تمتمات

بقلم
رفيق الشاهد
صرخة في صخب صامت (10)
 كم تمنّت «بسمة» أن تبعد ابنتها عن الأنظار كلّها وخاصّة الأقارب من بعيد وقريب والجيران الذين تعرفهم والذين لا تعرفهم، وكم كانت تسعد لما يخطر ببالها وتصدّق إنّ الجميع نسي «نوفل» منذ غابت عنهم وغادرت إلى العاصمة تتابع تعليمها العالي. هل حسنا فعلت لمّا شجعتها بسكوتها واستحسانها تباعد زياراتها لهم، وكم تمنّت أن يطول ابتعادها لا لشيء إلاّ لتجنب حديث النّساء الثّرثارات مثل التي تُعرف في ذاكرتنا الشّعبية بـ «عجوزة السّتوت» يقلّلون عليها الرّحمة عندما تموت. ومثلها كثيرات حتّى يعتقد أنّ جهنم قد تمتلئ بهنّ وحدهن. 
اليوم أيضا وفي العصر الجديد عصر التّكنولوجيّات الحديثة التي قرّبت بين النّاس، ورغم تأثيرات العوالم الافتراضيّة في مزج الثّقافات وصقلها في ثقافة العولمة، «عجوز السّتوت» بقيت موجودة أيضا على الشّبكة العنكبوتيّة وفي منصّات التّواصل الاجتماعي، وأصبحت غير واحدة بل متعدّدة، وأصبحن يحرّكن الرّأي العام بشغف ويجنين المال الوفير. وكذلك أشياء كثيرة لم تتغيّر بالمرّة عند الإنسان مثل مواجهته للحياة التي يعيشها. إمّا أن تقتحم نهر الحياة وتواجه أمواجه العاتية أو أن تستسلم وتهون عليك نفسك للتّيارات تعبث بك كما شاءت. وفي كلتا الحالتين سيحاط بك من كلّ جانب، وسيدفع بك في مطبّات اليمّ ولا نجاة من الهلاك وإن طالت المقاومة إلاّ بما اكتسبت من حكمة وبما تسلّحت من أدوات.
بعد صحو طويل بدأت تصل إلى «بسمة» بوادر العاصفة، سحب مرتفعة تتكاثف وتغزو السّماء وتنخفض أشلاؤها إلى إن تلامس أطراف الأشجار. تصدّع رأسها بأسئلة تجنّبتها منذ سنوات حتّى ظنّت أنّها لن تأتي، ولكنها تأكّدت أنّ الحبل السّري قصير ولا بدّ من قطعه ذات يوم. كانت كذلك تعتقد أنّ «نوفل» في غنى عن التّرهات وسفاسف الأمور، وأنّها تجاوزت العاصفة التي طال انتظارها حتّى ظنّت أن لا تأتي. وكم من عاصفة أفلتت من حسابات المتنبّئين الجويّين، وكم من الأحلام تبعثرت لمّا فاجأت أصحابها.  
 شرعت «بسمة» في بناء حياة جديدة مع ابنها الثّاني الذي أقبل متأخّرا وانشغلت به عن ابنتها التي استحسنت هي نفسها إقبال هذا المولود لصرف نظر والدتها عنها ولو لحين. وابتليت «بسمة» مثل الجميع بغزو منصّات التّخاطب الافتراضي وشرعت في البدء بالتّفاعل باحتشام عبر الفيسبوك وفي مجال ضيق مع الأصدقاء. إلاّ أنّ عدد المهتمّات بشأن «بسمة» أصبح يتزايد من يوم لآخر حتّى أصبحت لا يضايقها عددهّن بقدر ما يصدر من سموم عن هؤلاء النّسوة اللاّتي ينبشن في كلّ متاح وغير متاح. أكثر المواضيع جاذبية وتشويقا ما يعري الحقيقة. وما أبشع الحقيقة حتّى نتركها عارية.
ودخلت بسمة في دوامة منذ أن التقطت ذات يوم محاورة بين صديقات الفيسبوك، وكم تأسف على حشر كلمتي «صديق وأصدقاء» كمصطلحين لا يتناسبان مع مفهوم الصّداقة بما يحمله من قيم. فهل يصلح تسمية صديقات هؤلاء اللاّتي كانت تظنّ فيهن خيرا بعد ما دار بينهنّ، وهل يستوي معهن حساب؟ 
المرأة الأولى :
- كم تمنّيت التّعرف أكثر على «نوفل» ابنة «بسمة». 
