قبسات من الرسول

بقلم
الهادي بريك
من هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ ( قراءة في خلقه وخصائصه وسيرته ) الحلقة السّادسة : أمّيته معجزته
 لم يرد مفهوم الإعجاز بمعناه المتأخّر لا في القرآن ولا في الحديث. إنّما إخترعه النّاس دلالة على ما به يؤمن الإنسان عندما يدعوه نبيّ إلى عقيدة التّوحيد. يستخدم القرآن الكريم دلالة على مفهوم الإعجاز كلمة آية بالإفراد أو آيات جمعا. وهي العلامة ـ الأمارة ـ التي يبثّها سبحانه حاملة البرهان على صدقيّة ذلك النّبيّ أو هذا الكتاب. حتّى عندما دعاهم إلى الإتيان بشيء مثل القرآن الكريم لم يستخدم صيغة الإعجاز. لكنّه أثبت الكلمة في سياقات أخرى من مثل قوله ﴿وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ﴾ أو إخباره عن نفسه سبحانه أنّه لا يعجزه شيء في السّماوات ولا في الأرض. وبمثل ذلك لم يستخدم ﷺ هذه الصّيغة حتّى عندما آن أوانه في حديثه الذي رواه أبو هريرة: «ما من نبيّ إلاّ وقد أعطي من الآيات ما عليه آمن البشر إلاّ أنّي أوتيت وحيا أوحى به اللّه إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة». وإذ لا مشاحّة في المصطلح، فإنّ النّاس إستحدثوا كلمات جديدة منها كلمة معجزة بدل آية ومنها كلمة عقيدة بدل الإيمان وغير ذلك. ولكن يظلّ الإستخدام القرآنيّ أولى مبنى ومعنى معا.
قيمة الآية في الهداية
معلوم أنّ سنّة اللّه سبحانه جرت على الإتيان بآيات مادّية قاهرة للعقل ـ فوق عقليّة بالتّعبير المعاصر ـ تعزّر النّبيّ في سالف الزّمان من مثل ما جاء عن ناقة صالح عليه السّلام وأدوية عيسى عليه السّلام وغير ذلك. عدا أنّ ذلك إنقطع بالرّسالة الإسلاميّة الأخيرة التي جاءت بآية واحدة كفيلة بالهداية وعليها مدار الإيمان والكفر وهي القرآن الكريم. وهي نقلة نوعيّة عظمى في معالجة الوحي لهذه القضيّة. يردّ النّاس ذلك إلى تأهّل العقل البشريّ لإستقبال ذلك. ولكنّي متردّد فيه سيما إذا إقتصر عليه ولا مناص من ترك الخوض فيه الآن بسبب خروجه عن أمّ حديثنا. تكمن قيمة الآية ـ سواء كانت مادّية في الخاليات أم فكريّة في الحاضرات ـ في إظهار رحمة اللّه سبحانه بالبشر. فهو لا يرسل إليهم رسولا من أنفسهم فحسب ليكون منهم ليس بدعا فيهم ولكن يعزّره ببرهان ـ عقليّ أو فوق عقليّ ـ ييسّر لهم الإيمان. ومن شأن الإنسان ـ فطرة ـ أن تشرئبّ نفسه إلى المعجزات المادّية الخارقات. وهو دأب أكثر المسلمين اليوم في عصور التّقهقر حتّى وهم بين أيديهم آية الآيات الباهرات الباقيّات أي القرآن الكريم. ومن ذا فإنّ تلك القيمة تكمن في تيسير اللّه سبحانه على النّاس في أوّل الخليقة قضيّة الإيمان ويستجيب لما جبلهم عليه أي طفولتهم البشريّة المشرئبّة لآية مادّية قاهرة قال عنها سبحانه:﴿إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾(1). ومن جانب البشر أنفسهم، فإنّ من حقّهم على كلّ نبيّ أن يأتي ببرهان ساطع على رسوليته إذ لو جعل الأمر عفوا من ذلك لظهر في كلّ قوم نبيّ يدّعي الرّسالة ومثله في كلّ عصر ومصر. الآية هي إذن تقوم مقام الوديعة الذّهبيّة التي تصدّق قيمة العملة الجارية السّائلة في الأسواق بين النّاس أو مقام الخاتم الذي يختم به الملوك ومن مثلهم كتبهم لتكون معبّرة عنهم ناطقة بإسمهم تجنّبا لكلّ تزييف.
