نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
طه عبد الرحمن وفريدريش نيتشه أو المفهوم الفلسفي وتسيّب التّأويل الاستعاري
 إنَّ المسعى الذي يقوم عليه الطّرح الفلسفي لطه عبد الرّحمن هو  تخليص القول الفلسفي العربي من رقّ التّقليد والإتباع، بالبحث عن أقوم المسالك التي تمُكّن المتفلسف العربي من تحصيل الإقدار على التّفلسف والاستقلال بفضاء فلسفي مخصوص ملمحه الجوهري هو الإبداع؛ هذا المُبتغى وضع له طه عبد الرحمن فرعا معرفيّا اصطلح على تسميته بـ: «فقه الفلسفة». وموضوعه هو « الظّواهر الفلسفيّة بوصفها وقائع ملموسة واردة في لغات خاصّة وناشئة في أوساط محُدَّدة وحادثة في أزمان معيّنة وحاملة لمضامين أثّرت فيها عوامل مادّية ومعنويّة مختلفة»(1). وواضح من هذه المُواصفات الصّفة العلميّة التي عليها هذا الفرع المعرفي الجديد، فهو يجعل من الفلسفة موضوعا للعلم يجوز قراءتها قراءة رصديّة ووصفيّة وشرحيّة بعد أن كانت تتأمَّل هي العلوم وتفحص مبادئها المنطقيّة ونتائجها الموضوعيّة، ولمّا كان المفهوم الفلسفي هو الأداة المركزيّة للتّفلسف؛ فإنّ طه عبد الرحمن راهن على البحث عن القوانين التي تنضبط وفقا لها الصّناعة المفهوميّة الإبداعيّة، وكيف تؤثّر اللُّغة الطّبيعيّة ونُظُم المعرفة في هذه الصّناعة، فبدا له أنّ للمفهوم الفلسفي جانبين إثنين هما : جانب عباري(2) هو مدلوله الاصطلاحي وجانب إشاري(3) يرتبط بالمجال التّداولي للفيلسوف، فالعبارة « هي كلام دال على الحقيقة صريح لفظه مُحْكم تركيبه، بينما الإشارة على عكسها، كلام دال على المجاز أو مضمر لفظه أو مشتبه معناه، وهذا يعني، أنّ العبارة هي أساسا، كلام يلتزم بضوابط العقل المجرّد، في حين أنّ الإشارة هي، أساسا، كلام ينفتح على رحاب الخيال المجسّد؛ وانضباط العبارة بقيود العقل المجرّد يجعل مضمونها مُتَغلغلا في عالم المعقولات الكليّة، منقطعا عن خصوصيّة المجال الذي يتداولها فيه واضعها، بينما انفتاح الإشارة على أودية الخيال يجعل مضمونها متغلغلا في عالم المعاني المُشخَّصة، مُتّصلا بخصوصيّة المجال الذي بتداولها فيه واضعها»(4).
وأمام هذا، ماحظّ القول الفلسفي من العبارة والإشارة؟ هل هو قول عباري-علمي محض أم هو قول إشاري-تداولي يخاطب ملكة الذّوق والمخيال؟
يتبنىَّ طه عبد الرّحمن موقفا وسطيّا بمعنى مخصوص؛ وهو مدار إثبات الدّعوى الأمّ التي عليها مدار المشروع «إنّ القول الفلسفي ليس قولا عباريّا محضا ولا قولا إشاريّا محضا، وإنّما هو قول يجمع بين العبارة والإشارة على وجوه مختلفة»(5). لكن ما الصّلة بين طه عبد الرحمن ونيتشه في هذا المقام؟
إن تعرُّض طه عبد الرحمن لنيتشه جاء في مقام نقد النَّظريات التي ناقشت حقيقة الصّلة بين العبارة والإشارة في القول الفلسفي، فبرأيه أنّ نيتشه يجعل من العبارة من جهة مضمونها إشارة، وأقام اعتراضه- أي نيتشه- على النَّظريّة الأرسطيّة في البلاغة التي تجعل من المفهوم ذا دلالة على المعنى الذي وضع له في الأصل، وما الاستعارة سوى نقل للمفهوم من هذا المعنى الأصلي إلى معنى آخر لوجود المشابهة بينهما أي الحقيقة اللّغويّة للمفهوم، وأنّ المفهوم يعكس ذات الشّيء؛ بحيث يحصل التّطابق بين ماهو في الذّهن وما هو في العالم الخارجي أي الحقيقة الخارجيّة للمفهوم.
