في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
القصص القرآني من منظور جديد «مدخل عام»
 مقدمة: 
(الإنسان كائن ثقافي) مقولة اشتهرت في الفلسفة المعاصرة، وأكدتها الدّراسات العلميّة في شتّى المجالات، والدّلالة السّالبة لهذه المقولة هي أنّ الإنسان العاقل (Homo sapiens) ليست له طبيعة(1)، بل له تاريخ هو الذي يفسّر (تكوينه)، ذاك الذي كان يسمّيه القدماء طبعا وغريزة ومزاجا وحقيقة وهويّة؛ ومن عجائب الكشف العلمي أنّ غرائز الطّفل تكون عند الميلاد مجرّد إمكانات، وشرط تحقّق تلك الإمكانات هو وجوده في سياق اجتماعي يحفّز نموه باتجاه الأنسنة (2)، وبدون هذا السّياق يستحيل أن يكون سليلُ الإنسان إنسانا (3).
ولقد أصاب ابن خلدون حين قال مستبعدا وهم (الطّبيعة الإنسانيّة): «إنّ الإنسان ابن عوائده ومألوفه، لا ابن طبيعته ومِزاجه، فالّذي ألِفه في الأحوال حتّى صار خُلُقا ومَلكةً وعادةً تنزّل منزلةَ الطّبيعة والجِبلّة»(4).
إذن التشكّل الإنساني ليس معطى بالميلاد، ولكنّه صناعة اجتماعيّة تستند إلى تاريخ ضارب في القدم، تاريخ وقع فيه اشتراك بين كلّ البشر، لأنّ النّاس كانوا أمّة واحدة، كما وقع فيه الاختلاف، وما الاختلاف إلاّ اشتراكا خاصّا يتشكّل كلّما انفصلت جماعة بشريّة، وأسّست لنفسها مسارا مستقلا، وعلى هذا المنوال تناسلت الأمم من أصل إنساني واحد.
أنماط التّاريخ
هكذا يكون إنسان اليوم على اختلاف انتماءاته الحضاريّة والثّقافيّة ثمرة لتاريخ سحيق، يحتاج كلّ إنسان أن يعرفه ليعرف حقيقة نفسه، غير أنّه يجده مرويّا على ثلاثة أنماط:
* النّمط الأسطوري: وهو عنصري المنزع، يجعل التّاريخ يتغنّى بالفضائل القوميّة، والخصوصيّات العبقريّة لشعب من الشّعوب، والأسطورة ليست باطلا محضا، بل هي خليط من الحقيقة والخيال كما تجد مثلا في الإلياذة.
* النّمط العلمي: وهو المبني على منهج يسلكه باحثٌ مؤهّلٌ بقصد التّحقّق من صحّة الوقائع المحكيّة، والكشف عن المسكوت عنه، لكن يقينيّات هذا النّمط قليلة ومبعثرة، وفيه ثغرات كثيرة، ولهذا تقتحمه القراءات لتُدخل عليه المعقوليّة والانتظام، ولتملأ الفراغات في انتظار كشوفات علميّة تؤيّد أو تفنّد، وهاهنا مجال واسع للظّنون، ومداخل متخفّية للأهواء.
* النّمط الإلهي: وأقصد به التّعليم الذي أوحاه اللّه، وقد وصل منه إلينا مدوّنات عرفت عند المسلمين باسم التّوراة والإنجيل والقرآن، ويطلق اليهود على كتبهم اسم (التناخ)، وأمّا التّقليد المسيحي فيسمّيها (العهد القديم)، ويسمّي الأناجيل (العهد الجديد).
هذه المدوّنات للأسف لم تسلم من دسّ الأهواء والأساطير، إمّا في متونها، وإمّا في تفاسيرها، والنّصّ الوحيد الذي سلم متنه لا تفسيره هو القرآن الكريم.
والنّمط الإلهي في التّاريخ يمثل شهادة اللّه تعالى الذي ﴿هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سبأ: 47]، فإذا سلم النّصّ من تدخّل البشر كان هذا النّمط أصحّ الأنماط وأكملها. 
هل القرآن كتاب تاريخ؟
القرآن ليس كتاب تاريخ، ولكنّه كتاب فيه التّاريخ الذي يحتاج الإنسان أن يعرفه ليعرف الحقّ، وليستبين سبيل المجرمين، على وجه لا مثيل له، لأنّه حكاية شاهد كان حاضرا، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]، لهذا بلغ القرآن في هذا الباب مبلغا لا يُدرك شأوه أبدا: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ [يوسف: 3]
لكن هذه الهداية القرآنيّة عطّلها التّراث التّفسيري للمسلمين بما أُدخل عليها من أساطير اليهود والنّصارى، وأوهام الفلاسفة والمتكلّمين، وشطحات المتصوّفة، وهو تراث نشأ في سياق الصّراع على حيازة السّلطة العلميّة التّوجيهيّة لأغراض سياسيّة وطائفيّة، فهمُّ المتصارعين كان هو التّوسّل بجاه القرآن لاستتباع الجماهير، ولهذا مست الحاجة اليوم إلى تحرير قراءتنا للقرآن من التّقاليد التّراثيّة التي برّرت لوجودها بادّعاء أنّ القرآن يحتاج إلى تفسير من خارج، وكأنّه نصّ مرموز يتوقّف فهمه على فك ألغازه.
