بهدوء

بقلم
د.ناجي حجلاوي
الإعجاز القرآني: المفهوم والإشكالات (الحلقة الخامسة : وجوه الإعجاز وعوالم البلاغة)
  ركّز القائلون بنظريّة الإعجاز، أنّ الإعجاز يكمن في أسلوب القرآن ولغته، وإذا كان الرّماني لغويّا ونحويّا ومفسّرا، فإنّه لم يشذّ عن هؤلاء جميعا(1). ومن ذلك نركّز الاهتمام على ثلاثة محاور هي: الصّرفة، وأخبار الغيب، وقوّة البلاغة، أي وضع الكلام في مواضعه، والقصد من المسألة البلاغيّة أن يعجز النّاس عن الإتيان بمثل جماله. وقد ذهب الخطّابي والرّماني بشكل واضح، ولاسيّما الجرجاني، إلى معالجتهم لفكرة النّظم، لأنّها تدور حول الفعل القرآني بجماله وجلاله في النّفوس(2) . وقد ذهب الرّماني إلى أنّ وجوه الإعجاز في القُرآن تظهر في سبع جهات، وهي: ترك المعارضة مع توفّر الحاجة وكثرة الدّواعي، والتّحدي للكافّة، والصّرفة، والبلاغة، والأخبار الصّادقة عن الأمور المستقبلة، ونقض العادة، وقياسه بكلّ معجزة (3) . علما بأنّ البلاغة، بالنّسبة إليه، تتفرّع إلى ثلاث طبقات: منها ما هو في أعلى طبقة، ومنها ما هو في أدنى طبقة، ومنها ما هو في الوسائط بين الأقصى والأدنى. والطّبقة العالية هي موطن الإعجاز القرآني، وهي بلاغة القرآن، وما كان دون ذلك فهو ممكن كبلاغة النّاس. والبلاغة تتجاوز في وظيفتها الإفهام، ومجرّد تحقيق المعنى على اللّفظ لأنّ التّواصل قد يتمّ بين عييّ وبليغ، وقد يقع المعنى على الغثّ من الكلام. ومن ثمّ يتّضح المعنى الأوفى للبلاغة وهو: إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللّفظ (4). والمهمّ هو معرفة أنّ أعلى طبقات البلاغة معجزٌ لكافّة النّاس عربا وعجما.
ويعمد الرّمّاني، في مقام آخر، إلى تحليل عوالم البلاغة وإرجاعها إلى عشرة أقسام، وهي: الإيجاز، والمقصود منه: تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى، وهو يتفرّع إلى فرعيْن: القصر والحذف. والتّشبيه، ويقصد به: العقد على أنّ أحد الشّيئيْن يسد مسدّ الآخر. والاستعارة وهي: تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللّغة على جهة النّقل للإبانة. والتّلاؤم، وهو نقيض التّنافر، والتّلاؤم يعني تعديل الحروف في التّأليف. والفواصل، والمقصود بها: حروف متشاكلة في المقاطع توجب حسن إفهام المعنى. والتّجانس، وهو: بيان لأنواع الكلام الّذي يجمعه أصل واحد في اللّغة. والتّصريف، وهو يقوم على تصريف المعنى في المعاني المختلفة، كتصريف الاشتقاق في المعاني المختلفة. والتّضمين، وهو حصول المعنى من غير ذكر له باسم أو صفة هي عبارة عنه. والمبالغة، ويقصد بها الدّلالة على كبر المعنى من جهة التّغيير عن أصل اللّغة لتلك الإبانة. وحسن البيان، ومعناه الإحضار لما يظهر به تميّز الشّيء من غيره في الإدراك(5).
والجليّ ممّا تقدّم هو أنّ الرّمّاني حريص على بيان تعالي الخطاب القرآني ومفارقته للخطاب البشري في اعتداد تام أنّ للقرآن الفضل على سائر الكلام لأنّه خارج القدرة أصلا طالما أنّ الإعجاز في أصل مدلوله اللّغوي عجز وقعود واستحالة لتعذر المعرفة وانتفاء العلم (6) . 