غير أنّ هذا التّصوّر الشَّائع والرّاسخ لا يقبله «نيتشه»؛ ويعترض على هاتين الحقيقتين : «الحقيقة اللّغويّة للمفهوم» و«الحقيقة الخارجيّة للمفهوم»، فمدار الاعتراض حول الأولى أن أنساق المفاهيم ليست هي الأصل؛ وإنّما الاستعارة بدلالتها الإنسانيّة، حيث الميل الإنساني إلى توحيد المختلف تحت ضغط الحاجة إلى التّواصل، فيجري تبعا لهذا تكوين المفهوم الذي هو بقيّة من الاستعارة الأصليّة بما هي إثارة عصبيّة. يقول نيتشه: « ماهي الكلمة؟ إنّها التّعبير الصّوتي عن إثارة عصبيّة. والاستخلاص من الإثارة العصبيّة أنّ هناك علّة أولى خارجة عنّا هو بالضّبط مايؤدّي إليه استعمال خاطئ وغير مبرّر لجوهر العقل... نظنّ أنّنا نمتلك معرفة ما بالأشياء حين نتحدّث عن الأشجار، والألوان، والثّلج والأزهار، غير أنَّنا لانمتلك سوى استعارات من تلك الأشياء، استعارات لاتوافق الجوهر الأصلي بتاتا. كما يتم إدراك الصوت باعتباره صورة رملية فإن الشيء المجهول (x) في الشيء في ذاته يتم إدراكه أولا على أنّه استعارة عصبيّة ثمّ كصورة، أي كتعبير عنه في نهاية المطاف»(6).
إذن، فالإنسان يميل إلى الانتقاء والاختزال والحذف، ويرفع الاستعارة الأصليّة إلى رتبة المفهوم ناسيا في الوقت نفسه التّجربة الأصليّة التي دانت له بظهورها، «وآنذاك، لانستغرب أن يُكثر نيتشه من ذكر ما يمكن أن نسمّيه بالاستعارات المعماريّة، وهي الصُّور التي يكون فيها المستعار منه نوعا من البنيان، ويذكر لنا منها «خليّة النّحل» و«البرج» و«الهرم» و«بيت العنكبوت»، مشبّها النّسق المفهومي بها من هذا الوجه أوذاك بحسب كلّ واحد منها، ممّا يدلّ على أنّ « نيتشه» لم يقف عند حدّ الإشادة بالاستعارة وتفصيل فوائدها، وإنّما كان يتعدّى ذلك إلى استعمالها والإكثار من هذا الاستعمال، موردا إلى جانب الاستعارات المألوفة أخرى غير مألوفة»(7).
أما الاعتراض الثاني الذي استخرجه طه عبد الرحمن فهو مناهضة النّظرية البلاغيّة القديمة المنحدرة من أرسطو؛ المبنيّة على تصوّر مؤدّاه التّوهّم بأنّ الوجود الخارجي هو العلّة واللُّغة الإنسانيّة معلولة له، فيجري تبعا لهذا حصول الموافقة والتّطابق بين الذّهن والعين، لكن «نيتشه» يَقْلِبُ هذه العلاقة بينهما ويرى بأنّ الحقيقة الخارجيّة للمفهوم يحكمها النَّسق الاجتماعي الذي يفرض حقائق مخصوصة ويُزيّف أخرى كاذبة؛ وكلّ من يسيء استخدام الاتفاقيّات القائمة كالقيام بإبدالات اعتباطيّة أوالخروج عن قواعد السّلوك الأخلاقي، فسيكف النّسق الاجتماعي عن الثّقة به ويعتبر مواقفه زائفة على نحو نسقي.
