في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
حجة الله بين المسلمين كيف تتحقق؟ (2-2)
 ما يُنسب إلى اللّه من الدّين لا بدّ فيه من اليقين، إذ الإيمان بتلك النّسبة لا تتحمّل أدنى ريب، وهذا شرط لا يتحقّق إلاّ في نصّ القرآن، لذلك كان اتخاذ أيّ مصدر سواه لدين الإسلام تقوّلا على اللّه بغير علم، هذا ما قرّرناه في الحلقة السّابقة(1)، واليوم سنعالج الإشكال الثّاني المتعلّق بحجّة اللّه فيما ينسب إلى المسلمين من الكسب.
ووجه الإشكال هو أنّ الكسب جهد بشريّ مرهون بشروط تاريخيّة متقلّبة، إذ الإمكانات بين مدّ وجزر، وهذا ما يجعل التّطبيق العملي لحكم اللّه متغيّرا بتغيّر الأشخاص والأحوال والأزمنة والأمكنة، لكن قد يقال: 
من هو المخول بإعلان التّوقيت المناسب، وتحديد المقادير والكيفيّات المطلوبة شرعا بحيث تكون طاعته طاعة للّه، ومخالفته معصية؟ وما علاقة هذا الإلزام المخول لجهة بشريّة بالدّين المنزّل؟
القرآن شرعة ومنهاج
قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾(2)
تشوه مفهوم الشّرعة في تراثنا فصار لا يتصوّر إلاّ مجموعة من الأحكام الفقهيّة العمليّة ذات الصّبغة القانونيّة، والشّرعة على وجه التّقريب إطار مرجعيّ لقيم الحقّ والعدل والجمال التي بها صلاح الحياة، لكن مرجعيّة هذا الإطار هي مرجعيّة على الإطلاق لا على التّعيين، أي أنّ تجسيد قيمها في الواقع  يحتاج إلى تنسيب وتكييف وملاءمة عملا بقوله تعالى: ﴿اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُم﴾(3) وقوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾(4)
واتباع الأحسن وابتغاء الأحسن يعني أنّ العمل يقع على أوجه متعدّدة، وعلى مراتب متفاضلة. و(الأحسن) إنّما يستمدّ حسنه من دقّة المكلّف في تحديد المناسبات والنِّسب والكيفيّات، وترتيب الأولويّات، وهو ما يستدعي وجود منهاج، أي مجموع القواعد العمليّة، والمعالم الهادية.
ومن أعظم حقائق الشّرعة القرآنيّة استخلاف اللّه الإنسان في الأرض، والاستخلاف تمليكٌ نيابي: ﴿أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه﴾(5)، فقد خوّل اللّه الإنسان أن يتصرّف باعتباره ملِكا وَفق ميثاق إلهي، لكنّ الخلافة القرآنيّة خلافة جماعيّة لا تتحقّق إلّا بعد التّمكين السّياسي: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾(6)
والخلافة تستلزم سلطة تقديريّة بدونها لا يكون معنى للخلافة، وقد أخطأ من شبّه علاقة الإنسان بربّه بعلاقة القِنّ بسيده، بل الإنسان أكرم على اللّه من ذلك، الخلافة علاقة لا نظير لها في الوجود أثارت غيرة الملائكة وعداوة إبليس.
في إطار هذه الخلافة تتعاطى الأمّة مع شرعة من استخلفها، من خلال منهاج دلّهم عليه، فيقع هذا التّعاطي على بصيرة من اللّه، ويكون أهله أهل حجّة في الدّين، فلنكشف عن هذه الحجّة في الكسب الفردي والكسب الجماعي.
حجة الله في كسب الأمّة
إذا كان اللّه قد خاطب المؤمنين بقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُواِ﴾(7) فإنّ المرجع في تحديد المستطاع هو الأمّة نفسها، وهذا يعني أنّ الحجّة في الكسب مبنيّة على التزامات رضائيّة تقع بين أعضاء الجماعة المسلمة، وهذه الالتزامات تكون نابعة من سنّة الوقت التي تصدر عن مؤسّسات الحكمة. 
هذه السّنة وحدها هي حجّة اللّه على أعضاء الجماعة، وسنّة(8) النّبي ﷺ كانت من هذا القبيل، فهي حجّة في زمانها، وقد روي عنه ﷺ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ»(9)، فنسب للخليفة(10) الرّاشد – وهو الحاكم الذي اختارته الأمّة - سنةً تحدثُ بعده ﷺ لها نفسُ مكانة السّنّة التي نسبها لنفسه.
