في ظلال آية

بقلم
ابراهيم بلكيلاني
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن
 يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(1)
يقـول الفخر الـرّازي في تفسيره لهذه الآية الكريمـة: «والمُرادُ بِالحَسَنَةِ دَعْوَةُ الرَّسُولِ ﷺ إلى الدِّينِ الحَقِّ، والصَّبْرِ عَلى جَهالَةِ الكُفّارِ، وتَرْكِ الِانْتِقامِ، وتَرْكِ الِالتِفاتِ إلَيْهِمْ، والمُرادُ بِالسَّيِّئَةِ ما أظْهَرُوهُ مِنَ الجَلافَةِ في قَوْلِهِمْ: ﴿قُلُوبُنا في أكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إلَيْهِ﴾(2).
﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ «يَعْنِي ادْفَعْ سَفاهَتَهم وجَهالَتَهم بِالطَّرِيقِ الَّذِي هو أحْسَنُ الطُّرُقِ، فَإنَّكَ إذا صَبَرْتَ عَلى سُوءِ أخْلاقِهِمْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى، ولَمْ تُقابِلْ سَفاهَتَهم بِالغَضَبِ ولا إضْرارَهم بِالإيذاءِ والإيحاشِ اسْتَحْيَوْا مِن تِلْكَ الأخْلاقِ المَذْمُومَةِ وتَرَكُوا تِلْكَ الأفْعالَ القَبِيحَةَ» (3).
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾(4) «قالَ الزَّجّاجُ: أيْ وما يُلَقّى هَذهِ الفِعْلَةَ إلّا الَّذِينَ صَبَرُوا عَلى تَحَمُّلِ المَكارهِ وتَجَرُّعِ الشَّدائِدِ وكَظْمِ الغَيْظِ وتَرْكِ الِانْتِقامِ»(5). فالصّبر على الجهالة وعدم الانجرار إلى الانتصار للنّفس «لا يلقّاها إلاّ ذو حظّ عظيم من قوّة النّفس وصفاء الجوهر وطهارة الذّات». ممّا يعني أنّ تهذيب الأخلاق والتّدرّب على كيفيّة التّعامل مع جهالة وسفاهة وجلافة البعض يحتاج إلى وعي شديد وتدريب مستمرّ وتوفيق من اللّه، وعلى الدّعاة التّحلّي بذلك، ولا تكتمل صفة الدّاعية الحكيم المتأسّي بالرّسول ﷺ إلاّ بذلك، وإنْ وجد في نفسه هوى يدفعه إلى ردّ الفعل بالطّريقة نفسها، فسينقلب غضبه من غضب للّه إلى غضب للنّفس، ومن داعية قيم إلى داعية هوى، ومن محبّ للخير إلى محبّب في الشّر. 
ويعلم اللّه سبحانه وتعالى صعوبة بلوغ الإنسان هذه الدّرجة، لذلك منحه جرعة تحفيزيّة كبرى فجعله ذا حظّ عظيم، ويقول ابن عاشور «والمراد هنا: نصيب الخير، بالقرينة أو بدلالة الوضع، أي ما يحصل دفع السّيئة بالحسنة إلاّ صاحب نصيب عظيم من الفضائل، أي من الخلق الحسن والاهتداء والتّقوى..و﴿حَظٍّ عَظِيمٍ﴾، أي من الأخلاق الفاضلة، والصّبر من جملة الحظ العظيم لأنّ الحظّ العظيم أعمّ من الصّبر، وإنّما خصّ الصّبر بالذّكر لأنّه أصلها ورأس أمرها وعمودُها»(6).
وأحسب أنّ هذه من صفات القادة الحكماء وهذه الفئة قلّة قليلة إن لم تكن نادرة الوجود خاصّة في مجالات الشّأن العام التي يتدافع فيها البشر أكثر. فقد أصبحت مجالات الشّأن العام مستباحة بالسّيئة، وتوسّع انتشار معاملة الحسنة بالسّيئة وانزلق المحسن وسُحب إلى لباس الفعل السيّء، حتّى أصبحت صورة صاحب الحظّ العظيم تتقلّص في واقعنا، لصعوبة تحقّقها، وركنت النّفوس إلى ردود الفعل الميسّرة أمامها، وإشباع نزوعها الغريزي إلى الانتقام.
وهذا لا يعني البتة أنّ الغضب كلّه مذموم، فهناك غضب محمود وهو الذي ينتظر إشارة العقل والدّين كما قال حجّة الإسلام الغزالي رحمه اللّه: «فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحسَّ من نفسه بضعف الغيرة وخسّة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محلّه فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه»(7). وذكر حجة الإسلام الغزالي في جزء المهلكات من الإحياء إضاءات جميلة في بيان حقيقة الغضب وأنواعه ومسبّباته وعلاجه، ممّا لا يستغنى عنه، وقد سبق فيه بعض مقاربات علم النّفس المعرفي.
الهوامش
(1)   سورة فصلت - الآية 34.
(2)   سورة فصلت - الآية 5.
(3) الفخر الرازي، تفسير الآية 34 ، سورة فصلت ،  34/https://tafsir.app/alrazi/41. 
(4)   سورة فصلت - الآية 35.
(5) الفخر الرازي، تفسير الآية 35 ، المصدر نفسه
(6) محمد الطاهر بن العاشور تفسير «التحرير والتنوير»، سورة فصلت،   35/41/https://tafsir.app/ibn-aashoor
(7) حجّة الإسلام الغزالي، إحياء علوم الدّين 3/169 (6720)