فلسطين بوصلتنا

بقلم
هبيري محمد أمين
تحرير القدس أو في أسباب زوال الكيان الصّهيوني
 لو أراد أئمّة المنابر أن يشحنوا همم المصلّين في خطبهم الجمعيّة حول القضيّة الفلسطينيّة لأعادوا التّذكير برمزيّة القدس التّاريخيّة بما هي أولى القبلتين وثالث الحرمين، ولذكّروا برمزيّتها السّياسيّة عبر جعلها معيارا يدلّ على حالة الأمّة الإسلاميّة. فالقدس تعبّر اليوم عن حالة الضّعف والهوان التي تعاني منها الأمّة الإسلاميّة. كما يمكنكهم تجييش العواطف عبر الدّعوة إلى إقامة نظام الإسلام الذي يؤدّي إلى تطبيق العدل داخل النّظام العالمي (العدل الذي تصحبه القوّة فتكون بذلك قوّة عادلة) 
لقد تمكّن المسلمون من فتح بيت المقدس وهو الوعد الأول للمسلمين الذي جاء في النصّ القرآني(1)، أمّا الوعد الأخير، فهي تمكين المسلمين من استرجاع السّيادة على بيت المقدس، ولا يكون ذلك إلاّ من خلال الإعداد المسبق لتحقيق القوّة المادّية (الاقتصاديّة) والعسكريّة (رباط الخيل). والعلّة أنّ عامة المسلمين وخاصّتهم اليوم، حين ما يتحدّثون عن نصر اللّه واسترجاع القدس، فإنّهم يقرّون بأنّه وعد اللّه (قراءة ميتولوجيّة) إلّا أنّهم لا يسعون في الأرض من أجل تحقيق ذلك الوعد لهم كما وعد اللّه بني إسرائيل من قبل بالنّصر والتّمكين بمجرّد الدّخول. 
ربّما تكون الكرّة الثّانية قريبة وذلك لأسباب متنوّعة ومتعدّدة إلاّ أنّ الوضع لن يتغيّر إن استمرّت حالة الخمول والكسل الذي تعيشه الأمّة في هذا العصر. وللإشارة فإنّ مدّة أربعين سنة(2) تمثّل المدّة الطّبيعيّة لبناء جيل جديد قادر على حمل راية التّغيير والدّفاع عن القضايا التّاريخيّة. وقد حرّمت الأرض المقدّسة كما أسلفنا الذّكر أربعين سنة على بني اسرائيل، في المقابل لا تزال القدس محرّمة علينا لأكثر من سبعين سنة، ولن نحلم يوما باستردادها ونحن بنفس عقلية الخذلان والكسل، فذلك يتناقض ومفهوم الأخذ بالأسباب. 
لن نتناول في تحليل أسباب زوال الكيان الصّهيوني العرض الدّيني القائم على الحتميّة التّاريخيّة بل سنركز على المعطيات التّاريخيّة في بعدها السّياسي (الجزء الأول) وعلى المعطيات الجغرافيّة في بعدها الاقتصادي (الجزء الثّاني) حتّى يكون في المقال جانب من المصداقيّة العلميّة.
الجزء الأول: أسباب تاريخيّة
يمكن تقسيم الجزء الأول والمتعلّق بالأسباب التّاريخيّة إلى عنصرين؛ في السّياسة الدّاخلية (العنصر الأول) وفي السّياسة الخارجيّة (العنصر الثّاني)
العنصر الأول: في السّياسة الدّاخليّة
لاحظ ابن خلدون أنّ الدّول تمرّ بعدّة تطوّرات من ناحيتين: الأولى الأحوال العامّة من السّياسة والاقتصاد والعمران والأخلاق، والثانية، التّطورات التي تحدث من ناحية العظمة والقوّة والاتساع. وقد ربط ابن خلدون أطوار الدّولة بثلاثة أجيال فقط، فالجيل الأول يقوم بعمليّة البناء والعناية، والجيل الثّاني يسير على خطى الجيل الأول من التّقليد وعدم الحيد، أمّا الجيل الأخير فيمكن تسميته بالجيل الهادم، «فالدّولة لها أعمار طبيعيّة كما للأشخاص»، على حدّ تعبيره.
