للتأمل

بقلم
محمد ابراهمي
أثر اللّغة في دلالة المعاني واختلاف الأحكام اللّغة أداة إدراك الأحكام (2-2)
 تقديم
نزل القرآن الكريم بلسان عربيّ مبين. واتصف قوله ﷺ بالفصاحة والبلاغة والبيان، لذا ففهم القرآن والحديث، واستنباط معانيهما، والأحكام والدّلالات الواردة فيهما، يتطلّب العلم بلسان العرب وأسلوبه في البناء والتّعبير، والإطلاع على اصطلاحهم في مفرداتهم وعباراتهم، وأساليب خطابهم واستدلالهم. فاللّغة العربيّة تتميز بقدرتها على الجمع، والتّمييز، والبسط، والتّوليد للمعاني والدّلالات، وكذا بقدرتها على التَّكَيُف مع السّياقات، والجمع للمعاني المتعدّدة وللحكم والعبر المختلفة في ذات المصطلحات، وللمصطحات المتعدّدة الدّالة على نفس  المعنى والمفيدة لنفس الدّلالة، ما جعل العلماء يعتبرون العلم بها ركنا أساسيّا في استنباط أحكام الشّريعة، وشرطا ضروريّا لفهم دلالات الآيات والأحاديث النّبويّة. وتحاول هذه المقالة (4) الوقوف عند بعض مميزات اللّغة العربيّة وخصائص تعابيرها، وتراكيبها في الفهم والاستنباط للدّلالات، وما يترتّب عليها من أحكام شرعيّة ضابطة لتصوّرات الإنسان وسلوكه وتصرّفه في علاقاته بخالقه، ونفسه، ومحيطه، بما يؤكّد أنّه بالإضافة إلى أنّها أداة تواصليّة، فإنّ اللّغة العربيّة أداة فهم واستنباط للأحكام الشّرعية. وقد بيّنا في الجزء الأول من المقال كيف أنّها أداة لإدراك الأحكام وسنختم في هذا الجزء بتبيان كيف أنّ لهذه اللّغة حظّا في اختلاف العلماء  في استنباط تلك الأحكام.  
اللّغة والاختلاف في الأحكام
      تبين أن استنباط الأحكام الشّرعية يتطلّب استفراغ الوُسع في استخراجها من دلالاتها التّفصيليّة المتمثّلة في كتاب اللّه وسنة رسوله ﷺ، ولفهم اللّغة والتّمكّن منها قسط مهمّ في سلامة الوصول للحكم الوارد في النّص القرآني، ولها حظّ وافر في أسباب الاختلاف الحاصل بين العلماء في الكثير من الأحكام الشرعيّة، ويرجع ذلك إما للاشتراك في الدّلالات التي يحملها مصطلح واحد، كاختلاف العلماء في مفهوم القرء في قوله تعالى:﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍَ﴾(2)، وما ترتّب عليه من اختلاف في مدّة عدّة المرأة المطلقة من ذوات الحيض ولسن بحوامل، هل هي ثلاثة أطهار، أو هي الدّم نفسـه، حيث «قال قوم : هي الأطهار، أعني الأزمنة التي بين الدّمين، وقال قوم: هي الدّم نفسه»(3) ومثاله اختلافهم في اللّمس الموجب للوضوء بين الرّجل والمرأة، الوارد في قوله تعالى:﴿أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ﴾(4)، هل هو مجرد اللّمس العادي أو هو الجماع، والسّبب « اشتراك اسم اللّمس في كلام العرب، فإنّ العرب تطلقه مرّة على اللّمس الذي هو اليد، ومرّة تكني به عن الجماع»(5).
ومن أمثلة المشترك الذي قد يترتّب عليه اختلاف في الحكم العقلي مصطلح «جعل» الذي ورد بعدّة معان منها « سمى» لقوله تعالى :﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا﴾(6)، ويشهد لهذا  المعنى قوله تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَىٰ﴾(7)، ومنها « أوجد» لقوله تعالى:﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾(8)، وبمعنى « النقل من حال إلى حال والتّصيير، فتتعدّى إلى مفعولين إمّا حسّا كقوله تعالى:﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا﴾(9)، وإما عقلا كقوله تعالى:﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَٰهًا وَاحِدًا﴾(10)» (11)  ثم بمعنى الاعتقاد كما في قوله تعالى:﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ﴾(12).
ثم الاختلاف في صيغة الأمر والنّهي المقتضية للوجوب والتّحريم، إذا تجرّدت من القرائن المحدّدة للصّيغة والمقيّدة لها، إذ قد تطلق الصّيغة على «الوجوب» : كقوله تعالى:﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ﴾(13)، والندب: كقوله تعالى:﴿فَكَاتِبُوهُمْ...﴾(14)، والإرشاد: كقوله تعالى:﴿واسْتَشْهِدُوا...﴾(15)، والإباحة: كقوله تعالى:﴿فاصْطَادُوا...﴾(16)، والتأديب كقوله ﷺ  لابن عباس « كل مما يليك»، والامتنان : كقوله تعالى:﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللّهُ...﴾(17)، والإكرام: كقوله تعالى:﴿أُدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ...﴾(18)، والتهديد : كقوله تعالى:﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ...﴾(19)، والتسخير : كقوله تعالى:﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ...﴾(20)، والإهانة: كقوله تعالى:﴿ذُقْ إنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيم ...﴾(21)، والتسوية: كقوله تعالى:﴿فاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا ...﴾(22).
