعرضه في الجزء الموالي.
الجزء الثاني: شرط جيوسياسي 
يمكن تقسيم الجزء الثاني والمتعلّق بالشّرط الجيوسياسي إلى عنصرين؛ تحرير الجغرافيا من سطوة الاستعمار (العنصر الأول) وتحرير السّياسة من سطوة الاستبداد (العنصر الثّاني)
العنصر الأول: تحرير الجغرافيا من سطوة الاستعمار
في أواخر القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ظهر عصر الإمبرياليّة عبر استعمار الدّول الغربية (فرنسا، بريطانيا، ..) دول افريقيّة وآسيويّة وذلك لاكتشافها أهمّ موارد القرن مخزّنة في بطن جغرافيا هذه الدّول، خاصّة منها العربيّة التي كانت جاهلة بقيمة الأراضي الصّحراويّة آنذاك، غير أنّه، وبمرور الزّمن برزت ظاهرة التّحرر من المستعمر في الدّول العربيّة والتقت إرادة النّخب بالإرادة الشعبيّة على هدف سياسي واضح هو التّحرّر من المستعمر عسكريّا وسياسيّا قصد بناء الدّولة الوطنيّة. وهو ما جعل الدّول الامبرياليّة تفكّر في نوع جديد من الاستعمار. 
لئن كان من البديهي أن يكون الاستعمار السّياسي عبر وسائل عسكريّة يمثّل استعمارا عنيفا فقد تمّ ابتكار استعمار ثقافي عبر وسائل اقتصاديّة وهو ما يمثّل استعمارا ناعما.
مثّل التّحوّل من الاستعمار العنيف إلى الاستعمار النّاعم بداية تحوّل العلاقات الدّوليّة من العصر الإمبريالي إلى العصر الميتا-امبريالي أو ما بعد الإمبريالي. في إشارة إلى تواصل فلسفة الغرب الطّامحة نحو التّوسيع في مجال الدّولة الحيوي عبر امتصاص ثروات دول أخرى وأهمّها الدّول الافريقيّة، وابقائها تحت وطأة الفقر والمجاعة والحروب لمدّة طويلة. 
ولذلك فإنّ تحرير الجغرافيا من الاستعمار غير المباشر يعتبر استكمالا للتّحرّر من الاستعمار المباشر. ولا يكون ذلك إلّا عبر خلق نموذج تنموي ينبع من فهم الجغرافيا المحلّية وابداع ثقافة جديدة نابعة من الثّقافة المحلّية في جانبها القيمي وقوامها الدّيني ومنفتحة على فلسفة الحضارة الغربيّة.
العنصر الثاني: تحرير السّياسة من سطوة الاستبداد
تعني الديمقراطيّة حكم الشّعب نفسه بنفسه غير أنّها تراهن على حكمة الشّعب. وهذه الحكمة نسبيّة فإمّا أن يغلب على الشّعب حكمة العقل فيحسن تدبير الأمر بنفسه من خلال بناء مؤسّسات تعمل على استقراره السّياسي والاقتصادي والاجتماعي. أو أن يغلب على الشّعب حماقة الهوى فيسيء تدبير الأمر بنفسه، وهو ما يؤدّي إلى الانتقال الحرج من حكم الدّيمقراطية إلى حكم الأوليغارشيا، حيث حكم الأقلية أو النّخب الهشّة. 
ذلك أنّ الديمقراطية لم تكن يوما شعبيّة بل هي مواطنيّة بالأساس(4)  حيث تدّعي الدّيمقراطيّة تأسيس شرعيتها على قانون العدد. إلاّ أنّ هذا القانون لا يتوافق مع احترام الحقّ. فقانون الأغلبيّة لا يضمن احترام المقتضي الإيتيقي الذي يؤسّس الدّيمقراطية. ذلك أنّ ديكتاتوريّة الكثرة قد تكون أشرس من استبداد الفرد الواحد(5).
بعد عشر سنوات من انطلاق شرارة «الرّبيع العربي» في تونس، اتضح أنّ الاستبداد يمكن أن يحكم حتّى في مناخ ديمقراطي مليء بالتّعدديّة الحزبيّة والتّداول السّلمي على السّلطة. فانقسام النّخب الحاكمة وفق محاور خارجيّة والحقد الإيديولوجي المزروع في صفوف البعض أدّى إلى انقسامــات واضحة في الأحزاب وهو ما أدّى إلى أزمة منظومة سياسيّة عميقة.
الهوامش
(1) حادثة اغتيال محمد الزواري في وسط مدينة صفاقس التونسية لا تدل إلاّ على تغلغل الكيان الصّهيوني في مؤسسات دول المغرب العربي
(2) أبو يعرب المرزوقي، كاريكاتور النخب أو جامية التحديث وجامية التأصيل، الفصل الأول، منشور على الموقع الرسمي عبر الرابط المصاحب : https://abouyaarebmarzouki.wordpress.com/
(4) أنظر معي كيف تدرج اليونانيون في حكمهم الديمقراطي من حكم خاصة الخاصة (الأعيان والملوك) ثم خاصة العامة (رجال دون العبيد) ثم عامة العامة (رجال ونساء دون الأطفال)
(5) جون ماري مولير