همسة

بقلم
عبدالحق معزوز
شريعة الزّمان والمكان والإنسان
 قدّم الإسلام كثيرا من المفاهيم التي يجب أن تقوم عليها الأنظمة السّياسيّة والمؤسّسات الاجتماعيّة والإدارات الحكوميّة والمراكز الثّقافيّة هداية للبشريّة، وترك لها أسلوب تحقيقها تبعا لتغير الوسائل وتطوّرها على ما يقتضيه تطوّر أحوال الزّمان والمكان، واتساع المعارف والعلوم وتقدّم الحضارة الإنسانيّة. 
وإنّ الغفلة عن هذه المعاني والقيم يوقع كثيرا من النّاس في الالتزام الحرفي بالنّصوص الشّرعيّة في المسائل والقضايا الحياتيّة المعلّلة، وهذا ما يضيق مجال مواكبة الشّريعة الإسلاميّة لمتغيّرات الأمكنة والأزمنة بما يحقّق مقاصد الرّسالة في كلّ عصر ومصر، ويسوغ ما قد يتّهم به أرباب الفكر والعلم الشّرعيين من العجز الفكري، ومحدوديّة الأفق والممارسة، والنّصيّة الظّاهريّة، والجمود الفقهي، وقفل باب الاجتهاد، وشيوع التّقليد، والمبالغة في تصيّد النّصوصيّة النّبويّة الفقهيّة التّراثيّة والاحتماء خلف قدسيتها.
كل ذلك قد يصحّ ادعاؤه لو لم يكن في الأمّة طائفة ظاهرة على الحقّ، لا يضرّها من خذلها كما أخبر المصطفى ﷺ، وهي التي تنفي عن الشّريعة تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، وتجدّد للأمّة دينها على رأس كلّ مئة سنة، ولا يتأتّى هذا الحفظ والتّجديد إلاّ بناء على فكر اجتهادي أصيل مقاصديّ مستنير، يحدّد الثّوابت الإسلاميّة والمحكمات الشّرعيّة والحقائق المطلقة التي أتت بها الشّريعة ودلّت عليها بقطعيّة لا تقبل الزّوال أو التّبدّل، ولا تقبل اختلاف الحكم فيها لثبوتها على مرّ العصور والأمصار(1). ثمّ يسعى هذا الاجتهـاد الأصيــل إلى توضيح مقاصـد هذه الأصول والثّوابت وتجديد وسائل المخاطبة بها وتنزيلها وتفعيلها، حتّى لا تبقى الخطابات والتّشريعات رهينة صور وتعبيرات وأوضاع لا تناسب واقع حال الأمّة والعصر، وحتّى تحقّق دائما في المجتمع غايات الهداية الإسلاميّة وطبائع الفطرة ومقاصدها، وهذا الــذي فتح باب الاجتهاد فيه تبعا لمرونة الشّريعة التي اتسمت نصوصهــا بالإيجــاز وعدم البسط في التّعبير عن كثير من القواعد التّشريعيّة، ممّا ينطــوي ضمنيّــا على تأكيد حقّ العلماء في ابتناء الأحكام على هذه القواعـد والمبادئ، واختيار الوسائل والأساليب التي تتناسب مع ظروفهم وحاجاتهم وأحوال زمانهم ومكانهم.
 واتسمت معظم النّصوص التي تعرّضت للأحكام الجزئيّة التّفصيليّة والتّنظيميّة بصياغة المشرّع لها صياغة تتّسع لأكثر من معنى أو تفسير، وينطوي هذا على إقرار ضمنيّ بجواز اختلاف الأحكام المستمدّة من هذه النّصوص في الزّمن الواحد والأزمنة المختلفة بحسب الظّروف المحيطة بواقع التّطبيق وحاجات كل ّمجتمع (2). 
   إنّ الدّين عقيدة وشريعة، والعقيدة فيه هي الإيمان باللّه وملائكته وكتبه.. والشّريعة فيه هي كلّ ما ينتهجه المسلم ويسلكه، ولكلّ من العقيدة والشّريعة أصول وقواعد وأركان ثابتة قد اكتملت بتمام الوحي، لكنّ الإنسان المسلم بحكم خلافته عن اللّه في عمارة الأرض وسياسة المجتمع وتنمية العمران، لا بدّ وهو ينجز مهمّة خلافته هذه من إقامة أبنية أخرى يبدعها هو فوق هذه الأصول والقواعد والأركان، فالإسلام بني على خمس، فليس هو هذه الخمس فقط، إنّما هي قواعد تعلوها أبنية الفروع، وهذه الأبنية تتغيّر وتتجدّد وتتطوّر تبعا للمصلحة الشّرعيّة ووفقا لمقتضيات الزّمان والمكان، وتكون متّسقة مع مقاصد الأصول وغايات القواعد وحدود الأركان، فالأصول ثابتة كاملة بينما آثارها والفروع الباسقة منها دائمة النّمو والتّغيّر والتّطوّر، وشاهدة على دوام التّجديد والتّجدّد في هذه الشّريعة في ظلّ المقاصد العظمى والغايات الكبرى التي ثبتت بالأصول (3).  