والمتدبّر في السّياق التّاريخي نلاحظ وجود تسارع للأحداث في المشهد السّياسي الإسرائيلي. فالجيل الأول بقيادة بن غريون وتأسيس أركان كيان غاصب. وأمّا الثّاني فقد ارتخت القيادة الإسرائيليّة بعد حرب أكتوبر 1973 فأصبحت النّخبة تتناقش في قضايا التّرف ما أدّى إلى فساد القيادة الحاكمة. واليوم يعاني الكيان الصّهيوني من أزمة بنيويّة وسياسيّة حادّة على مدار عامين، جرت خلالهما أربع انتخابات برلمانيّة دون أن تتمكّن الأحزاب من تشكيل حكومة سياسيّة. أمّا على المستوى الأخلاقي، فنجد أن زعيم حزب اللّيكود اليميني المتطرّف بنيامين نتنياهو تُلاحقه قضايا فساد، إضافة لذلك نجد تراجع أداء الجهاز القضائي عبر تغوّل الأحزاب الدّينيّة فيها (قضاء غير مستقل). كما أنّ الأزمة الصّحيّة والاقتصاديّة بسبب جائحة كورونا فاقمت الأزمة.
العنصر الثاني: في السّياسة الخارجيّة
أدت شعبويّة الرّئيس الأمريكي السّابق ترامب عبر اتخاذه قرارات سياسيّة متطرّفة (كنقل السّفارة الإسرائيليّة للقدس) إلى بعثرة أوراق منطقة الشّرق الأوسط وتصاعد الاحتقان الشّعبي العربي على هذه السّياسات ممّا ولّد إعادة استحضار القضيّة الفلسطينيّة في الوعي الجمعي العربي.
كما أنّ رحيل إدارة الرّئيس الأمريكي السّابق دونالد ترامب، وممارسات الاحتلال من قتل للأبرياء وأسر للنّشطاء وهدم للأبراج الإعلاميّة خلال الحرب الأخيرة على غزّة، كلّ هذه العوامل لعبت دوراً مهمّاً في زيادة التّصدعات داخل إسرائيل من جهة وانهيار للسّرديّة الصّهيونيّة لدى نخبة واسعة من المجتمع الغربي من جهة أخرى نتج عنه إعادة بناء وعي جديد قوامه التّحوّل من صورة الضّحيّة للقيادة الإسرائيليّة إلى صورة المعتدي والمغتصب للأرض والسّارق للممتلكات.
هناك أحداث تاريخيّة كبرى ساهمت في تشكلّ النّظم الدّوليّة لعلّ أبرزها الحروب التي لها تأثير مباشر وقصري على السّاحة العالميّة وكذلك الأوبئة، التي لها تأثير أعمق على المدى الطّويل، ممّا يؤثّر في الاتجاهات والتّيارات المتحكّمة بعدها. ولعلّنا نلاحظ كيف أظهر وباء «كورونا» تراجع العولمة أي تراجع النّفوذ الأمريكي. وفي المقابل نلاحظ صعود الشّرق الأقصى (الصّين) عبر نفوذها الاقتصادي العالمي المتمثّل في طريق الحرير عبر بنية اقتصاديّة عالميّة تربط القارّات الثلاث وهي عولمة جديدة بطابع اقتصادي صرف (طغيان المادّة على الرّوح). هذه التحوّلات ستؤدّي إلى بروز قطبيّة عالميّة مرنة (أمريكا والصّين) مع غياب الإيديولوجيا، ممّا يجعل العالم يدخل في «عصر كورونا» دون قيم، وهو ما سيؤثّر على الاهتمام الأمريكي بإسرائيل تأثيرا يجعل من أمريكا حليفة للعرب ومخاصمة لإسرائيل بسبب الصّين.