القرآن والنماذج التّفسيريّة
ما يقوله القرآن عن نفسه يناقض حاجته إلى تلك التّفاسير المزعومة أشدّ المناقضة، إذ كيف تكون حاجة ﴿الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الزخرف: 2] إلى بيان إضافي، وكيف يحتاج إلى تفصيلٍ كتابٌ كان ﴿تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [يوسف: 111]، ومَن هذا الوقح الذي يصطنع نموذجا تفسيريّا مبنيّا على اتهام القرآن بقصور البيان وهو يسمع قوله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [الفرقان: 33]
لقد رسم القرآن لنفسه الحدود، ووضع الضّوابط، حتّى يسير القارئ فيه على بصيرة من ربّه، ويمكننا إجمال ذلك فيما يلي:
-1 القرآن نزل للحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [النحل: 64]، وذلك مقصد لا يتحقّق إلاّ بقول فصْل، فقراءة القرآن التي لا تُخرج النّاس من الاختلاف هي مجرّد هزْل، تتّخذ كتاب اللّه هزؤا، وكلّ ما عاد على أصل قرآني بالإبطال فهو باطل.
-2 القرآن حُكْم عربيّ: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا﴾ [الرعد: 37]، لكن عربيّته ليست العربيّة القوميّة، بل عربيّة الفطرة، والعروبة في القرآن صفة تفيد كمال البيان(5)، فقوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: 3-4] معناها جعله عربيّا، أي أنّ الإنسان الأوّل كان عربيّا(6)، واللّسان العربي الذي جعله القرآن مرجعا لدلالاته لا زال في حاجة إلى تعريف وتوصيف، إذ لم تفِ بذلك كتب اللّغة القديمة التي اعتمدت المفهوم القومي للعروبة.
-3 القرآن تام البيان: فلا يحتاج بيانه إلى بيان من خارج يفسّر منه شيئا لم يفسّره بنفسه، ولهذا نحتاج اليوم أوّل ما نحتاج إلى إعادة النّظر في المفاهيم التي لبست ألفاظه واحتطبت المعاني من خارج، ثمّ ادعى المحتطبون أنّها مفاهيم القرآن، كما نحتاج إلى تركيب تلك المفاهيم بعد تخليصها تركيبا يراعي القاعدة التّالية:
-4 عدم الاختلاف: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، وهذه قاعدة مزدوجة، تفيد أوّلا أنّ القرآن يُصدق بعضُه بعضا، فإذا نُسب إليه ما يجعله متنافيا متعارضا دلّ ذلك على أنّ النّسبة باطلة، وتفيد ثانيا أنّ القرآن يصدق الحقّ الثّابت في المصادر الأخرى، فقد يتقاطع مع المصادر الأسطوريّة، فتكون تلك التّقاطعات شهادة من القرآن بصدق تلك المعلومات الجزئيّة، لا شهادة للمجموع كما ظنّ المفسرون القدماء، وكذلك الشّأن بالنّسبة للحقائق التي يقطع بها البحث العلمي الحديث لا يمكن أن تتعارض مع القرآن، وأظهر مثال على ذلك جغرافيّة الأرض المباركة، وهي التي تسمّى أيضا جغرافيّة التّوراة، فقد تمّ القطع اليوم بأنّ أرض النّيل والشّام وفلسطين لم تجر فيها وقائع التّاريخ الإسرائيلي، وهذا ما أعلنه القرآن منذ نزوله إذ بيّن أنّ مقام إبراهيم كان بمكّة لا بفلسطين، ولكنّ الإسرائيليّات طمست على عقول المسلمين.