أمّيته عليه السّلام جزء من آيات نبوّته
أمّيته ـ بمعنى عدم القراءة والكتابة ـ ثابتة بالكتاب العزيز نفسه ثبوتا قطعيّا لا يجادل فيه عدا جاهل. قال سبحانه:﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ﴾(2). كما أكّد هذا المعنى ذاته في قوله: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾(3). ولم يكتف بإثبات أمّيته إنّما ساق علّتها إذ قال سبحانه في الآية السّالفة ذاتها ﴿إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾. وهذا هو معنى أنّ أمّيته كانت برعاية إلهيّة وتدبير سماويّ لأجل ألاّ يرتاب المبطلون فيقولون أنّ هذا الرّجل هو الذي يكتب هذا القرآن الكريم وليس ذلك بمستحيل عنه لأنّه غير أمّيّ. فأمّيته إذن ﷺ جزء من آيات صدقه وأنّ الكتاب الذي جاء به تنزيل من ربّ العالمين وأنّه مبلّغ إيّاه فحسب وأنّ كلّ ذلك تيسير من اللّه سبحانه للنّاس أن يؤمنوا. فكما يسّر للأوّلين الإيمان بآيات مادّية مناسبة لوضعهم الحضاريّ يسّر سبحانه للآخرين ـ ونحن منهم ـ ذلك بأن جعل نبيّه محمّدا ﷺ أمّيا أمّية كاملة. فلا مجال إذن للطّعن أنّه هو من يكتب الكتاب أو يخطّه بيمينه. ولم تكن أمّيته ﷺ بدعا إذ أنّ أكثر العرب أمّيون بالكامل حتّى  قال ﷺ «إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولَا نَحْسُبُ»(4). وذلك عندما أراد بيان عدد أيّام الشّهر القمريّ وتردّده بين ثلاثين ودونها بيوم واحد. أمّيته إذن ليست نقيصة فيه لأجلها يهرع المذبذبون من شباب التديّن اليوم إلى إختراع أساطير تخرج معنى الأمّية من سياقها اللّغويّ والشّرعيّ والعرفيّ. إذ أنّ هؤلاء وقعوا ـ دون وعي منهم ـ تحت محرقات القصف الغربيّ التي تتكبّر بالعلوم والمعارف وتستنكر أن يكون النبيّ أمّيّا. والحال أنّ مفجّري تلك المحرقات لا يؤمنون بالغيب أصلا. إنّما أمّيته لبّت غرضين كبيرين:غرض مناسبة أن يكون النّبيّ من أنفسهم ومنهم. أي بلسانهم ومن رحم واقعهم، ولو كان غير أمّيّ لأستنكروا عليه ذلك. ومعهم كلّ الحقّ لأنّ العرب في جماعها الغالب أمّة أمّية. وعندها يتسلّل إليهم أنّ هناك من شياطين الإنس أو الجنّ من يعلّمه. فهو إذن منهم لسانا وتربة ونسبا وملبسا وكلّ شيء. وهذا أدعى إلى تصديقهم لولا الكبر الذي ملأ حناجر أفئدتهم. الغرض الثّاني هو رحمة اللّه سبحانه بهم وبالنّاس أجمعين، إذ أعفاهم من التّفكير في عدم أمّيته ﷺ وما ينسلّ منها من أنّه هو كاتب الكتاب أو من يخطّه. أمّيته إذن أمارة صدقه وعلامة نبوّته لمن ألقى السّمع وهو شهيد. 
آيات أخرى أهملها المسلمون وتعلّقوا بالواهيات
من خلاصات حياتي التي أموت عليها إن شاء اللّه أنّ أوفى منهاج عقليّ ينحت شخصيّة الإنسان هو تحكيم القرآن الكريم أوّلا أي قبل السّنّة ذاتها والسّيرة وما عليه الصّحابة. على فضل صاحب السّنّة المبيّنة للقرآن الكريم نفسه وفضل صحابته الكرام. ولكنّ القضية منهاجية وليست غير منهاجية. من ذلك أنّ كثيرا من المسلمين لجؤوا إلى ما ثبت وما لم يثبت من المعجزات المادية التي أجراها سبحانه على يديه في أوقات قليلة ومتقطّعة إثباتا لنبوّته غافلين عمّا ورد في القرآن الكريم نفسه. ولكنّ هذه العاهة المنهاجية لم ينج منها إلاّ قليل من قليل وخاصّة في أعصارنا وأمصارنا الحاضرة. من تلك الآيات التي جاء بها القرآن الكريم دلالة على نبوّته ـ من بعد أمّيته ـ وهي من صميم الآية العظمى المطلقة الوحيدة على صدقيته ﷺ : عدم التكلّف. وذلك فيما ورد في قوله سبحانه على لسانه: ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾(5). وقبل المضيّ لا  بدّ من العلم بأنّ أكثر الآيات الدّالة على نبوّته في الكتاب العزيز إنّما وردت في القرآن المكيّ كما يقال. أي قبل أن تنشأ ناشئة النّفاق مدجّجا من قوافل بني إسرائيل ومن إمتداداتها المعاصرة حركة الإستشراق التي إدّعت أنّه ﷺ كان يستشرف الوحي وردّ اللّه عليهم سبحانه بقوله: ﴿وَمَا كُنتَ تَرْجُوٓاْ أَن يُلْقَىٰٓ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ﴾(6). 
