فواصل

بقلم
د.مصدق الجليدي
كيف يولد الشقاء؟
 كثيرا ما يولد الشّقاء من رغبة جارفة في السّعادة. ولكنّها سعادة تختلط في ذهن البعض باللّذّة. ولأنّ الإنسان كائن مزدوج التّركيب، مادّي وروحي، دون الفصل تماما بينهما في المنشإ، حتّى وإن انفصلا لاحقا في المآل، فإنّه لا يرى فرقا كبيرا بين السّعادة واللّذّة. السّعادة من جنس الفرح، والفرح شعور شبه دائم، أي يستمر لمدّة في الزّمان، بخلاف اللّذّة، التي سرعان ما تنقشع. للصّائم مثلا فرحتان: فرحة بإفطاره، وهذه لذّة، وفرحة بإتمام الفريضة نهاية شهر رمضان، مع قدر من الأسف على فراقه، وهذه سعادة. واللّذّة هي نوع من الألم المستحبّ أو المستلذّ، أمّا السّعادة، فهي ارتياح عميق وراحة واسعة وبهجة غامرة.
هذه مقدمة تأمليّة لموضوع هذه الخاطرة.
ولي مقدمة أخرى من عالم المشاهدة. الأولى من عالم الأذهان، والثّانية من عالم العيان.
عندما أترك السّيارة، وأختار المشي على القدمين، تتاح لي فرصة الانتباه لأحداث وظواهر وتفاصيل لا أعيرها اهتماما عندما أكون خلف المقود. من ذلك أنّني لمّا أشقّ النّهج الذي يؤدّي إلى الشّارع الكبير في المدينة، وقت عودة تلاميذ الإعدادي والثّانوي من الدّراسة، ألمحهم في مجموعات صغيرة أو أزواجا ذكورا ذكورا أو إناثا إناثا أو ذكورا وإناثا. 
وممّا يشد انتباهي هو طريقة كلام الصّبيّات والصّبايا ومشيتهن، التي تفضح، مع بعض ما يتناهى إلى سمعي، وأنا أمرّ بقربهن، لأتجاوزهنّ بخلاف، كثرة انشغالهن بعلاقتهن مع الجنس الآخر، من خلال التّواصل الكلامي (قال لي وقلت له)، بطبيعة الحال، لا يتعدّى الأمر التّبادل اللّفظي والإشاري بملامح الوجه وإلماعات العينين، بما أنّ البيئة بيئة محافظة، والسّياق سياق مقابلات عفويّة أو شبه عفويّة مدرسيّة.
وبما أنّي مصاب بداء التفلسف والتّأمّل، عافانا اللّه وعافاكم من كلّ تفريط وإفراط فيه، فإنّي أسرح بعقلي بعيدا عن «اليومي» (والفلسفي يتغذّى من اللاّفلسفي، أي من اليومي). وما حدّثني به عقلي اليوم هو أنّ حديث بعض أولئك الصّبيّات والصّبايا هو مقدمة (غير حتميّة، وغير قريبة) لنوعيّة مصير بعض من البشر الذين لم يولدوا بعد. وأنّ بعض ما هنّ فيه اليوم من مشاعر غامضة أو واضحة من الحبّ والهيام والرّغبة الحالمة المطمئنة أو المشوبة بالتردّد والشّك أو الخوف، هو مقدمة لقرارات واختيارات أو استجابات وانجرارات وانجرافات لعلاقات بأزواج المستقبل.
من تلك العلاقات الزّوجيّة الممكنة بدءا والمتحقّقة تاليا فعلا، تولد سير شقاء لبعض البشر، حتّى لا أقول للكثير منهم. فالمولود الجديد ليس بيده كلّ شروط الحياة التي سيحياها بصفة شخصيّة لحما ودما ونفسا وروحا. 
فعند ولادته تكون كثير من تلك الشّروط قد تحدّدت بعدُ بمعزل كامل عن إرادته: أبوه الذي لم يختره ولم يختر شخصيته وبنيته الجسديّة وملامحه وعقله ومزاجه وأخلاقه ووضعه الاجتماعي والنّفسي والمادّي ومستواه التّعليمي والثّقافي، وخبرته في الحياة...الخ. وأمّه وكلّ ما ذكرته عن هويّة الأب ووضعه، منطبقا عليها، والمكان الذي ولد به والمحيط الطّبيعي والاجتماعي، وإخوته وأخواته وأجداده وأعمامه وأخواله وبني موطنه، ولغته الأمّ، وديانة كلّ من والديه، والوضعيّة الحضاريّة والاقتصاديّة والسّياسيّة والثّقافيّة للبلد الذي سيصبح له على الأرجح جنسيّة رسميّة في بطاقة التّعريف...والحقبة التّاريخيّة التي ولد فيها،...الخ. كلّ هذا وغيره ممّا يصعب إحصاؤه، يجد الوليد الجديد، إنسان العالم، ومواطن البلد، وابن العائلة، نفسَه، مرتهنا بكثير منه إلى الأبد. 
فماذا سيبقى له من مصير ينحته بنفسه لنفسه؟! 
أي أنّ الإنسان يولد ومطروح عليه مشروع كفاح ومقاومة لكلّ ما سيحدّ من النّحت الحرّ لكيانه. يولد بطبيعته معارضا. معارضا لكلّ القيود والأغلال التي تكبّل إرادته الحرّة. أي أنّه، لو كتب له مواصلة حياته بشكل سوي، سيمضي القسم الأعظم من حياته وهو يكابد من أجل استعادة ذاته المستلبة بالحتميّات الجينيّة والاجتماعيّة والتّاريخيّة وغيرها...
البعض فقط من المولودين الجدد سينضمّون لجحافل المكافحين والمناضلين من أجل إنسانيتهم، وبعض هؤلاء البعض سيتحمّلون مهمّة أعظم وهي النّضال من أجل إنسانيّة الإنسان، ومن هؤلاء يكون الزّعماء والأنبياء والرّسل والمصلحون والمفكّرون العظماء، وسيتخلّصون من الشّعور بالشّقاء بفضل إيمانهم القوي برسالتهم في الحياة، أمّا الغالبيّة فسيعيشون في شقاء مضاعف: الشّقاء لما هم فيه من غبن وحرمان، والشّقاء المتأتّي من الشّعور بالعجز عن التّغيير والتّطوير، افتقادا لروح الثّورة والتّحرير والتّنوير.
وهنالك صنف آخر يسعد بغفلته الكاملة عن شقائه المضاعف، وهؤلاء هم إلى صنف الأنعام والبهائم أقرب.
كلّ هذا مرّ بذهني بصفة خاطفة ومكثّفة حدسا تأمّليّا وأنا أشاهد غفلة الصّبيات والصّبايا اللاّتي يتلذّذن بسرد وتبادل مناجاتهن عن مغامراتهن العاطفيّة القصيرة...
ولكنّها غفلة لا بدّ منها حتّى يعمر الكون وتستمر قصّة الإنسان وملحمة الإنسانيّة فيه...