وجهة نظر

بقلم
سامي الشعري
روح المقاومة، أو: الرّوح بما هي مقاومة
 - في دواعي القول:  العيد، من الوثن إلى الروح
وهج اللّحظة وعنّتها قد يجعلنا من القول «عن الرّوح» ضرورة، طالما أنّ الرّوحي بهذا يؤوب إلى نفسه بما هو كلام لا يكون فقط مقاما وجودانيّا للكائن الإنساني، بل «موطن» تبدي الرّوحي بما هو –في آن- انفراج الكينونة وانبذالها لنا، وفي «رواية أخرى» –بما هي عين السّابقة ومفترقة عنها- مفتوحيتنا على الكينونة. لكن ورود الأمر مقترنا بحدثي «العيد» و«المقاومة» يستحثّنا إلى التماس نقطة تقاطع نحس أنّها ليس مجرّد التقاء اتفاقي عرضي، بل بؤرة نور أصيلة يمكن أن يكون رباطا بما هو استجماع لجهات تبدو بادي الرّأي متناثرة. 
يعودنا العيد، ونستعيده من جهتنا بما هو سهم «ميل طبيعي» للإحتفاء بالكينونة، في مقابل هوس «رفع السّحريّة عنه» –بتعبير ماكس فيبر- الذي ساد في حداثة مشوّهة تطحننا الآن بزيف «معاداة السّاميّة». لنتصور لقاء افتراضيّا بين «أبناء الأرض وأحبّتها» بعبارة نيتشه، حيث يسرحنا –للحظة ما- إمكانيّة للإحتفاء بما ينسخ الأرضي، ماذا يمكن أن يرد على لسان أحدهما؟ صيغة لدعاء دون لاهوت: «آمل أن تنعطي لك الصّحة، آمل أن يطول عمرك أكثر ما يمكن وأن يتأجّل الموت أكثر ما يمكن»، «فإذا كان الموت فلست هنا، وإذا كنت باقيا فلن يكون الموت» هنا (أبيقور). «آمل أن تتمدّد المتعة إلى كلّ جهة وغور دون حساب، أن يتم الإشباع دون أدنى كبت...». سيؤول الأمر إمّا إلى اعتباره تهويما ميتافيزيقا دون معنى –بلغة الوضعيّة المنطقيّة-، أو من تراث «أنطو-ثيولوجيا» لا زالت تعاني رواسب الأصل والأول والثّابت والمطلق...
إنّ للعيد مع ذلك معقوليّة ما تجعله وافر الحظّ بأن يستعاد في كلّ حين، من حيث أنّه احتفاء بأنّنا كنّا أفضل ممّا أنّنا لم نكن، تنظيم منسّق للكينونة تبلغ منتهاها والتي لا تستطيع الأوب إلى الوراء، مع شكر النّعمة، مع الطّقوس بما  هي فعل جماعي يستعيد المعنى غضّا طريّا أمامنا، لا ندركه تمثّلا فقط، وإنّما نحسّه متعة الأكل والشّرب يسري دما في عروقنا بتعبير المسعدي.
لكن هذا الإحتفال يقع وسط مفارقة استحالة الإستحضار للعيد دون رموز مشخّصة، وتحول هذه الرّموز إلى مقبرة للرّمزي. لقد صار الوضع محتاجا إلى إنقاذ النّواة الرّوحيّة من النّصُب والأنصاب التي باتت ترين عليها.
عن الرّوحي:
إنّ العيد هو تعين لتاريخيّة الرّوحي، حيث لا يكون التّعين بالضّرورة «سقوطا» أو اغترابا، أو تلاشيا للمتعالي ضمن الوضعي المحايث. لا يتماهي الرّوحي في الدّيني مع «الطّقس الجماعي» (كما أشاع ذلك التّصوّر الوضعي، مع دوركايم الذي تصوّره مجرد «جيشان شعوري» (effervescence sentimentale)، وإنّما تجربة الجائحة أبانت بقاء –وإن بشكل آخر- لهذه «النّواة الصّلبة» لمعقوليّة الدّيني، أي الرّوحي بما هو كذلك. إن تقصُّد الرّوحي هو الضّمان بأنّنا بعدُ صوب المعنى، سواء تضمخ القول بإثبات التّعالي أو نفيه، وإنّما هو تحير يسكن «بؤرة التّوتر» القصوى التي لا تطمر ضمن العلائق. 