نفي التّكلّف فسّره بعض السّابقين أنّه لزوم التّنزيل فلا يأتي بتنزيل من عنده. ولا أرى قصر هذا عليه. إذ أنّ التّكلّف ـ لسانا ـ يعني تصنّع الشّيء زيادة فيه أو نقصانا منه. وهو من الكلف وهو كثرة الشّغف بالشّيء والوله به كمن كلّف بفتاة لجمالها أو بصنعة يخرجها للنّاس. وصيغة (التّفعّل) تعني زيادة من الفاعل. ومن ذا يكون التّكلّف دينا التّعمّق فيه على وجه ينفي عنه بساطته ويسره وسهولته وتلقائيته. وهي الآفة التي ظهرت باكرا في عهد النّبوّة نفسها ثمّ إزدهرت على أيدي الخوارج والغلاة من كلّ مذهب ومدرسة. 
ما يدفعني إلى هذا المفهوم (الجديد) للتّكلّف هو سياقه الذي جاء فيه قوله ﴿ قُلْ مَآ أَسْـَٔلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾(7) وهذا يعني أنّ من يسأل النّاس أجرا فهو يجوّد لهم بضاعتهم كما يشاؤون هم فهو على ذمّتهم يصنع لهم دينا في حالة النّبوّة يعجبهم ويمسح على شغاف أهوائهم. ومن ذا نفي عنه سبحانه الأجر من الناس ـ حتّى حقّه في الإرث من عصبته بل حتّى الصّدقة إلاّ الهدية ـ حتّى لا يكون ذلك حقّا لهم عليه يبتزّونه به ليتكلّف لهم دينا أو تدينا يرضيهم. ولا ريب أنّ المعنى الذي أشار إليه الأوّلون صحيح عندما يكون تكلّفا بهذا المفهوم ليس قاصرا عليه. العبرة من هذه الآية ـ عدم التّكلّف ـ هي بساطة الدّين ويسر تكاليفه وإنسجامها مع فطرة البشر. وهي من أكبر الآيات التي عليها آمن غربيّون كثيرون ومازالوا بحوله سبحانه. 
وعندما يبعث نبيّ يلقى من قومه الذي يلقى وهو يهديهم بإذن اللّه ولا يسألهم عن ذلك أجرا ولو كان بمقدار حبّة خردل وهو يمشي بينهم خاوي البطن ولا يتكلّف لهم دينا يرهقهم، فإنّ ذلك أقمن بالإستجابة وأدعى إليها وأجدر أن ينداح دين هذه طبيعته وهذه طبيعة نبيّه. ولكنّ الكبر للنّاس بالمرصاد. ومن تلك الآيات كذلك أنّه ﷺ ـ ككلّ من سبقه ـ مكلّف بتكاليف الدّين نفسه. بل هو أثقلهم حملا. إذ هو يقوم اللّيل وجوبا لا نافلة إختياريّة. وهو أقلّهم نصيبا من الدّنيا. إذ لا يرث من عصبته كما تفعل البشريّة كلّها جمعاء قاطبة. ولا يمدّ يده لصدقة ولا يورث كذلك. 
النّبوّة مفارقة للملك. إذ الملك له ما ليس للنّاس وعليه ما ليس عليهم. أمّا النّبيّ فهو أثقل النّاس حملا وعبادة وتكاليف وأقلّهم من حظّ الدّنيا. تلك آية أخرى من آيات نبوّته ﷺ ممّا أهمل المسلمون فلا تجد فيها لا متحدّثا ولا كاتبا إلاّ قليلا في حين أنّ المحتفين بمعجزات مادّية قليلة جاءت لتلبية أوضاع خاصّة كثيرون لا يكادون يحصون. أيّ الآيات أولى بالإحتفاء؟ وآيات أخرى يضيق عنها هذا الحديث وقد نعالجها بإذنه سبحانه فيما يأتي.