ومن خلال كلّ هذه الأنواع يخلص الرّمّاني إلى أنّ معارضة القرآن استحالت مع توفّر الدّواعي وشدّة الحاجة إليها، وقيام التّحدّي لجميع النّاس، ثمّ إنّ البلاغة قائمة في لغة القوم وعاداتهم، فتحوّلت، في الآن نفسه، إلى دليل صدق في النّبوءة ودليل عجز عن الإتيان بمثله. فكان مثلهم مثل العطشان يحتضر والماء قربه. فما دلّ ذلك إلاّ على عجزه عن إنقاذ نفسه. ثمّ إنّ المعجزات المادّية محدودة بحدودها، كحال ما توفّر من المعجزات المادّيّة مع الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى. أمّا التّحدّي القائم بالقيل القرآني، فيظلّ قائما على الدّوام، لأنّ المعجزة تضامّت مع النّص المعجز في حدّ ذاته، فأصبح الدّال في هذه المعجزة من جنس دليلها. فكان العجز حتّى في مستوى الإتيان بما يشبه قِصار السّور فضلا عن الطّوال.
والجدير بالملاحظة، في هذا الصّدد، هو أنّ محمّد شحرور قد فرّق بين أمريْن هما: التّحذير والتّحدّي. والطّريف لديه أنّ الإعجاز في الرّسالة المحمّديّة كامن في النّبوءة فحسب، دون الرّسالة. وإذا تعلّق التّحذير بالإتيان بالمثل، في المستوى التّشريعي، الّذي هو الرّسالة، فإنّ التّحدّي قد ارتبط بالنّبوءة، الّتي هي جملة معارف وعلوم. وفي نطاق العناية والمحافظة على التّشريع، فإنّ الله توعّد الّذين يكتبونه على غير وجهه.
وأمّا فيما يتعلّق بالعلوم والمعارف الواردة في النّبوءة، فقد تحدّى اللّه بها من أراد أن يأتي بمثلها. وليس خافيا، أنّ التّحذير في المُصحف قد شمل، أيضا، كتمان ما ورد في الكتاب، ولاسيّما الآيات البيّنات الّتي لا تحتاج إلى تأويل ولا إلى واسطة حتّى تُفهم، كما هو الحال الّذي جرى عليه الأمر، وفق مذهب أو فرقة، حيث يتحوّل الفقه شارحا للمذهب لا للنصّ. وبناء على هذا التّفريق، يشير محمّد شحرور إلى أنّ الطّرح المعقول، في معجزة محمّد ﷺ قد سبق المدرك المحسوس وقدّمها القرآن في صياغة يسمّيها بالمتشابه. وعليه فإنّ طروحات القرآن تدخل ضمن المحسوس المدرك كلّما تقدّم الزّمن، وهو ما يسمّى بالتّأويل المباشر(7). 
ولعلّ أبرز النّتائج الّتي أسفر عنها تفريق محمّد شحرور بين النّبوءة والرّسالة وبين الإعجاز والتّحدّي هو أنّ القرآن، إذا حوى الحقيقة المطلقة، فإنّ العقل البشريّ يفهم منه ما تيسّر له بنسبيّة التّأويل والتّفسير. ويبدو أنّ هذا هو الوجه البارز لإعجاز القرآن. فكلّ مفسّر لا يعكس المعرفة القرآنية، وإنّما يعكس معارف عصره. والقرآن لا يهب العقل البشريّ من الإدراكات إلاّ بالقدر الّذي يسمح به السّقف المعرفيّ في زمن من الأزمنة. وقديما، قام التّحدّي أمام البلغاء فضلا عن المولّدين، ولاسيّما أنّ لكلّ معنى لفظا قمينا به، والنّفس إليه أميل. 
وقد ذهب الجاحظ، في هذا المجال، إلى أنّ للعرب الفضل على الأمم كلّها في الخطابة والبلاغة. وهو في حقيقة أمره، يناظر أصحاب الشّعوبيّة ويُجهّلهم ويُسفّههم في إنكارهم ذلك، ويقضي عليهم بالشّقوة، وبالتّهالك في العصبيّة (8) . 
والمهمّ في كلّ ما تقدّم، هو أنّ العرب كانوا مدركين لهذا العجز القائم أمام القرآن، ولو كان الأمر في المستطاع لعجّل الشّعراء والبلغاء بالاستجابة لهذا التّحدّي(9). وقد انتبه الوليد بن المغيرة إلى أنّ الّذي يقوله محمّد بن عبد الله ليس بالشّعر ولا هو بسجع الكهّان، ولا هو من كلام العرب، وإنّما هو سحر لأنّه لا يفهم، ومن تأثيراته التّفريق بين المرء وزوجه(10). وقد قال عُتبة بن ربيعة، لمّا استمع إلى القرآن، وبالتّحديد إلى سورة فصّلت، قال: «إنّي سمعت قولا واللّه ما سمعت بمثله قطّ، وما هو بالشّعر ولا السّحر ولا الكهانة. يا معشر قريش أطيعوني، خلّوا بين هذا الرّجل وبين ما هو فيه، فواللّه ليكوننّ لقوله الّذي سمعت نبأ»(11) . فبان وفق هذه الضّروب من الشّهادة أنّ القرآن معجز خارق للعادة(12).