إنّ القول «عن» الرّوحي هو الذي يكون وحده ذا مشروعيّة تقصد للأمر نفسه دون توسّط الموضوع، ولا القول النّظراني الذي التف به وقد يجفّفه. فالقول «حول» الرّوحي لا يمكن أن يكون قولا غرضانيّا، «ذاتا» باحثة تتّخذ لها «الرّوح» موضوعا. إنّه الرّوحي يصير قولا من البداية. لذلك لا يسعه إلاّ أن يكون «تفكيرا» بما هو «قلق روحي» أصيل لا يصطنع له «موضوعا» يقول «حوله» مماحكات  (Ratiocination) بلغة هيغل. 
مع الرّوحي، يـؤوب التّفكير إلى «بيتـه»، إلى مقامـه الحقيقـي بمـا هـو معاشرة دائمـة لـ «الفقر»  (die Armut ) -بعبارة هيدغر- بما هو تخلّص دائم من العلائق، بما هو انفتاح أو مفتوحيّة على إمكان أوسع ممّا هو قائم، ممّا هو «واقعي». إنّه تخليص كينونة الكائنات من أسر المحايثة، من أسر «وجهة النّظر» الوضعيّة، نحو ألق جلال تستنفر فيه القوى الإدراكيّة والنّفسيّة والعصبيّة جميعا لتجميعها نحو هدف أسمى.
قد كان الرّوحي دائما هو الحافز إلى البحث عن الأساس، عن الثّابت ضمن هيولى المتغيّر المتحيّر، حيث يتمّ إنقاذه من «غواية» الإنزياح إلى اللاّمعنى. إنّه الضّمان بأن هنا كلّ/ كلّي يضمن «صخب» الكينونة واهتزازها وانفراقها، حيث يمكن أن نعول على إحداثيّة تنقذ الكينونة من إفراط تناثرها. بهذا يصير التّفكير وصال مع منبع يندرس، استلاما متجدّدا للمقدّس حيث يكاد يُطمر تحت ضروب قول وفعل لم تعد تدري أصولها.
قد تستدعى الأمثلة العديدة لبيان أنّ الأمر لم يكن يستدعي دائما «جهة علويّة خارج العالم –بلغة هوسرل- لكي تستمدّ حوافز الفعل، والتي قد تضع الحياة نفسها في الميزان. لكنّنا نبين أنّ الجهة التي تذهب إلى منطقة أبعد من الحياة، أو التي تقف على تقابل الحياة والحياة (الفناء) وتذهب إلى حدّ قبول الثّاني هي جهة تضع الوجود المنتهي، محدوديّة الإنسان بين قوسين، فتنظر فيما بعد انحطاط اليومي/ الدّنيوي، من أجل ما هو آجل. 
الرّوحي بما هو مقاومة
إنّ الرّوحي قوّة (اقتدار) يجمع ويُلزم، يحدّد ويكره بطريقة أصليّة. إنّه سهم «انقداح» «التّعالي»، لا ما يقدح فيه. إنّه أوّلا تعال على «أشباه الرّوح» - مادّية كانت أو رمزيّة- التي حوّلت «الآخر الكلّي» بعبارة ريكور إلى أوثان، توضع في معبد، أو توشِّح متون «التّنوير» بمفاهيم محنّطة وجب أن نحشر فيها كلّ «روح تفكير».
إنّ الروح كذلك «تعال» بما هو فعل مغالبة لما هو مقابله، أي المنفعة والمصلحة ومصاحبة «دودة الأرض» في «أشواقها» حيث لا أشواق هناك. إنّ الذي نفعله يُهدَّد في كلّ لحظة بإعدامه، بتوقّفه، وبقدر ما كان ذلك عسيرا، فهو إعلان عن بذرة القلق التي تنخره وتحرّكه في عين الآن، وهي الشّاهد على روحيته بما أنّه حيّ، باعتبار أنّ الحياة إحدى الدّلالات الممكنة للرّوح. 
إنّ الإنسان هو الكائن القادر على قلب التّرابط الأنطولوجي لكيانه وكذلك فصمه، في حين أنّ الحيوان عاجز عن هذا القلب. يمتلك الإنسان إذن القدرة عل الانحطاط ما دون الحيوان، وتصير الاستعادة إذن روحا مشتعلا، سؤالا وتسآؤلا عن بقاء مشروعيته، تمعن فيما صار إليه «الوضع الإنساني» من استلاب وانحطاط «... لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا، أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ...»(1).
قد يصير حديثنا «عن» الرّوح من باب إنقاذ «العقل» حيث افتقد هذا الأخير أيّة مشروعيّة الآن، وانحدر إلى ظلمة «الإخلاد إلى الأرض» بما هو اغتراب في الإستهلاك. 
الهوامش
(1) سورة الأعراف، الآية 179