وأما صيغة النهي وهو قوله لا تفعل: فقد يكون للتحريم وللكراهة والتحقير، كقوله تعالى:﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾(23)، ولبيان العاقبة : كقوله تعالى:﴿وَلاَ تَحسَبنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَل الظَّالمُونَ﴾(24)، وللدعاء كقوله ﷺ« ولا تكلنا لأنفسنا طرفة عين» ولليأس : كقوله تعالى:﴿لاَ تَعْتَذِرُوا اليَوْمَ﴾(25)، وللإرشاد: كقوله تعالى:﴿لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾(26)» (27)
وعليه، فإنّ الاختلاف في تحديد طبيعة الصّيغة الواردة في الأمر أو النّهي وهل المقصود منهما النّدب أو الإرشاد أو الإباحة، أو التّحريم بالنّسبة للنّهي أو الكراهة أو التّيئيس أو الدّعاء، يترتّب عليه اختلاف في طبيعة الحكم الثّابت للمسألة الوارد في شأنها الدّليل الشّرعي، وهو ما انعكس في اختلافات العديد من الفقهاء من المذاهب الفقهيّة وداخل نفس المذهب، وذلك لتوسّل أغلبهم بلسان العرب في فهم النّصّ واستنباط معانيه، كما اعتمد في المقابل الكثير من العلماء على الأداة اللّغويّة بعلومها المختلفة لحلّ الاشكالات العلميّة، وضبط المسائل المعرفيّة المتعلّقة في الغالب بالحكم الشّرعي للمسائل المختلف فيها قصد تحقيق حدود الخلاف وضبط أسبابه أو إزالته، ومن الأمثلة المفيدة في هذا الباب ما استدل به الإمام الشّاطبي في الموافقات بتقييد مطلق الغضب في حديث رسول الله ﷺ « لا يقضي القاضي وهو غضبان»(28) باللفظ نفسه دون حاجة لتخصيص العقل للنص الشرعي باستثناء الغضب غير المشوش الذي لا يلحق الضرر أو النقص بقضاء القاضي، حيث أثبت الشاطبـي أن النص يحتمل التخصيص في لفظه دون الحاجة لمخصص، إذ قال « لفظ غضبان على وزنه فعلان، وفعلان في أسماء الفاعلين يقتضي الامتلاء مما اشتق منه، فغضبان إنما يستعمل في الممتلئ غضبا، كريان في الممتلئ ريا، وعطشان في الممتلئ عطشا، وأشباه ذلك، لا أنه يستعمل في مطلق ما اشتق منه، فكأنما الشارع إنما نهى عن قضاء الممتلئ غضبا، حتى كأنه قال: لا يقضي القاضي وهو شديد الغضب، أو ممتلئ من الغضب، وهذا هو المشوش، فخرج المعنى عن كونه مخصصا، وصار خروج يسير الغضب عن النهي بمقتضى اللفظ، لا بحكم المعنى، وقيس على مشوش الغضب كل مشوش» (29) 
خاتمة
إنّ اللّغة معيار محدّد لعمليّة الفهم وسلامته، وشرط لا محيد عنه لإدراك معاني الأدلّة ودلالاتها، بل ومحدّد في اختلاف الأحكام بعد استقرائها واستنباطها، لذلك كان العلم بها من أسس النّظر والاجتهاد في كتاب اللّه وسنّة رسوله ﷺ، وهو ما يقوّي من أهمّية الإحاطة بها، والاطّلاع على قوانينها ومبادئها، وتدريس علومها ودروسها، بما يمكّن الأجيال من التّمكّن منها ومن فنونها وضروبها، لربط الصّلة بمصدر قيمهم وشريعتهم، وبمنبع الحكمة لديهم، وبمنهج النّظر ، وديوان الجمال في البيان.
 الهوامش
(1)  صدر الجزء الأول من هذه المقالة بالعدد 169 من مجلّة الإصلاح (أوت 2021)- www.alislahmag.com
(2)  سورة البقرة، الآية 228
(3) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ابن رشد/ مؤسسة المعارف، بيروت، ط: 2006، ص: 522.
(4)  سورة النساء، الآية 43
(5) المصدر نفسه، ص:50.
(6)  سورة الزخرف، الآية 19
(7)  سورة النجم، الآية 19
(8)  سورة الأنعام، الآية 1
(9)  سورة البقرة، الآية 22
(10)  سورة ص، الآية 5
(11)  مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، ص:190,
(12)  سورة الأنعام، الآية 100
(13)  سورة البقرة، الآية 43
(14)  سورة النور، الآية 33
(15)  سورة البقرة، الآية 282
(16)  سورة المائدة، الآية 2
(17)  سورة الأنعام، الآية 142
(18)  سورة الحجر، الآية 46
(19)  سورة فصلت، الآية 40
(20)  سورة البقرة، الآية 65
(21)  سورة الدخان، الآية 49
(22)  سورة الطور، الآية 16
(23)  سورة الحجر، الآية 88
(24)  سورة إبراهيم، الآية 42
(25)  سورة التحريم، الآية 7
(26)  سورة المائدة، الآية 101
(27)  المستصفى من علم الأصول، للإمام أبي حامد الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط: 2010، ص: 324.
(28)  صحيح البخاري (7158)
(29)  الموافقات، مصدر سابق، م:1، ج:1، ص: 63.