نفحات

بقلم
عبدالحق معزوز
واحدية الخالق ووحدة الخلق
 إنّ الكون كلّه مخلوق صادر عن إرادة واحدة هي إرادة اللّه الواحد القهّار، فبعد أن لم يكن شيئا مذكورا صار خلقا واحدا لخالق واحد؛ قال تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾[البقرة: 117] . وهي الحقيقة التي أخبر عنها القرآن الكريم في أوّل وحيه إلى خاتم رسله حيث قال جلّ جلاله:﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[العلق: 1]، فأخبر أنّ «أصل الموجودات كلّها واحد وهو الخلق الإلهي»(1) وقد دلّ النّصّ القرآني بما هو أصرح وأوضح دلالة ناصعة على واحديّة الخالق جلّ في علاه في قوله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ [الرعد: 16] . «فالعالم ككل يعود في وجوده إلى اللّه وحده بعد أن كان في طيّ العدم، وما من موجود يوجد على مرّ الدّهر إلاّ واللّه هو المبدئ له، وليس ما يبدو من تتابع سببي في سلسلة الخلق إلاّ ناموسا إلهيّا ترجع فيه تلك السّلسلة إلى الخالق الحقيقي»(2). وواحديّة الخالق هذه تتجلّى أبعادها في وحدانيّة الإنشاء والإبداع، فالعالم؛ علويه وسفليه باعتباره أشياء، مرجعه ومرده إلى اللّه وحده، تشهد كلّ ذرّة فيه ونواة به على خالقيّة اللّه سبحانه، وتشهد وحدة أجزائه، وترابط أركانه، وتناسق بنيانه على حكمة الرّبّ وعظمته ووحدانيته، قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾[الأنبياء: 22]
وقد كان هذا العالم بكلمة كن كما أراده اللّه سبحانه: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾[النحل: 40]. وقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ، فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[يس: 82-83]. وهذا يدلّنا على حقيقة الوحدة في منشأ الكون، ووحدة الإرادة الإلهيّة الخالقة، ووحدة النّظم والنّواميس التي يجري عليها هذا الكون، ووحدة المصير. 
فالنّظام الكوني يشهد بوجوب الإقرار بوجود الخالق البارئ المصوّر، وبوحدانيّة الواحد القاهر المدبّر، لما فيه من دقّة ترتيب، ووحدة تنسيق، ونظام سائق، وتصريف سابق، يخضع فيه الكلّ لسنن متكاملة متناسقة محكمة موحّدة. 
وكلُّ هذا العالم الواسع البديع: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [النمل: 88]، والذي خلقه هو نفسه الذي خلق الإنسان وسوَّاه ونفخ فيه من روحه. فالإنسان والكون المحيط به صادران عن الإله الواحد الأحد، مخلوقان له، مرتبطان في وجودهما بوحدة الربّ الخالق جلّ في علاه، وبذلك تتحدّد العلاقة بينهما وهي علاقة المخلوقيّة الواحدة والوجود الأصلي الواحد، وقد أومأ القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة، والخصيصة الوجوديّة الجامعة بينهما بدلالة الاقتران بين خلق الإنسان والكون في مواطن من محكم التّنزيل، ومن أمثلة ذلك قول اللّه عزّ وجلّ:﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ  تَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ، خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ، وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ﴾[النحل: 3-5]. فأخبر بخلق السّماوات والأرض، وأعقب ذلك بالحديث عن خلق الإنسان، ثمّ صار إلى تعداد بعض مخلوقاته المترامية في هذا العالم المنظور، والكتاب المنشور، لتكون دلائل لهذا الإنسان تدلّه على اللّه وترشده إلى ما يلزمه من امتثال أمره، واتباع وحيه ولزوم شرعه، وتسخير كونه فيما فيه نفعه وصلاحه، وتيسير معاشه وارتقائه. ويتكرّر هذا المنهج القرآني في الرّبط بين خلق الإنسان وبسط الأكوان في آيات أخر كما في سورة الحجّ حيث قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾[الحج: 5] . فبعد أن عرض الله عز وجل خلق الإنسان من تراب وأبان عن أصله ومنشئه، استطرد إلى عرض مشاهد الخلق والإحياء في الأرض والنبات: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾[الحج: 5]. «وهكذا يتحدث القرآن عن القرابة بين أبناء الحياة جميعا، فيسلكهم في آية واحدة من آياته، إنها للفتة عجيبة إلى هذه القرابة الوثيقة، وإنها الدليل على وحدة عنصر الحياة وعلى وحدة الإرادة الدافعة لها هنا وهناك في الأرض والنبات والحيوان والإنسان»(3). إنها إذا وحدة بين الإنسان والكون جامعها أن الكل مخلوق لله، مكون من مكونات هذا الوجود، وأن الإنسان جزء يندرج ضمن هذا الكون المعبود لله، وهو مجال خلافته وتفكره وتسخيره. وهذه الوحدة الكونية الوجودية تعطي الإنسان فهما جديدا للحياة والعالم من حوله، فتحكمه نظرة الترابط الوجودي والاتحاد الكوني، واتفاق الخلق والمنشأ، ووحدة المآل والمصير. 
