حديث في السياسة

بقلم
د.عبدالله التركماني
اللاّمركزية الإداريّة الجغرافيّة الموسّعة لسوريّة المستقبل(2-2)
 رابعًا: اللامركزية الإدارية الجغرافية الموسّعة لسورية المستقبل 
إنّ الخيار ليس بين المركزية الطاغية، أو التّقسيم، أو الفيدراليّات الطّائفيّة والقوميّة، بل هو بين هذا كلّه وبين نظام ديمقراطي حقيقي، تُضمَن فيه صلاحيّات الحكومة المركزيّة، في المجالات الكبرى كالخارجيّة والدّفاع والعملة وإدارة الموارد الاقتصاديّة الرّئيسيّة، حكومة قادرة على حلّ القضايا المعلّقة والشّائكة. إنّه أيضاً النّظام الذي يضمن، في الوقت نفسه، أوسع الصّلاحيّات للمحافظات والمناطق والنّواحي والبلدات. 
وفي الواقع، تتطلّب العقلانيّة التّعامل مع الجدل السّوري الجاري بشأن حدود النّظام اللاّمركزي من زاويتين مهمّتين: أولاهما، على أنّه يقدّم الحلّ لمشكلة مزمنة هي مشكلة المكوّنات القوميّة والدّينيّة ضمن الدّولة السّوريّة الواحدة. وثانيتهما، أنّه يقدّم الحلّ لإشكاليّة الحكم في دولة يصعب قيادتها مركزيّاً. 
والسّؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: إذا كان نظام اللاّمركزيّة الإداريّة الجغرافيّة الموسّعة يقدم الحلّ لهاتين المشكلتين المزمنتين سوريّاً أفلا يستحق من الجميع التوقّف عنده وإعطاء الفرصة له بعيداً عن الشّعارات الجاهزة والتي تساويه بالتّقسيم والخيانة؟
مع العلم أنّ هناك اتفاقاً عاماً، بين علماء السّياسة، على أنّه لا يمكـن الاعتراف بأنّ نظامـاً سياسيّـاً مـا هـو نظــام ديمقراطـي إذا لم يتوافر فيه شكـل أو آخـر من أشكال الحكم المحلّي، باعتباره مرحلة التّعليم الأساسي للدّيمقراطيّة، بما يؤهّل الفرد لممارسة السّياسة على المستوى الوطني. ذلك أنّ العمل المحلّي يحتاج إلى قدر كبير من المشاركة، سواء في انتخاب أعضاء المجالس المحليّة أو المساهمة في المشاريع التّنمويّة، التي يتمّ إنشاؤها داخل الوحدة المحليّة، أو الرّقابة على الأعضاء ومحاسبتهم على أدائهم ومطالبتهم بتقديم كشف حساب إلى هيئة يكوّنها النّاخبون، تناقشهم في الأعمال المزمع القيام بها وتراجعهم في أوجه القصور، وتساعدهم على تلافيها، وقيمة المشاركة تتطلّب وجود قدر مرتفع من قيمة الحرّية. والحرّية والمشاركة يضمنان قدراً من العدالة في توزيع الموارد والأعباء المحليّة، ويحفظان للمواطنين حقّهم في المساواة أمام المجالس والنّظم المحليّة.
وإذا كان النّظام المحلّي له هذا الدّور الهامّ في تحقيق الوحدة الوطنيّة الطّوعيّة، فإنّ القيم السّياسيّة الحديثة هي بيت القصيد في هذه العمليّة، فالمشاركة السّياسيّة مثلاً تقوّي الوحدة الوطنيّة السّوريّة، والمشاركة عن طريق اللاّمركزيّة تسمح للولاءات الفرعيّة بأن تعبّر عن نفسها دون كبت، ما يؤدّي إلى التّخفيف من وطأتها فلا تصبح معضلة في سبيل تحقيق الوحدة الوطنيّة.
وهنا لا بدّ من التّنويه إلى أنّ اللاّمركزيّة، من حيث المبدأ، هي أحد الأشكال المضافة إلى مفهوم الدّولة، وقد جاءت تلبية للحاجات التي يقتضيها تطوّر المجتمعات البشريّة، في تاريخها الحديث والمعاصر، وبهذا المعنى، هي معطى حداثي بامتياز.
وبما أنّ اللاّمركزيّة وليدة الدّولة الوطنيّة القويّة، دولة الدّيمقراطية والمواطنة، فهي مصدر لقوّة هذه الدّولة أيضاً، ثم إنّ علاقة جدليّة وطيدة تربط بين اللاّمركزيّة من جهة، والدّيمقراطيّة والمواطنة والهوية من جهة أخرى.
وهكذا، بإعادة رسم الخريطة الإداريّة السّورية نستطيع أن نتحاشى اشتراط البعض لنصوص دستوريّة أو قانونيّة تشكّل ألغاماً يمكنها أن تنفجر بأيّة لحظة، وأن نتجنّب تحكّم ظلال الماضي المعتم بمستقبل سوريّة. فعندما تضمن كلّ الأطياف تمثيلها في مناطقها، فإنّها ستقوم من خلال الممارسة الدّيمقراطيّة بانتخاب ممثّلين لها وفقاً لأسس المصلحة العامّة والكفاءة والفاعليّة والمردوديّة، وهذا هو مفهوم النّظام الدّيمقراطي الذي تقوم عليه الدّول.