ولقد أرجع الخطّابي عجز الإنسان عن الاستكانة لتحدّي اللّه لأنّ إحاطة الإنسان بجميع أسماء اللّغة ومعانيها إحاطة نسبيّة. ومعارفه لا تتّسع إلى إدراك جميع معاني الأشياء الّتي تُحمل عليها كلّ الألفاظ(13). ويظلّ التّساؤل قائما إزاء جدوى التّحدّي الإلهيّ لمن خلق وبثّ فيه جذوة العلم من روحه؟ وهل يوازي الإنسان ربّه في المنزلة حتّى يُصبح للتّحدّي معنى؟ ويبدو أنّ الإجابة تكمن في سوْق درس مفاده أنّ العرب قد بلغوا ذروة الإجادة للّسان العربيّ الّذي قُدَّ منه القرآن. وعلى هذه الصّورة أصبح للتّحدّي معنى ومن ورائه فائدة تتمثّل في الوظيفة الإقناعيّة بأنّ هذا الخطاب إلهيّ وليس بشريّا.
ولقد اتّخذ الرّسول القرآن سلاحا نافذ التّأثير في نفوس المتلقّين لما يتمتّع به من سلطة أدبيّة تذعن لها النّفوس، وحجّته في ذلك قوله تعالى: «وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا»(14). ولا أدلّ على هذا التّأثير في النّفوس  ممّا أشار القرآن نفسه إليه من أنّ الجنّ قد اعتبروه  شيئا عجبا، ومصداق ذلك قوله تعالى: «إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا»(15)، وكذلك قوله: «لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(16).
الهوامش
(1) أورد أبو الحيان التّوحيدي رأيا مهمّا في الرّماني يتمثّل في «أنّه لم يُرَ مثله قطّ علما بالنّحو، وغزارة في الكلام، وبصرا بالمقالات، واستخراجا للعويص، وإيضاحا للمشكل، مع تألّه وتنزه ودين وفصاحة وفكاهة وعفافة ونظافة». انظر  ثلاث رسائل في إعجاز القرآن للرّماني والخطّابي وعبد القاهر الجرجاني، في الدّراسات القرآنيّة والنّقد الأدبي، م س، وبالتّحديد مقدّمة الطبعة الثانية للمحقّقيْن،  ص10. 
(2) يمكن العودة إلى محمد خلف الله، من الوجهة النّفسيّة في دراسة الأدب ونقده، دار مطبعة لجنة التأليف للتّرجمة والنّشر، مصر، ط1، 1947، وبالتّحديد في الفصل الرّابع: المنزع النّفسي في بحث أسرار البلاغة، ص ص 72،115.
(3) الرّماني، كتاب النّكت في إعجاز القرآن، م س،  ص75.
(4) انظر الرّمّاني، النّكت في إعجاز القرآن ، م س، ص75.
(5) انظر الرّمّاني، النّكت في إعجاز القرآن ، م س، ص ص 76،113.
(6) يمكن العودة في هذا المجال إلى فصل مهمّ بعنوان: النسق العقدي والنسق اللّغوي: عودة إلى مسألة النّظم، ضمن كتاب حمّادي صمّود، من تجليّات الخطاب البلاغي، م س، ص ص 31،85.
(7)  محمّد شحرور، الكتاب والقرآن، م س، ص ص 182،186.
(8) الجاحظ، البيان والتّبيين، ج3، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، وبالتّحديد: باب العصا، ط 7، 1998، ص5 وما بعدها.
(9) انظر عبد القاهر الجرجاني، الرّسالة الشّافية، م س، ص119.
(10) انظر الجرجاني، م ن،  ص123.
(11) انظر، الجرجاني، م ن، ص124.
(12) هاتان الشّهادتان تذكّران بما قاله الوليد بن عقبة في شأن الوحي، وسترد هذه الشهادة في المقام المناسب لاحقا.
(13) الخطّابي، بيان إعجاز القرآن، م س،  ص21 وما بعدها.
(14) سورة الفرقان - الآية 50.
(15) سورة الجن - الآية 2.
(16) سورة الحشر - الآية 21.