في الصميم

بقلم
محمد علواش
الانحرافات المنهجيّة في تعامل الحداثيّين مع النّص القرآني

 تتّسم القراءة المعاصرة بضياع الهويّة والمعنى، وانحلال قضيّة المنهج، إذ تتسكّع في مسارب منهجيّة شتّى، إيمانا بالتّعدّديّة، تحت شعارات تلاقح الأفكار وتكامل الأبعاد، وغيرها من هذه الذّرائع، والقصد من وراء ذلك أن يصبح القرآن متنفّسا لكلّ قراءة ومرتعا لكلّ تأويل، ووعاء ينضح بالتّلوين الذّاتـي؟ وإن شئت الشّواهد من لسان القوم على هـذا الضّيــاع المنهجــي، فلا شاهد أصــدق من قول أركون: «إنّ القراءة التي أحلم بها هي قراءة حرّة إلى درجة التّشرّد والتّسكّع في كلّ الاتجاهات، إنّها قراءة تجد فيها كلّ ذات بشريّة نفسها، سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة، أقصد قراءة تترك فيها الذّات الحرّية لنفسها، ولحركيّتها الخاصّة في الرّبط بين الأفكــار والتّصــوّرات، انطلاقا من نصوص مختارة بحرّية من كتاب طالما عاب عليه الباحثون فوضاه، ولكنّهــا الفوضى التي تفضّــل الحرّيــة المتشرّدة في كلّ الاتجاهات»(1). 

إنّ فشل المدرسة الحداثيّة العربيّة في تطبيق المناهج المعاصرة في فهم النّص القرآني لا ينبع بالضّرورة من طبيعة الإمكانات المعرفيّة لتلك المناهج، بل كان في كثير من الأحيان بسبب الخلفيّات الاعتقاديّة لبعض المفكّرين، والتي جعلت من تلك المناهج مجرّد أدوات للدّعوة إليها واستعراض مدى استيعابها، فأساءت كثيرا لهذه المناهج، وحجبت كثيرا من الباحثين المسلمين عن الاستفادة منها. 
وكان في المقابل تقييم القارئ العربي المسلم للمناهج الغربيّة وجدواها في دراسة القرآن الكريم غالبا تقييما غير موضوعي، لأنّه كان يرتبط بالنّتائج الفاشلة لمثل هذه التّطبيقات، وهذا ما يبرّر الحساسيّة من استخدام تلك المناهج في دراسة القرآن الكريم؛ إذ ينظر إليها تلقائيّا بأنّها رغبة علمانيّة وليست علميّة! وهذا المعطى يكشف عن عدم حياديّة هذه المناهج أو استقلاليّتها ممّا يجعل استعمالها وتطبيقها محفوفا بكثير من المزالق والمخاطر خاصّة إذا علمنا أنّ موضوع التّطبيق وأجرأة هذه المناهج هو القرآن الكريم الذي يتميّز بكثير من الخصائص والمميّزات. كما أنّ المناهج لها ارتباط وثيق بالإشكال الحضاري الذي عاشه الغرب في تعامله مع كتبه الدّينية المقدّسة .
وإذا كان القارئ الحداثي في غاية الشّبه بالمستشرقين، والمشاكلة لهم، والولع بما يصدر عنهم ويرد عليهم، والنّسج على منوالهم في مراوغة النّصّ، فالحداثة المقلّدة –بتعبير طه عبد الرحمن- لا تملك مسوغ وجودها، وشرط صيرورتها وهو الإبداع في البحث والنّظر.
إن بعض المناهج الغربيّة تزخر بإمكانات جيّدة في التّحليل والتّفسير، ومن شأنّها أن تضيء خبايا النّص القرآني، إلاّ أنّ تنزيلها على الوحي الرّباني يقتضي مراعاة خصائصه التي تفرد بها عن غيره، وأعظمها خاصّية ربانيّة مصدره ! ومن هنا لابدّ من الانتباه إليها أثناء استثمار هذه المناهج ومحاولة إسقاطها على النّصوص القرآنيّة.