ومن لطيف الوارد في سورة الأنبياء - وهي السورة التي أشارت إلى وحدة الرسل والرسالات - التنصيص على أن مرحلة الوحدة الكونية هي أولى مراحل هذا الوجود حيث قال جل جلالـه:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَـرُوا أَنَّ السَّمَـاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَـا رَتْقًـا(4) فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُـونَ﴾ [الأنبياء: 30]. قال ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة: «كانتا ملتصقتين ففصل الله بينهما»(5).
فالأصل في خلق السّماوات والأرض أن جعلها اللّه عزّ وجلّ كتلة واحدة ووحدة مترابطة، ثمّ شاء اللّه لها أن تتفتّق وتتمدّد وتتوسّع، فالاتصال والاتحاد والالتصاق هو مبدأ الوجود الكوني ثمّ انفصل عاليه عن أسفله، وتمايزت أجزاؤه، وتعدّدت أصنافه وصارت عوالم مختلفة وكواكب متنوّعة وأمما متجانسة مردّها إلى أصل واحد ووحدة ملتحمة هي خلق اللّه الذي منه بدأ الكون، قال محمد الطّاهر بن عاشور رحمه اللّه في معرض إيراده لأقوال المفسرين في تفسيره للآية: ﴿كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾: «يحتمل أن يراد بالرّتق اتحاد الموجودات حين كانت مادّة واحدة... فكانت جنسا عاليا متّحدا ينبغي أن يطلق عليه اسم مخلوق، وهو حينئذ كلّي انحصر في فرد، ثمّ خلق اللّه من ذلك الجنس أبعاضا وجعل لكلّ بعض مميّزات ذاتيّة، فصير كلّ متميّز بحقيقة جنسا، فصارت أجناسا، ثمّ خلق من الأجناس مميّزات بالعوارض لحقائقها، فصارت أنواعا» (6).
إن هذه العوالم والألوان والأصناف والأجناس والأنواع، صادرة عن كينونة واحدة وكتلة متّحـدة، وقد كانت في بدء خلقها وإنشائها مترابطة ملتحمة كقطعة واحدة، ثمّ فتق اللّه هذه الوحدة وفصل بين عوالمها وبثّ الحياة في أرجاء كلّ عالم بتقديره وتدبيره بميزان وحسبان، يشهد تناسق هذه العوالم وانتظامها وترابطها وحسن تركيبها وتناسب وضعها على وحدانيّة الخلق فيهـا: «إذ وحدة الأسلوب في كتاب الكون تدلّ على وحدة المنشئ، وهو مصداق قوله تعالى: ﴿مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ﴾ [الملك: 3]. (7)
الهوامش
(1)  خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، بحث في جدليّة النّص والعقل والواقع، لعبد المجيد النجار، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هيرندن، فيرجينيا، الولايات المتحدة الأمريكيّة، الطبعة الثّانية: 1413هـ - 1993م، ص: 40. 
(2) عبد المجيد النجار، المرجع السّابق، ص: 46. 
(3) في ظلال القرآن، 4/2411. 
(4) الرتق: إلحام الفتق وإصلاحه، يقال: رتقت فتقه حتى ارتتق= التأم. العين، 2/95. عن عمران بن حصين عن النبي ﷺ قال: « كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء» صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب: «وكان عرشه على الماء»، «وهو رب العرش العظيم» ح: 7418. 4/544.
(5) تفسير الطبري، 18/10. الدر المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدين السيوطي، دار الفكر بيروت، 5/626. وروي عن سعيد بن جبير. الدر المنثور، 5/626. وعطاء وكعب. تفسير البغوي، 4/293. تفسير القرطبي، 11/283. 
(6) التحرير والتنوير، 17/55. وهذا الذي بسط القرآن الحديث عن شيء منه في الآيات الأولى من سورة الرعد، فصرح بالأدلة الناهضة بمظاهر الموجودات المتنوعة الدالة على انفراده بالخلق والربوبية واستحقاقه لوحدة الألوهية من مثل قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [الرعد: 2]. وقوله:﴿وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [الرعد: 3-4]، وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ، وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْده وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ... ﴾ [الرعد: 12-13]. إلى أن ختم ذلك بقوله: ﴿قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الرعد: 16]. فهذه المظاهر الكونية المتعددة والمتنوعة ناجمة عن كينونة واحدة وأصل واحد. 
(7) خلافة الإنسان بين الوحي والعقل. ص: 46.