وللدَّلالة على هذا النّقد النيتشوي يقتبس طه عبد الرحمن نصّا بديعا يكشف فيه نيتشه عن الأصل الاستعاري للحقيقة الخارجيّة : «ما الحقيقة؟ إنّها جيش متحرك من الاستعارات، من المجاز المرسل، أو التشبيهات بالإنسان، أو قل، بإيجاز مجموعة من العلاقات الإنسانية، التي تم التسامي بها على طريقة شعرية وبلاغية، والتي بعد طول استعمال تبدو لشعب ما راسخة وإلزامية، إن الحقائق هي أوهام نسيت أنها كذلك، واستعارات ضاعت قوتها الحسية، وقطعا نقدية ضاعت نقوشها»(8). 
جلي إذن؛ أنّ نيتشه يُرجع ثنائيّة الحقيقة اللّغويّة للمفهوم والحقيقة الخارجيّة للمفهوم إلى نسيان عالم الاستعارات البدائي أو بعبارة طه عبد الرحمن « نسيان الفعاليّة الإشاريّة»، وهذا التّصوُّر الذي أتى به نيتشه تصوُّر غير معهود في تاريخ الدّراسات البلاغيّة والفلسفيّة، حيث « فتح حقّا بابا غير مطروق في فلسفة البلاغة ومهَّد الطّريق لإشكالات غير مسبوقة [إلاّ أنّه] ينبني أساسا على مبدأ القلب، فالإشارة أصل حيث قيل إنّها فرع والعبارة فرع حيث قيل إنّها أصل، وكلّ ما كان بهذا الوصف، فبقدر ما يكون داعيا إلى تجديد الاستشكال لما يتعلّق به، يكون مثارا لشبه قد يندفع بعضها وقد لا يندفع بعضها الآخر، ومن الشّبه التي تعرض لهذا التّصوّر البياني والتي تبدو لنا غير مندفعة شبهتان اثنتان (الوقوع في الخلط) و(الوقوع في الابتذال)»(9).
واضح إذن هنا الآليّة المنهجيّة التي استند إليها نيتشه، أي آليّة القلب في العلاقة بين العبارة والإشارة، وهي آليّة تمُسك بإشكاليات نيتشه برمّتها وليست مخصوصة فقط بفلسفة البلاغة، فنجدها في قلب الأفلاطونيّة، حيث يقلب نيتشه عاليها على سافلها، وفي مشكلة القيم يجري أيضا قلب القيم، فما كان شرّيرا وسيّئا من وجهة نظر قيم الثّقافة التّاريخيّة يصبح هو الأرقى والأجمل والأخْيَر من منظور الذّائقة النّبيلة المُناَفحة عن التّراتب الطّبيعي بين القيم.
وواضح أيضا، أنّ طه عبد الرحمن أدرك أصالة نيتشه وفَرَادة رؤيته في فلسفة البلاغة، غير أنّه اعترض عليها بسبب وقوعها في الخلط ووقوعها في الابتذال؛ فالأولى يتجلّى الخلط فيها، في أنّ نيتشه لا يميّز بين صلات ثلاث :«صلة الذّهن بالخارج» و«صلة اللُّغة بالخارج» و«صلة اللُّغة باللُّغة»، لأنّ المجال الأصلي للبلاغة هو الصّنف اللُّغوي، والصَّنفين الآخرين خارج دائرة البلاغة. وبالفعل، فإنّ نيتشه يُسمّي استعارة، كلّ دائرة من هذه الدّوائر المذكورة، فالإنسان «يُسمّي فقط علاقة النّاس بالأشياء، ولكي يعبر عنها يستعين بأكثر الاستعارات جرأة. التّعبير عن إثارة عصبيّة بصورة! استعارة أولى. وتحويل الصّورة بدورها إلى صوت! استعارة ثانية، وفي كلّ مرّة تتمّ قفزة تامّة من دائرة إلى أخرى، دائرة جديدة ومختلفة تماما»(10). وهذا الإقرار برأي طه عبد الرحمن « غير مسلّم به، وذلك لأنّ هذا تَوسُّعٌ في مدلول الاستعارة يخرج بها عمّا وضعت له في الاصطلاح، فلاينفع نيتشه في اعتراضه على التّصوّر التّقليدي لعلاقة المفهوم بالاستعارة، فإنّ صار معناها غير المعنى المتّفق عليه بين البلاغيّين، فدليله على أنّها هي الأصل في المفهوم لايترتّب عليه بطلان هذا التّصور التّقليدي»(11).