في هذا البحث عن الذّات، وإحياء القيم الإنسانيّة المرتبطة بها، قيم الألفة والتّعاون، ينبغي وضع النّزوع الكبير اليوم إلى كسر مركزيّة الدّولة التّسلطيّة، والتّعلّق بإقامة نظام أكثر حميميّة وقرباً من مشاعر النّاس وعواطفهم، وأكثر بعداً عن الوطنيّات الأيديولوجيّة الفارغة، التي لم يكن هدفها سوى التّغطية على الاستبداد. وسيكون ذلك في مصلحة تعميق المشاركة في الحياة الوطنيّة، وتعزيز فرص التّنمية الاجتماعيّة والإنسانيّة معاً. 
وهكذا، يتحدّد فهمنا للاّمركزيّة الإداريّة الجغرافيّة الموسّعة على الأسس التّالية:
-1 قيامها على وحدة سوريّة وطناً لكلّ السّوريّين، من خلال تنظيم الإدارة المحليّة، وتنظيم تقاسم الموارد، لمنع تسلّط المركز، واستحواذه على معظم موارد البلد، وضمان توسيع المشاركة في الحكم وصياغة القرارات المصيريّة. 
-2 لا تعني قيام كلّ محافظة بإقامة علاقات خارجيّة أو تشكيل جيش أو عملة أو علم خاصّين بها، وإنّما تعني إدارة شؤونها في قضايا التّعليم والصّحّة والخدمات والأمن الدّاخلي، أمّا الشّؤون السّياديّة، وضمنها الخارجيّة والدّفاع وإدارة الاقتصاد، فتبقى في يد السّلطة المركزيّة. 
3 - تقوم على أساس جغرافي، وليس على أساس قومي أو طائفي، لأنّ ذلك يتناقض مع دولة المواطنين الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات.
4 - لا يتمّ تعريف المواطن بقوميته أو دينه أو مذهبه أو جنسه، فالمكانة الحقوقيّة متساوية لكل المواطنين. 
وبذلك يتوفّر التنوّع في الممارسة الإداريّة بين الوحدات المحليّة، وهو ما قد يقدم نماذج أكثر فاعليّة لخدمة المواطنين، ويترك لهذه الوحدات الفرصة لتحديد الأنسب لبيئتها المحليّة في مجال الخدمات والضّرائب والإطار العام للحياة، مع مراعاة خصوصيّات السّكان في كلّ منطقة.
إنّ الثورة السّوريّة فرضت علينا واقعا جديدا، يتمثّل في فشل الدّولة المركزيّة الحالية بإدارة سوريّة، ممّا يشكل خطراً على بقائها كدولة، ويعرّضها لمخاطر التّقسيم العرقي والدّيني، وهنا نهايتها. بينما اللاّمركزيّة ستعطي شعوراً أكبر بالحرّية لدى السّوريّين، وبالتّالي سيزيد ترابطهم الوطني، وسيزيد كذلك شعورهم بالمسؤوليّة تجاه الفساد وضعف الإنتاج والتّنمية الشّاملة.
فإذا كان للاّمركزيّة الإداريّة أن تكون صيغة مناسبة لاتحاد سوري، يطوي صفحة التّصوّرات القوميّة والمركزيّة لسوريّة، يقتضي الأمر أن تكون النّخب السّياسيّة جادّة في شأنها، وأن تقوم على تفاهم سياسي عريض، وتُراعى مقتضيات قيامها من استشارة السّكان وتوفير تمثيل فعّال لهم، ومن توفير بيئة أكثر ملاءمة للاتحاد في البلد ككل، وفي المحافظات والمناطق والنواحي والبلدات.
خاتمة
في ظلّ صراع الهُويات القائم اليوم، وكذلك المقتلة التي عصفت بسوريّة، أصبح السّوريون في حاجة ملحّة إلى عقد اجتماعي جديد، ينقلهم إلى الحالة الوطنيّة الجامعة. ولعلَّ مشروع اللاّمركزية الإداريّة الجغرافية الموسّعة سيكون مساهمًا في وقف النّزيف السّوري، وبناء مستقبل سوريّة الغد في إطار التّعدديّة والدّيمقراطيّة، كما سيساهم في ازدهار البلاد اقتصاديّاً، وتماسكها كوحدة جغرافيّة تقطع السّبيل أمام التّقسيم والتّشتّت.
ليست اللاّمركزيّة مجرد ضرورة ديموقراطيّة وتنمويّة في سوريّة فقط، وإنّما هي ضرورة لحسن تحاور وتجاور السّوريين بمختلف مكوّناتهم، وللتّدرب على الحكم الذّاتي. 
الهوامش
(1)  أنظر مقالنا بمجلّة الإصلاح - العدد 170 - سبتمبر 2021