 معجزته العظمى الوحيدة الباقية: القرآن الكريم
إنعقد الإجماع على أنّ آية الإسلام ونبيّه محمّد ﷺ إنّما هي القرآن الكريم لقوله الذي ورد قبل قليل في أوّل سورة الشّعراء المكية. وهو الدّليل الأعظم الذي لا يقهر ولا يتسلّل إليه أيّ إحتمال أنّ اللّه ما شاء ـ ولو شاء لفعل ـ أن تكون آية نبيّه الخاتم ﷺ آية مادّية تظلّ الأعناق لها خاضعة كما وقع للسّالفين. وكان البديل عن ذلك ما جاء في حديثه الصّحيح عن أبي هريرة ممّا سلف في هذه المعالجة. وهو الذي يؤكّد ما أكّده القرآن الكريم نفسه أنّ النّبوّات السّالفة جاءت بآيات عليها آمن النّاس. إنّما كانت آيته هو وحيا أوحي إليه به. وعلّل ذلك ﷺ بأنّ ذلك أدعى إلى إيمان النّاس. ولذلك قال: «أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة». هذا دليل على أنّ الإنسان كائن عاقل حرّ يقاد من عقله ويقود هو نفسه غيره من عقله وليس دابّة تقاد من عنقها أو من رجلها. 
وكما تقدّم فإنّ المسلمين في أزمنة تأخّرهم وعهود تقهقرهم لجؤوا إلى ظنيّ الثّبوت أي الحديث ـ وهو هنا آحاد ـ ليبرهنوا على نبوّة محمّد ﷺ. بل زاغوا في ذلك زيغانا كبيرا وتاهوا تيهانا أكثر إذ جعلوا منه نبيّا للبهيمة يكلّمها وتكلّمه وتؤمن به وكلّ هذا تهافت يجـري على غير منهاج القرآن الكريـم. وحتّى لو ثبت شيء من ذلك ـ وبعضه ثابت ولكنّه قليل ـ فإنّه ليس من ضرب الآية النّبوية التي عليها مدار الإيمان والكفر. إنّما جاء ذلك تلبية لضرورات معيشيّة من مثل تكثير الطّعام والشّراب لجيش نفدت مؤونته أو تلبية لحاجات عقول أعرابيّة جلفة غليظة إستبدّت بها مادّية الأعراب الكئيبة، فكان لا مناص من خطابها بخطاب مادّي مثلها، فإنبجس الماء العذب رقراقا عذبا صافيا من بين أنامله الكريمـة ﷺ أو حنّ الجذع إليه وقد هجره بعد أن إتخذه خطيبا يخطب إلى جنبه. وكيف ننكر عل الجذع حنينه إلى كلام اللّه سبحانه وهو آية منه هو نفسه؟ وكيف نتّخذ ذلك براهين عامّة على نبوّته والحال أنّ من شهد ذلك من النّاس قليل من قليل بل لا يكادون يعدّون على أصابع اليد الواحدة وجاء آحادا. إذ لو كان مقصد ذلك الهداية لشهدها كلّ النّاس ولا يكفي أن يرويها بعضهم لبعض. ولكنّه التّهافت المنهاجيّ عندما يستبدّ بالعقول ليرتدّ بها إلى الآيات المادّية الأولى. 
لم يكن هذا غرضي من هذه الفقرة الجديدة. إنّما غرضي هو أنّ المسلمين ـ غابرا وحاضرا كذلك ـ لم يكن يعنيهم من آية القرآن الكريم عدا جانبها اللّسانيّ اللّغويّ الذي تنافس فيه العرب الأقحاح قديما وجديدا تنافسا مهمّا وكان عطاؤهم فيه جزيلا وافيا. ومن يدرس ما حبّر العلامة إبن عاشور مثلا ومن قبله الزّمخشريّ وإبن عطية وغيرهم كثيرون لا يكادون يحصون يقف على روعة البناء النّظميّ للقرآن الكريم ومثلهم كذلك ظلال سيّد قطب عليهم الرّحمة جميعا. 