    إنّ أعظم الآفات المنهجيّة التي أصابت القراءة الحداثيّة، تتمثّل في تجاهل الحداثيّين النّزعة الوضعيّة للمناهج الغربيّة، وهي حقيقة يسلم بها نقّاد الغرب أنفسهم، وهذا التّجاهل قاد إلى الاصطدام مع البعد  الإلهي لمصدريّة النّصّ القرآني. ثمّ الجهل بطبيعة المناهج الغربيّة ومآلاتها، فهي تتعامل مع النّصوص باعتبارها مادّة لغويّة محضة، لا علاقة لها بأيّ بعد غيبي أو تشريعي، وهذا من مداخل المماثلة بين النّصّ القرآني والنّصّ البشري.  
وبالجملة، إنّه يستحيل إبعاد المنهج وتجريده من مقولاته ونماذجه، إذ تربطه وشائج القرابة التي يصعب قطعها «لأنّه تشكّل في أحشاء النّماذج التي عالجها، واكتسى باللّحم من خلال الموضوعات التي ولدها»(2)، وهذا يقودنا إلى نتيجة مفادها «أنّ كلّ نموذج مجتمعي تدور في فلكه مجموع القواعد التي لا تخرج عن دائرته، ولا عن الموضوعات التي جاءت نتائج تطبيقاته. فكلّ القواعد إنّما تعمل وفق النّموذج الذي انطلقت منه، كما أنّ المقولات التي يكون المنهج قد أنتجها وسميت باسمه، تصبح كالطّوق على عنقه، فلا يستطيع أن يتحرّر منها، أو أن يتحرّك في أيّة دراسة قادمة إلاّ من خلالها وبتأثيرها (...)، وبهذا تؤخذ كلّ منظومة فكرية [في إطارها الكلّي ] منهجا ونماذج ومقولات»(3)، ولذلك يجب وضع المنهج في سلسلة ما يتضمّن من مقولات ونماذج، وليس ضمن مبادئه العامّة وتقنياته فقط، وهذا يتطلّب الانتباه إلى مسألة مهمّة وهي«علاقة المنهج بالنّمط المجتمعي الحضاري» الذي تُخلق في رحمه، وتترعرع في أحضانه «وذلك من أجل تحقيق الهدف الأول من كلّ منهج وهو تحديد الأسس التي تساعد على قراءة النّمط المجتمعي الحضاري المعطى»(4).
   إنّ أهمّ ما يميّز القراءات الحداثيّة للنّص القرآني هو سعيها الدّؤوب نحو إحداث قطيعة كلّيّة مع كلّ مناهج التّفسير التي سادت في التّراث الإسلامي(5)، ورفض استثمار كل الجهود والفهوم السّابقة التي أنتجها علماء الإسلام في تعاملهم مع القرءان الكريم. وهذا الرّفض كان تحت دعوى قدم هذه المناهج وتغييبها كلّيّا للقارئ من حيث هو أداة وطرف أساسي في إنتاج المعنى الذي يحمله النّص، فهي تراهن على المعنى المتعدّد والمتنوّع بدل المعنى الواحد مع عدم الإخضاع أو الاحتكام إلى المنطق والأصول الحاكمة للتّخاطب في اللّغة العربيّة والذي يعدّ الأصل في التّفسير.
 كما أنّها لم تعر أيّة أهمّية للإشكاليّات المنهجيّة التي يطرحها التّفسير، رغم أنّ عمليّة التّفسير تحكمها مجموعة من الضّوابط والمعايير وتخضع لمجموعة من الشّروط، يتداخل فيها الذّاتي بالموضوعي والثّقافي بالتّاريخي واللّغوي بمستوياته الدّاخليّة والخارجيّة، ورغم أنّ المناهج المخصّصة للتّفسير تظلّ مؤصّلة في كتب التّفسير وكتب علم أصول الفقه بشكل قويّ، فمع ذلك فإنّ هذه المناهج الجديدة في التّفسير عملت على تخطّي كلّ الأصول وتجاوز كلّ الضّوابط والقواعد بدعوى التّجديد والعصرنة والتّحديث. فلقد عمل المناصرون لهذا الاتجاه بالدّفع بقوّة بمشاريعهم من أجل جعل هذه المشاريع الحداثيّة في قراءة النّصوص القرآنيّة وتأويلها البديل المنهجي المرتقب لكلّ الإنجازات العلميّة التي راكمتها جهود العلماء السّابقين واجتهاداتهم في تفسير القرآن الكريم.