إنّ القصد العام للشّريعة الإسلاميّة كما قال علال الفاسي رحمه اللّه هو عمارة الأرض وحفظ نظام التّعايش فيها، واستمرار صلاحها وصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلّفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض، واستنباط خيراتها، وتدبير لمنافع الجميع (4). 
ولا يتأتى ذلك الصّلاح والإصلاح إلاّ إذا روعي في تصرّفات المستخلفين ما ألزم الشّرع به من أحكام وتشريعات وتوجيهات تضمن مصالح العباد في العاجل والآجل، وهذا لا يتحقّق إلا بإحقاق خاصّية الشّمول والتّجديد والانفتاح التي هي من أهمّ خصائص الشّريعة الإسلاميّة لمواكبة مستجدّات العصر والمصر، والتي تثبت صلاحيّة الدّين للزّمان وإصلاحه للمكان والإنسان. وهذا المقصد هو الذي بنى عليه الشّاطبي من قبل كتابه الموافقات تأصيلا وتمثيلا وتنزيلا، حيث استطاع أن يقدّم حلاّ لإشكالات طرأت في العالم الإسلامي فرضت الاجتهاد بمفهوم مقاصدي جديد يحقّق إثبات صلاحيّة الشّريعة للزّمان والمكان والإنسان، وقد عبّر العلاّمة الطّاهر بن عاشور رحمه اللّه عن ذلك فقال: «لقد بنى الإمام الشّاطبي حقّا بهذا التّأليف هرما شامخا للثّقافة الإسلاميّة، استطاع أن يشرف منه في قرننا الحاضر_ القرن العشرين_ والقرن قبله، لما أشكلت على العالم الإسلامي عند نهضته من كبوته، أوجه الجمع بين أحكام الدّين ومستجدّات الحياة العصريّة، فكان كتاب الموافقات للشّاطبي هو المفزع وإليه المرجع، لتصوير ما يقتضيه الدّين من استجلاب المصالح وتفصيل طرق الملاءمة بين حقيقة الدّين الخالدة وصور الحياة المختلفة المتعاقبة» (5). 
وهذا الذي ذكره الشّاطبي رحمه الله وقعده وأصّل له هو الذي تحتاجه الأمّة في العصر الرّاهن أشدّ من أيّ عصر مضى، نظرا لتغيّر شؤون الحياة عمّا كانت عليه في الأزمنة الماضية، وتطوّر المجتمعات تطوّرا هائلا بعد الثّورة التّكنولوجيّة التي شهدها العالم حتّى صار من الضّرورات المعاصرة فتح باب الاجتهاد في ضوء نصوص الشّريعة الأصيلة، ومقاصدها العامّة، وقواعدها الكلّية، مسترشدين في ذلك بتراثنا الفقهي الزّاخر وما أصّله أهل العلم من قواعد تحقّق التّجدّد في الشّريعة والمواكبة للنّوازل والقضايا والصّلاحيّة لكلّ زمان ومكان وإنسان.
الهوامش
(1) المحكمات صمام أمن الأمّة وأساس الثبات، الشّريف حاتم بن عارف العوني، ص:11 وما بعدها، سلسلة دعوة الحق، عدد:245، إصدارات رابطة العالم الإسلامي، 1432ه/2011م.
(2)  تغير الظروف وأثره في اختلاف الأحكام في الشّريعة الإسلامية، محمد قاسم المنسي، ص:13، دار السلام، ط1: 1431ه/2010م.
(3)  معالم المنهج الإسلامي، محمد عمارة، ص:87/88 بتصرف، دار السلام، المعهد العالمي للفكر الإسلامي،ط:1، 1429ه/2008م.
(4) مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها،ص: 41/42، دار الغرب الإسلامي، ط:1 بيروت.
(5)  أعلام الفكر وأركان النهضة بالمغرب العربي،ص:112، طبعة مركز النشر الجامعي، تونس: 2000م.