المحرج لنا اليوم ونحن نعالج تحدّيات أكبر وأكثر وأعظم هو أنّ تراثنا الغابر والحاضر قصر فقهه ومعالجاته على هذا الضّرب من الآيات أي التّحدّي النّظميّ. المطلوب منّا اليوم هو الإحتفاظ بما حبّره السّابقون إعجازا لسانيا بزّ العرب الأقحاح أنفسهم ويكبّتهم تكبيتا وتجاوزه إلى بناء تحدّيات جديدة يحتاجها النّاس في عصرنا. وربّما على رأس ذلك التّشريع في جملته وخاصّة فيما إرتبك فيه النّاس والمسلمون منهم أي التّشريع الأسريّ في ظلّ هجمات منظّمة الأمم المتحدة نفسها على (الإسلام العائليّ وتشريعاته الخاصّة بالمرأة) ومنها كذلك موضوع الدّولة والحكم تأسيسا وعلاجا وإدارة في ظلّ تبعيّة أمّتنا كلّها وبأسرها تقريبا إلى دوائر دوليّة نافذة تستعبدنا بالدّولار واليورو والينّ والجنيه وغيرها إستعبادا أنكى من الإستعباد التقليديّ السّالف. ولا حاجة لي الآن في عدّ التّحديّات المعاصرة التي علينا مقاومتها بآية الإسلام العظمى والوحيدة أي القرآن الكريم. ولكنّ الحاجة هي في بيان أنّ الآية البلاغية التي جاء بها القرآن الكريم قد وفّاها السّابقون حقّها وزيادة حتّى وقر في قلوب أكثر المسلمين اليوم أنّ آية القرآن الكريم الوحيدة هي لسانه وبيانه ونظمه. وهذا ظلم كبير. إذ أنّه آية خاتمة قابلة لمقاومة كلّ حيف وقهر وتحدّ جديد ولكن بشرط أن يكون المسلمون معاصرين لزمانهم ومكانهم وواعين بقضاياهم العظمى وبخصومهم وبأسلحتهم. وليس مسلمين فوّتوا في عقولهم التي بها يتدبّرون لغيرهم سواء كان غيرهم هذا سلفا مضى بعد أن أدّى ما عليه أو خلفا حضر فهو يغويهم ويغريهم ويسحرهم برجله وخيله
قراءتنا العوجاء لأمّيته عليه السّلام
من مفارقات الزّمن النكدة أن تكون أمّيته ﷺ جزءا من آيات نبوّته ورسالته وعليها مدار الإيمان ثمّ ينزلق بنا الأمر حتّى تكون أمّتنا شبه أمّية بالكامل أمّية حقيقيّة فضلا عن الأمّية الحضاريّة. أيّ مفارقة أن يكون نبيّ الأمّة أمّيّا رحمة بها لتؤمن بيسر ثمّ ترث أمّته اليوم في زمن تبرّج العلوم وإزدهار المعارف أمّيّة نالت منها ثلاثة أرباع. إذ أحصت الأمم المتحدة منذ سنوات طويلات أنّ ثلاثة أرباع الأمّة الإسلاميّة أمّيون أمّية حقيقيّة بالكامل فلا قراءة ولا كتابة. والأنكى من ذلك كلّه أنّ الأمّة العربية نفسها  ـ التي عليها مدار بثّ الإسلام الذي نزل بلسانها ـ حظّها من هذا الوباء القاتل والسمّ الزّعاف زهاء 45 %. تلك قراءتنا العوجاء لأمّيته ﷺ وناكية النّاكيات أن بعض شباب التّدين الجديد يؤصّلون ذلك بقوله آنف الذّكر أنّنا أمّة أمّية. إن كان ضحكا فهو أنكى من البكاء. أنّى لأمّة عليها مناط هداية البشريّة التّائهة أن تقود الإنسانيّة إلى مصافّ النّهضة والتّقدّم والخير والعلوم والمعارف وثلاثة أرباعها أمّيون؟ أيّ قيمة لتلاوتنا سورة العلق وسورة القلم وغيرهما وهما يعدّان العلم بوصلة كلّ خير وعلامة كلّ تقدّم؟ كيف نبتهج بحناجر ذات أصوات أجمل من الجمال بل هي تصنع الجمال ترتّل آيات العلم والمعرفة والقلم ونحن أمّيون بالكامل قراءة وكتابة في أغلبنا؟ أليس هذا معنى أنّ الدين مخدّر للشّعوب؟ أليس هذا هو الذي جعل الغرب الفلسفيّ يفتكّ منّا ومازال يفعل خيرة شبابنا ونسائنا؟ هذا ليس للعويل والبكائيات الكربلائية السّاخطة. إنّما هذا لنعي أنّ خطبنا جلل جلل لعلّنا نرتدّ إلى آيتنا الوحيدة أي القرآن الكريم به نعيد نحت عقولنا ورسم صورتنا وعلى الله وحده سبحانه الهداية إلى الصّراط المستقيم.