وبالجملة، فإنّ الآفات المنهجيّة التي أصابت القراءة الحداثيّة، وضلّت بها عن طريق الفهم الموضوعي، يمكن تلخيصها في الآتي:        
- تجاهل الحداثيّين النّزعة الوضعيّة للمناهج الغربيّة، وهي حقيقة يسلّم بها نقّاد الغرب أنفسهم، وهذا التّجاهل قاد إلى الاصطدام مع البعد الإلهي لمصدريّة النّص القرآني.
-نظرتهم للمناهج الغربيّة على أنّها حقائق ثابتة، لها القدرة على استنفاد إمكانيّات النّصّ دلاليّا ومقاصديّا، وقد ذكرنا أنّ هذه النّظريات لم يكتمل نموّها بعد، ورغم ذلك قد استوردها الحداثي العربي.
-الجهل بطبيعة المناهج الغربيّة ومآلاتها، فهي تتعامل مع النّصوص باعتبارها مادّة لغويّة محضة، لا علاقة لها بأيّ بعد غيبي أو تشريعي. وإذا كان النّص القرآني معجزا في كلّ شيء، سواء بأبعاده البلاغيّة أو غيرها، فإنّ المناهج اللّسانيّة تبقى قاصرة في الإحاطة بخفايا هذا النّصّ المعجز، ومن ثمّ كان إسقاطها في ساحة التّأويل القرآني على علاتها وخلفيّاتها، مدخلا إلى المماثلة بين النّصّ القرآني والنّصّ البشري، مع أنّ الفوارق بينهما واضحة.
إنّ تجديد الخطاب التّفسيري للقرآن المجيد لا يقتضي اقتفاء أثر الغرب ومناهجه وخطاه في كيفيّة تعامله مع نصوص الكتب المقدّسة عنده، وإنّما المطلوب العمل على الاستفادة من التّراث التّفسيري الذي خلّفه سلف هذه الأمّة عبر الأجيال، وتوظيفه توظيفا واعيا متبصّرا، مع الانفتاح في نفس الوقت على المناهج التي أفرزها العقل الغربي ومحاولة الاستفادة من معطياتها، والحذر من السّقوط في شراك مصطلحاتها البرّاقة، وتجنّب تطبيقها بشكل حرفي على نصوص الوحي، وبذلك يكون القارئ قد جمع بين الأصيل المنبعث من الذّات، والمعاصر القادم من الثّقافة الأخرى. 
إنّ سبيل التّحديث الحقيقي يفرض تدشين عصر حداثة ينطلق من الذّات المسلمة، ويستلزم بالضّرورة وعيا عميقا بحدود التّواصل الحضاري والثّقافي مع الشّعوب الأخرى، وإدراكا لخصوصيّات الذّات وموقعها من الانفتاح على الآخــر في ظلّ عولمة تعمل على نفي الخصوصيّات وتغيير هويّاتها، فإذا كانت فلسفة الحداثة والتّحديث في الغرب قد ارتبطت بصراع له شروطه التّاريخيّــة والموضوعيّة الخاصّة به، ثمّ كان مآلها ثورة على القيم والمطلقات والثّوابت، فليس معنى ذلك أن تعمّم هذه التّجربة على المجتمـــع العربــي للحصــول على التّحديــث!، فليس التّاريخ العربي الإسلامي هو تاريخ الغرب لا في تصوّره الإنسان والكــون، والحياة، ولا في رؤيته لعلاقة الدّين بالدّولة، ولا في فتوحاته وانفتاحه على تجارب الآخرين، لذا يمكن أن يقدّم للإنسانية نموذجا آخر في التّحديث والحداثة، تسوده قيم هذا التّصور الفريد.
الهوامش
(1) محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ترجمة وتعليق هاشم صالح، دار الساقي، ط4، 2007، ص76.
(2) منير شفيق، الإسلام في معركة الحضارة ، الناشر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1411-1991،ص 159.
(3) منير شفيق، نفس المرجع ، ص 160.
(4) منير شفيق، نفس المرجع ، ص161
(5) ينظر، منى محمد بهي الدين إبراهيم الشافعي، التيار العلماني الحديث، دار اليسر، ط1، 1429، ص387-492