أمّا الثانية؛ أي شبهة الوقوع في الابتذال، فبيانها أن نيتشه يجعل من الحدوس الأولى استعارات ويجعل من المفاهيم استعارات أيضا، فلا نخرج من شبكة استعارية إلا وندخل في أخرى تشبهها أو تختلف عنها، ومؤدا هذا سيولة ابتذالية وامّحاءًَ لفائدتها الاستعمالية، وفضلا عن هذا، فإنه لامشكلة تنبجس أمامنا إلا ما أقْلَبْنا التَّسميات وغيّرنا الأمكنة والمواقع، فسمّينا الشيء بضده تماشيا مع هذا التوسيع المُفرط « فإذا قيل : « إنّ المفهوم عند نيتشه» هو نوع خاصّ من الاستعارة، وهو الاستعارة الجامدة أو المجرّدة أو المعمّمة، ولذلك لا يمكن له أن يسدّ مسدّها في الدّلالة على المقصود منها، فإنّنا نقول : فكما يصحّ هذا الوجه في التّخصيص، كذلك يصحّ عكسه، فيجوز أن يقال : الاستعارة هي نوع خاصّ من المفهوم، وهي المفهوم الحيّ، أو المشخّص أو المخصّص»(12).
هكذا إذن، يقوم «نيتشه» بهذا التّوسيع للإشارة توسيعا أوقعها في الخلط الفاسد وتوسيع آخر أوقعها في الابتذال المذموم، ويجد هذا الرّأي تفسيره-برأي طه عبد الرحمن-في أنّ نيتشه يَصْدُرُ عن قول صوفي مفرط في صوفيته، لاعن قول منطقي تتحكّم في استدلالاته لغة العبارة، ونيتشه نفسه أشار في نصّ «الحقيقة والكذب بمعناهما الماوراأخلاقي» إلى أنّ ثمّة صراع بين إنسان الحدس الذي يزدري التّجريد، وإنسان العقل الذي يخاف الحدس، لكنّه ينتصر للإنسان الحدسي النّهم بالفنّ والطّافح بالقوّة والمُنْجز للوحدة العزيزة على قلب نيتشه « وحدة الحياة والفن». أي أنّ مساءلاته للمفهوم والاستعارة ليست مساءلات لغويّة محضة لاتتجاوز مباحث فلسفة البلاغة، وإنّما هي مساءلات موصولة بأزمة المعرفة والحقيقة في الحضارة، حيث يبتغي الإنسان الجديد فيها التّنوير والتفتُّحَ والخَلاصَ والتّحرّر بماهي ثمرات الحدوس الذّوقيّة النّاهمة بالقوّة، وصلتها أيضا بنقد الإنسان النّظري وثقافة المفاهيم الشّاحبة الذيْنِ أتى بها سقراط إلى العالم، وإحلال مكانهما الفكر الإثباتي والإنسان الجمالي، إنسان الحدس، إنسان الغريزة، إنسان القوة.
الهوامش
(1)  طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة1، الفلسفة والترجمة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-بيروت، الطبعة الأولى، 1995،ص 20 
(2)  عباري: مقابله الفرنسي «le contenu propositionnel»ou ««le dénoté» أي «المضمون القضوي» 
(3)  إشاري: مقابله الفرنسي «le connoté»
(4)  طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة2، القول الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء-بيروت، الطبعة الثانية، 2005،ص 67
(5)  المصدر السابق، ص 68
(6)  المصدر السابق، ص 68
(7)  المصدر السابق، ص.ص 78-79
(8)  المصدر السابق، ص 79
(9)  المصدر السابق، ص.ص 79-80
(10)  المصدر السابق، ص 80
(11)  المصدر السابق، ص 80
(12)  المصدر السابق، ص 81