مقاصد القصص القرآني:
يقول تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى! وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف: 111]
أعظم قيد على العقول هي التّقاليد والمألوفات الموروثة، وأكثر الأحكام مجازفة هو القول: طبيعي، وعادي، ومنطقي، ومعقول، وذلك بناء من القائل على تلك التّقاليد والمألوفات، وهذا الذي جرأ أهل الضّلالة أن يصفوا الأنبياء والصّديقين بالمجانين، لأنّهم خالفوا (عقلا) ليس فيه من المعقوليّة إلاّ عادات ذهنيّة تشربتها النّفوس بفعل التّنشئة الاجتماعيّة، فإذا اختلفت المجتمعات ستختلف تلك العقول حتما، فهل يكون معنى ذلك أنّ الحقيقة ما أحقّته الجماعة؟ وهل الجماعة إلاّ كبراؤها وأقوياؤها؟ فيكونون هم صنّاع الحقّ، ويتحوّلون إلى أرباب للجماهير المستضعفة؟
أمّا أولو الألباب فلا تستخفّهم تلك الحماقات التي تنتحل اسم العقل والمنطق والمصلحة العليا، لأنّهم قرؤوا في القرآن تاريخا يحكي عن دورات استخلافيّة منذ خلق اللّه آدم، اصطنع فيها الماكرون الاختلاف اصطناعا، وتلاعبوا بالعقول حتّى صارت ترى ما لا وجود له من الأرباب، وتعمى عن الحقّ الظّاهر: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ، وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف: 105-106]
القرآن جاء ليؤسّس وعيا تاريخيّا متّقدا، يحتكم إلى موازين تستعصي على التّخصيص والاحتكار، ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ [الروم: 30]، وهي فطرة مؤيّدة بما فطر اللّه عليه السّماوات والأرض: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ! عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ! أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [الزمر: 46]
ولهذا كان أكثر من ثلث القرآن قصصا، والقصّ من اللّه تتبع يعطي حقيقة ما مرّت به البشريّة في مختلف أطوارها، وما عاشته من صراع بين الخير والشّر، ويفيد العِبر، وما العبرة إلاّ عبورا إلى الواقع من خلال أمثال كانت يوما ما واقعا، ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾ [محمد: 3]
والهداية التي يتشرّف بها المؤمن ما هي إلاّ ثمرة لحكم اللّه بين النّاس فيما اختلفوا فيه: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 213]
خاتمة
يمكن أن نقول أخيرا أنّ القصص القرآني هو تاريخ الاختلاف الذي وقع بين النّاس، تاريخ محكيٌّ دون افتراء على سبيل ضرب الأمثال، بحيث يحوّل وقائع صحيحة إلى نماذج دالّة على وجه الحقّ ووجه الباطل دلالة تؤسّس للعقل الكامل، ولهذا افتتح اللّه سورة يوسف، وهي نصّ تاريخي بامتياز، قائلا: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2]، وما كان يصحّ خطاب قوم لا يعقلون، ولكن عقلهم كان منقوصا، يجعلهم في تناقض مستمرّ كما قال تعالى فيهم: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ﴾ [الذاريات: 7-8]
وذلك التّاريخ هو الذي سنحاول أن نحكيه ابتداء من الحلقة القادمة بناء على المنهج الذي وصفناه في هذا المدخل على سبيل الإجمال، واللّه تعالى المستعان.
الهوامش
(1) الطبيعة من المفاهيم الموروثة عن فلسفة الميتافيزيقا الإغريقية، وهو مفهوم شديد الالتباس قال الدكتور عبد الرحمن بدوي: «هذا اللفظ مشترك المعاني غامض جدا، مما دعا بعض علماء الطبيعة في القرن السابع عشر إلى تجنب استعماله» . [موسوعة الفلسفة: 2/57 المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1984] وفي الفلسفة الغربية الحديثة تستعمل الطبيعة بمعنى المادة كما أفاد الدكتور عبد الوهاب المسيري [انظر كتابه الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان]
(2) انظر إدغار موران، النهج: إنسانية البشرية، ص: 45-46. ترجمة: د. هناء صبحي، ، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث (كلمة)، الطبعة الأولى 1430هـ- 2009م
(3)هذا ما أكده الفيلسوف الفرنسي لوسيان مالصون Lucien Malson في دراسته العلمية الهامة:
«Les enfants sauvages, Mythe et Réalité»; 1964 ; Union Générale D’éditions.
(4) مقدمة ابن خلدون: 1/251، ت: عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق ، ط 1/ 1425هـ-2004م
 (5) انظر عثمان مصباح: (العربية لسان الفطرة ولغة العالمين الأولى) ضمن أعمال المؤتمر العلمي الدولي الثاني حول اللغة العربية، من تنظيم المركز الأكاديمي للمؤتمرات والنشر العلمي ماليزيا، 24-25 مارس 2021
(6) في سنة 2012 نشرت مجلة (Le Point) الفرنسية مقالا بعنوان: (نحن جميعنا عرب)، لخص فيه الكاتب فريديريك ليفينو (Frédéric Lewino) نتائج دراسة علمية أمريكية حول الأنساب الجينية لأمم الأرض انتهت إلى نتيجة (صادمة) كما عبر الكاتب مفادها أن جميع الشعوب في كل القارات تتصل أنسابها بسكان الجزيرة العربية، باستثناء الإنسان الإفريقي القديم! وأن الانتشار البشري باتجاه باقي القارات انطلق من جزيرة العرب.