والطّاعة التي أوجبها اللّه للرّسول تخلفه فيها أمّته من بعده، لأنّها طاعة للشّاهد الذي زكّاه اللّه، والشّهادة للّه كما هي وظيفة الرّسول فهي أيضا وظيفة الأمّة بعده لقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا، لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾(11)
والرّسول وجوده استثنائي، أمّا الأمّة فهي الأصل، وقد كان من أهم وظائفه ﷺ تأهيلُها لمنصب الشّهادة بعده: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيُزَكِّيهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين﴾(12). فقد علّمهم الكتاب الذي هو المرجع المشترك، وعلّمهم الحكمة التي سيستخرجون بها سُنّة الوقت من خلال مؤسّسات العلم والعمل المرضيّة عند الأمّة تحت ولاية من يختارونه لحكمهم، وهو المشار إليه في الحديث السّابق بالخليفة الرّاشد، لا على سبيل التّلقيب، وإنّما على سبيل الوصف بالشّرعيّة المستمدّة من اختيار الأمّة.
فإذا أفضت السّنّة الزّمنيّة إلى رسم استراتيجيّات تربويّة واقتصاديّة وعمرانيّة وسياسيّة، وإلى وضع دستور، واشتقاق قوانين تشريعيّة، وتسطير إجراءات عمليّة، فإنّ حجّة اللّه في الكسب تلتمس في هذه المراجع، لأنّها هي وحدها المعبّرة عن المستطاع من الدّين باتفاق الأمّة الشّاهدة، ومن﴿يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى، وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًاِ﴾(13).
وفي هذا النّظام لا وجود لجهة معيّنة لها سلطة دينيّة تكون اجتهاداتها شريعة ملزمة، وأمّا ظاهرة الأئمة والمفتين والمدارس الفقهيّة التي عُرفت في تاريخنا فقد كانت نتيجة للانفصال الذي وقع في القرن الأول بين أهل السّلطان وأهل القرآن، فإذا استعادت الأمّة عافيتها أقامت مؤسّسات شوريّة تستفيد من الخبراء في كلّ التّخصّصات، ومن ضمنهم الأكاديميّون المتخصّصون في معارف الوحي.
هكذا تصوغ الأمّة لزمنها مرجعيّة الكسب، التي تمثّل مصدر الإلزامات الشّرعيّة، ومصدر الحجج التي تُبنى عليها المطالبة بالفعل أو بالتّرك، أو بالمنع أو بالإباحة، وعلى أساسها تجري الرّقابة والمحاسبة، ويكون التزامها قُربة وتقوى.
فإذا زالت الشّروط التّاريخيّة التي أوجبت تلك المرجعيّة، زالت معها إلزاميتها، وصارت جزءا من التّاريخ لا جزءا من الدّين.
الحجة في الكسب الفردي
يقول تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَت﴾(14) ويقـول:﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًـا إِلَّا مَا آتَاهـَا، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾(15) ويقــول:﴿وَمَـا جَعَـلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيـنِ مِنْ حَـرَجِ﴾(16) ويقول: ﴿فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِِ﴾(17) 
«وُسع الإنسان» و«ما أُوتي» و«ما تيسّر له» و«ما يجعله في حرج» أو «مضطرّا» من البواطن التي لا يطلع عليها بعد اللّه إلاّ صاحبها، فالفرد إذن هو المرجع في بيان ذلك، والورع وحده هو الذي سيجعله باذلا للوسع، منفقا على المستحقّين بما يتناسب مع إمكاناته الماليّة، مستحقّا للرّخص الشّرعيّة المخرجة من المضايق، والمبيحة للحرام في حال الاضطرار ...
وما يسمّى بالفتوى في مثل هذه النّوازل ليس هو مصدر الإلزام، بل هو من باب التّعليم العام والدّلالة المعيّنة على اتخاذ القرار، وقد يكون من الورع أن يوسع صاحب الشّأن دائرة الاستشارة فيسأل الطّبيب، أو المهندس، أو القانوني، أو غيرهم من الخبراء ليكون قراره بريئا من البغي والعدوان.
فالقرار الذي سيكون حجة عليه عند اللّه هو ما استقرَّ عليه ضميره، وما يقتضيه الورع، ومما يفيد في بيان ذلك قوله ﷺ: « الْبِرُّ مَا انْشَرَحَ لَهُ صَدْرُكَ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَإِنْ أَفْتَاكَ عَنْهُ النَّاسُ»(18).
