شخصيات الإصلاح

بقلم
التحرير الإصلاح
ناجي العليّ «حنظلة»... الشّاهد الذي لا يموت
  عشقته وأنا تلميذ في الثّانوي في أواخر السّبعينات ، كنت مغرما برسم الكاريكاتور وكنت أنسخ بعناية كلّ رسم فيه «حنظلة» يقع بين يدي.  وكانت أوراق كراساتي وجدران غرفتي المتواضعة موشحة بحنظلة  ذلك الفتى الفلسطيني الموجود في رسوم ناجي العلي. لم أكن أعرف لماذا أدار ظهره وعقد يديه إلى الخلف لكنّني كنت واثقا بأنّ ذلك يمثّل موقفا رمزيّا لحالة أغلب الأطفال الفلسطينيين «الغلابة» وهو أيضا تعبير عن كلّ طفل في الوطن العربي، حتّى جاءني الجواب من صاحبه «ناجي» الذي قال :  «كتّفته بعد حرب أكتوبر 1973 لأنّ المنطقة كانت تشهد عمليّة تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطّفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التّسوية الأمريكيّة في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبع».
اسمه «حنظلة»،  هكذا سمّاه الشهيد ناجي العلي عندما ابتدع شخصيته مع نكسة حزيران/جوان 1967 لتصاحب جميع رسومه الكاريكاتوريّة. وظهر رسمه في الكويت عام 1969م في جريدة السّياسة الكويتيّة، وأصبح حنظلة بمثابة توقيع ناجي العلي على رسوماته. لقي هذا الرّسم وصاحبه حبّ الجماهير العربيّة كلّها وخاصّة الفلسطينيّة لأنّ «حنظلة» هو رمز للفلسطيني المعذّب والقوي رغم كلّ الصّعاب التي تواجههه، فهو شاهد صادق على الأحداث ولا يخشى أحدا.
يقول عنه الشّهيد ناجي العلي  أنّه بمثابة «الأيقونة التي تمثّل انهزام وضعف الأنظمة العربية».ويقول أيضا: «ولد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظلّ دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السّن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثمّ يبدأ في الكبر، فقوانين الطّبيعة لا تنطبق عليه لأنّه استثناء، كما أنّ فقدان الوطن استثناء».
ولد ناجي العلي في قرية الشّجرة الواقعة بين طبرية والنّاصرة سنة 1937 م، أجبره المحتلّ على الهجرة  مع والديه إلى جنوب لبنان وهو في العاشرة من عمره، وعاش في مخيم عين الحلوة، ومن ذلك الحين لم يعرف الاستقرار أبدا. عرف زنزانات الجيش اللّبناني والعدوّ الصّهيوني منذ صباه وملأ جدرانها رسوما. نشر أول رسومه في مجلة «الحرّية» في 25 سبتمبر 1961م، ثمّ انتقل إلى الكويت ليعمل محرّرا ورسّاما ومخرجا صحفيّا.
تميّز العلي بالنّقد اللاّذع، والسّخرية السّوداء، عبر 40 ألف رسم كاريكاتيري كانت تأخذ شكلا تحريضيّا حينا، وشكلا ثوريّا حينا آخر. لم تهادن ريشته أحدا، ولذلك قتلوه. قال ذات مرّة «لو قطعتم يدي سأرسم بأصابع قدمي...» لذا كان لابدّ له أن يموت... فالجميع باع... وهادن... لكن ناجي بقي صامدا لا يبيع. 
جريمة عمرها 34 عاما لا تزال مفتوحة ولم تغلق رسميّا، القاتل بلا ملامح باستثناء صورة تقريبيّة لهويّته عرضتها الشّرطة البريطانيّة (سكوتلانديارد) إلى جانب صورة للمسدس الذي استخدمه لتنفيذ الجريمة. الجهة التي كانت وراء صدور قرار اغتياله بقيت مجهولة. قد يكون الكيان الصهيوني الذي سلبه أرضه وعرضه، وقد تكون الأنظمة العربيّة التي باعت القضيّة من زمان، وقد يكون طرفا فلسطينيّا قَبِلَ مفاوضة العدو ومهادنته، فأبى «العليّ» وأمطره رسوما لاذعة. وقد تكون مصالح الجميع تقاطعت لتصفية خصم عنيد لا يعرف الاستسلام.
ناجي العلي فنّان قتله «كاريكاتيره»...لم يقبل أن يكون شاهد زور، بل على العكس تماما كان الشّاهد الذي يدلي بشهادته على الفور والنّاقد الذي يبدي رأيه بلا تردّد  أو خوف من حساب أوعقاب. كان أبًا للفقراء وناطقا باسم الجموع العربيّة الفقيرة والمقموعة والمخدوعة بأنظمة لم تجلب لهم سوى التّخلّف والتّشرذم والتّسلّط والتّبعيّة والقمع بكلّ معانيه. لم يساوم على أرضه ووطنه وهو يعلم علم اليقين أنّ الطريق محفوفة بالمخاطر و.... بالموت.
كان يقول: «اللّي بدو يكتب عن فلسطين، وإللّي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حاله ميت، أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على قطع رقبتي». ويقول: «يسألونني عن الخطوط الحمر وأنا أجيب: أنا أعرف خطاً أحمر واحداً، إنّه ليس من حقّ أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل»..!
وصدق أحمد مطر وهو يرثيه قائلا:
«ناجي العلي لقد نجوت بقدرة 
 من عارنا، وعلوت للعلياء
إصعد، فموطنك السّماء، وخلّنا 
في الأرض إنّ الأرض للجبناء...»
قبل رحيله، أصدر «ناجي العلي» ثلاثة كتب، ضمّت مجموعة من رسومه المختارة، وقد صنّفته صحيفة «أساهي» اليابانيّة كأحد أشهر عشرة رسّامين للكاريكاتير في العالم، وقالت إنّ «ناجي العلي يرسم بحامض الفوسفور» في إشارة إلى صراحته المباشرة في رسوماته، بينما قالت عنه مجلة «التايم» إنّه الرّجل الذي «يرسم بعظام البشر». 
في يوم الأربعاء 22 جويلية 1987 وأمام المنزل رقم واحد بشارع «ايفز» في لندن، أطلق مجهول النّار على «ناجي العلي»، فأصابه إصابة مباشرة في وجهه، نُقل على أثرها إلى المستشفى وبقي في حالة غيبوبة إلى أن وافته المنيّة يوم 29 أوت 1987.
 رحل الرّسام وبقيت رسومه شوكة في حلق المهادنين والظّالمين، وبقي «حنظلة» واقفا شامخا، شاهدا على فترة تاريخيّة هامّة عاشتها الأمّة، عاقدا يديه إلى الخلف، مديرا ظهره إلى الجميع حتّى تعود فلسطين، كلّ فلسطين إلى أهلها...