الجزء الثّاني: أسباب جغرافيّة
يمكن تقسيم الجزء الثّاني والمتعلّق بالأسباب الجغرافية إلى عنصرين؛ نهاية البترول (العنصر الأول) ونهاية السّكان (العنصر الثّاني)
العنصر الأول: نهاية البترول
تكمن أهمّية الشّرق الأوسط من النّاحية الجيوسياسيّة في مادّة النّفط التي تمّ اكتشافها منذ منتصف القرن التّاسـع عشر، وقد ساهم هذا الاكتشاف في اندلاع الثّورة الصّناعيّة والتقدّم الصّناعي في القطاعات المختلفــة. ولأهمّية هذه المــادّة في السّياسة العالميّة تعمل القوى العالميّة الكبرى (أمريكا، الصّين، أوروبا، ..) على استقطاب البلدان التي تنتج هذه المادّة الرّئيسيّة في العمليّة الاقتصاديّة داخل المنظومة العالميّة والهيمنة عليها.
لكنّ جائحة «كورونا» أظهرت محدوديّة النّفط كمصدر رئيسي للطّاقة في العالم، ما يؤدّي إلى ابتعاد اقتصادات العالم أكثر فأكثر عن الوقود الأحفوري، وهو مؤشّر على أنّ النّفط سيظلّ رخيصا في المستقبل المنظور. كما أنّ الاضطراب في أسواق النّفط ليس مجرد سحابة عابرة بل هو مؤشّر على ما سيكون عليه المستقبل، حيث دخل العالم مرحلة جديدة تتّسم بانخفاض الأسعار، ستكون دول الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا الأكثر تضرّرا منها(3) .
يعلم الجميع أنّ النّفط ينتج طاقة غير متجدّدة، فهو إلى زوال مع آخر قطرة نفط في العالم، ولعلّ نهاية عصر النّفط باتت وشيكة، ممّا سيؤدي إلى عدم اكتراث الغرب بالسّرطان المزروع في جغرافيا العرب منذ سنة 1948 والتوجّه إلى تكوين تحالفات جديدة حفاظا على مصالحه في المنطقة. 
العنصر الثّاني: نهاية السّكان
يلعب العامل الدّيمغرافي عاملا هامّا في ازدهار الدّول أو اندثارها. والمتدبّر في الوضعيّة الحاليّة للنّمو الدّيمغرافي في فلسطين يكتشف أنّ النّمو السّكاني يلعب لصالح الفلسطينيّين على حساب الإسرائيليّين وذلك لسببين على الأقل؛
- أمّا الأول فهو أنّ الإنجاب لدى الفلسطينيّين يعتبر من الأولويّات؛ فقد ابتكر الأسرى الفلسطينيّون في السّجون الإسرائيليّة وخاصّة منهم المحكومين لمدّة طويلة طريقة لإنجاب أطفال لهم وذلك من خلال تهريب السّائل المنوي أو ما يُعرف بالنّطفة المهرَّبة التي يتمّ تلقيحها في زوجة الأسير بإشراف أحد مراكز الإخصاب الموجودة داخل قطاع غزّة.
- أمّا الثّاني فهو أنّ الإسرائيليّين لا يتوالدون بكثرة لكونهم مجتمع ليبيرالي لا يعيرون اهتماما كبيرا بموضوع الإنجاب، كما لا يمكن أن يتحصّل أي فرد على الجنسيّة الإسرائيليّة أو حتّى أن يكون يهوديّا فقط إلّا بتوفّر شرط أن تكون الأم يهوديّة (الانغلاق على الذّات)، في حين أنّ الدّيانتين الرئيسيّتين في المجتمع الفلسطيني(الإسلام والمسيحيّة) منفتحتان على الجميع وذلك من خلال عمليّة الدّعوة في الإسلام والتّبشير في المسيحيّة.
هذه العوامل أدّت إلى وجود فارق شاسع بين النّمو الدّيمغرافي لدى الفلسطينيّين والإسرائيليّين بأغلبيّة فلسطينيّة كبيرة.
إنّ نهاية عصر البترول وصعود نجم الطّاقات المتجدّدة، عوامل جغرافيّة تنبئ بزوال الكيان الصّهيوني لكونه كيان استيطاني، لا يسعى إلى استغلال العامل الدّيمغرافي الموجود في المستعمرة بل يتجاوزه إلى طرد السّكان الأصليين في المستوطنة.
الهوامش
(1) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا (سورة الإسراء، الآية 5)
(2) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (سورة المائدة، الآية 26)
(3) مجلة ذي إيكونوميست