فاللّه تعالى حين وَسّع وقت الصّلاة، ونوع الكفارات، ورخّص في إفطار رمضان، وفي قصر الصّلاة أثناء الخوف، وشرَط القدرة في الحجّ، والوسعَ في النّفقة على الأهل والعيال، جعل مرجع التّعيين في كلّ ذلك إلى الفرد حيث لا يكون سلطان لأحد عليه، بل هو فقيه نفسه، ووليها، والرّقيب عليها، والمخول أن يُسدّد ويُقارب. 
و لاشكّ أنّ مواقف الأفراد ستختلف في نفس الواجب، ومع ذلك يحظون بالقبول جميعا، بل قد يشترك في أجر الطّاعة القادر الذي أتاها، والعاجز الذي تخلّف، كما وقع في قصّة الذين﴿تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُون﴾(19)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَدَنَا مِنَ المَدِينَةِ، فَقَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ»(20).
وعليه فلا أحد في هذا الباب يكون حجّة على أحد، بل الحجّة تنعقد في قلب المؤمن، وتبقى سرّا بينه وبين ربّه، فمن تسوّر عليه، فقد هتك حرمة من حرمات اللّه، إلاّ أن يُظهر اشتطاطا كما في النّفقة، فيؤذن للأمّة أن تتدخّل لتلجمه وتنصف الضّحايا بناء على المعروف، وما المعروف إلاّ مظهر اجتماعيّ لورع فردي.
خاتمة
ما في القرآن من بيان هو مصدر الحجّة في الدّين الذي ينسب إلى اللّه، وها هنا مقام اليقين، وأمّا مصدر الحجّة في الكسب فهي الظّنون التي رجّحها الفرد بمقتضى ورعه، أو تلك التي رجّحتها مؤسّسات الحكمة المرضيّة عند الأمّة، واللّه تعالى يؤاخذ على أساس تلك الظّنون لأنّ أصحابها التزموها وتعاقدوا عليها، لكن صلاحيّتها تنتهي بانتهاء موجباتها.
وأهل هذين المقامين: مقام اليقين العلمي فيما يتعلّق بتلقّي البلاغ القرآني، ومقام الرّجحان العلمي فيما يتعلّق بالكسب الجماعي والفرداني، هؤلاء هم المعنيّون بالنّعت القرآني الخالد: ((الذين آمنوا وعملوا الصّالحات))، وهم الذين قال اللّه فيهم:﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ، وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾(21)
الهوامش
(1)  صدر الجزء الأول من هذه المقالة بالعدد 168 من مجلّة الإصلاح (جويليّة 2021)- www.alislahmag.com
(2)  سورة المائدة - الآية 48
(3)  سورة الزمر - الآية 55
(4)  سورة الكهف - الآية 7
(5)  سورة الحديد - الآية 7
(6)  سورة النور - الآية 55
(7)  سورة التغابن - الآية 16
(8)  السنة لغة هي العادة المتبعة، وأما في التداول العام بين أهل السنة فيدخلون فيها كل الأقوال والأفعال والأحوال المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يقصد بها تشريع، تأثرا منهم بأهل الحديث، وهذا على خلاف اصطلاح الأصوليين والفقهاء.
(9)  أخرجه الحاكم النيسابوري في (المستدرك على الصحيحين): 1/ 174، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الطبعة: الأولى، 1411 – 1990، دار الكتب العلمية - بيروت
(10)  الخليفة لم يقصد به هنا المعنى القرآني الذي أشرنا إليه سابقا، وإنما هو من التعاقب على الحكم، كلما ذهب حاكم خلفه آخر، ولهذا كان يقال لأبي بكر (خليفة رسول الله)، فلما استثقل عمر أن يقال في عهده: (خليفة خليفة رسول الله) استحسن لقب: (أمير المؤمنين)، والخلافة كما تكون خلافة رُشد فقد تكون خلافة جَبر تتسلسل بالملوك، كما يقال خلفاء بني أمية، وخلفاء بني العباس.
(11)  سورة البقرة - الآية 143
(12)  سورة آل عمران - الآية 164
(13)  سورة النساء - الآية 115
(14)  سورة البقرة - الآية 286
(15)  سورة الطلاق - الآية 7
(16)  سورة الحج - الآية 78
(17)  سورة المزمل - الآية 20
(18)  مسند أحمد: 29/ 523، شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، الطبعة الأولى، 1421 هـ - 2001 م، مؤسسة الرسالة
(19)  سورة التوبة - الآية 92
(20)  صحيح البخاري: 6/ 8، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، الطبعة الأولى، 1422هـ، دار طوق النجاة
(21)  سورة الأعراف - الآية 181