- لقد رأيتها البارحة عند عودتها آخر النّهار. 
- ما شاء اللّه عليها، طولا وجمالا 
- رأيتها في فستان محتشم وذلك الشّعر المنسدل على كتفيها وياقتها الجميلة لا تزيدها إلاّ تألّقا وبهاء. 
- كم تمنّيتها زوجة لابن أختي «نزار».
المرأة الثّانية :
- «نوفل» بنت طيّبة ومتعلّمة وذكيّة. 
- أين هي من «نزار» ابن أختك الذي لم يتجاوز تعليمه الثّانوي ولم يحصل على البكالوريا؟
المرأة الأولى : 
- وماذا يفعل بالبكالوريا؟ الرّجل ناجح بدونها.
- «نزار» صاحب شغل، ويشغّل معه أناسا ومن بينهم أصحاب الشّهائد.
- ماذا فعل أصحاب الشّهائد العليا؟ 
- ها هم عاطلون وأعدادهم في ازدياد يملؤون المقاهي ويستجدون ثمن قهوة و«سيقارو».
المرأة الثّانية :
- ولكنّ البنت لا أظنّها تقبل به، ولا أظنّها في أزمة خطّاب ولا في حاجة إلى من يشغّلها. 
- أكاد أجزم إنّ شغلها المحترم وفّر لها علاقات تناسب وضعها ومستواها التّعليمي وثقافتها الواسعة.
تتدخّل امرأة ثالثة تتعرّف عليها «بسمة» من اسمها المستعار المبين على رأس التّدوينة :
-  ماذا تخطّطان من ورائي؟ 
- أليس لي رأي في الموضوع؟ 
- ألا يهمّني أمر «نزار» حتّى لا تشاركاني الرّأي قبل الحديث فيه؟ 
- «نزار» مثل ابني ولا أعتقد أن «نوفل» تناسبه. هل من قلّة في البنات؟ 
- «نزار» تتمنّاه ألف بنت وينتظرن إشارته.
المرأة الثانية:
- وما لها «نوفل» حتّى تعترضين عليها بهذه الحدّة؟ 
- ماذا فعلت لك، ماذا تعرفين عن هذه الوليّة. 
- اللّه يحلّ مكتوبها ويسترها.
المرأة الثالثة:
- واللّه في الحقيقة أنا لا أعرف عنها إلاّ خيرا. 
- ولكن لما أراها في سروال وجاكت تبدو لي وكأنّها رجل بالتّمام مع فخامة جسمها وعرض كتفيها وطريقة مشيتها. 
المرأة الأولى : 
- يا لطيف ألطف بنا. 
- ما شاء اللّه على الجسم الكامل والقوام الرّشيق. 
- لم أر في بناتنا مثل جمالها.
لقد أزالت «بسمة» منذ زمن طويل فكرة أن تتزوّج ابنتها «نوفل» في يوم من الأيام أو أن يكون لها خطيب، ولكنّها  لم تقدر على تحمّل كلام العجوز الذي عكّر صفوها وراحة بالها من ناحية ابنتها التي لم تزعجها يوما ولم تثقل عليها. بل كانت دائما تعول على نفسها في ترتيب حياتها ومراجعة دروسها، وقد أفرحت والدتها منذ صغر سنّها بنجاحها كلّ سنة بامتياز ممّا جعلها تشعر بالفخر والاعتزاز. ولم يغب على «بسمة» إن تسأل نفسها باستمرار : ولكن «نوفل»، هل خامرتها فكرة الزّواج يوما؟ ولماذا لم يحدث أن صارحتني عن مشاعرها؟ 
المسألة لا تختلف عند المرأة فهي تكتشف في كل الحالات بوادر الخصوبة عند أولادها. إلا بسمة. لقد غاب الحديث بغياب الطمث المفاجئ. «يا أسفي على نوفل. قيل لي وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعتُ». 
تداركت «بسمة» قبل أن يستبد بها الغضب الذي كظمته منذ زمن طويل وتحمّلت ثقل همّها فقط حتّى لا يزيد ولا تنقله لابنتها الغالية. مازالت ترى نفسها هالة تحيط بالبنت وتحميها من كلّ  أذيّة.