قبسات من الرسول

بقلم
الهادي بريك
من هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم؟ ( قراءة في خلقه وخصائصه وسيرته ) الحلقة الرّابعة : نبذ للسّلطان ال
 من يستقرئ القرآن الكريم متدبّرا على مكث تشده مواضع كثيرة نبذ فيها سبحانه عن نبيّه محمّد ﷺ أردية الوكالة والحفظ والسّيطرة والجبر والإكراه والكهانة والتقوّل على اللّه سبحانه ومباشرة الهداية بغير إذن منه سبحانه. وفي مقابل ذلك النّبذ المتواتر تواترا عجيبا ـ لا يخطئه من ألقى سمعه شهيدا ـ أضاف إليه سبحانه أوسمة البشارة والنّذارة والتّذكير والبلاغ والعبودية. هذه قيمة عظمى تغذّي العقيدة الإسلاميّة بأمصال تحفظ لها عافيتها وتجدّدها وتجدّد فعاليتها في الآن نفسه.
لا حرج علينا أن نبادر بالقول منذ البداية أنّ التّرجمة الفكريّة والعمليّة لهذه القيمة المزدوجة ـ نبذا لقيمة وإحلالا لأخرى ـ في زماننا هي : شطب القيمة التّيوقراطيّة التي عوّقت الغرب المعاصر طويلا أن يتقدّم حتّى آل الأمر إلى ثورة علميّة حسمت القهر الدّينيّ الذي ظلّت الكنيسة تقترفه جورا لقرون طويلات.
لا ريب عندي البتّة أنّه ما من جديدة في عالم القيم في الحياة البشريّة فوق الأرض حتّى يوم القيامة إلاّ وفي القرآن الكريم لها معالجة مناسبة تجعل من الإنسان سيّدا في الكون وليس على الكون ولا فوقه ولا سقط متاع. وما عالج القرآن العظيم هذه القيمة الغربيّة إلاّ لأنّه يعلم سبحانه ـ وهو بكلّ شيء عليم ـ أنّ الأمّة الإسلاميّة ستبتلى يوما بهذه اللّوثة.
إعفاؤه عليه السّلام من صفة الوكالة
تواتر ذلك مرّات كثيرات في القرآن الكريم إذ ورد بكلّ الصّيغ الممكنة لسانا من مثل قوله سبحانه «وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ»(1) و بقوله سبحانه «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا»(2) وغير ذلك من الصّيغ. وفي الآن نفسه يردّ الوكالة كلّها إلى اللّه وحده سبحانه. فما هي الوكالة التي أعفاه منها سبحانه؟ ولم؟ وأيّ معنى لذلك بعد موته ﷺ؟ الوكالة هي أن يتولّى أحد شأن أحد ولاية كاملة أو شبه كاملة. فهو من يقوم على أمره سيّما فيما يتّصل بينه وبينه النّاس، فلا يؤاخذ الموكول عليه إنّما يؤاخذ وكيله. ومن ذا سمّى سبحانه نفسه وكيلا وكفيلا.
نفي الوكالة عنه ﷺ معناها أنّه ليس مسؤولا عمّن آمن ولا عمّن كفر. فلا هو وسيط بين اللّه وبين من آمن. ولا هو مطالب بإكراه النّاس حتّى يؤمنوا. ومن ذا فإنّ من أراد الإيمان فهو يتّخذ ربّه الحقّ وكيلا وليس النّبيّ ﷺ. نفي صفة الوكالة عنه لا يعني في زماننا عدا أنّه لا مجال في الإسلام لسلطة دينيّة غيبيّة تكون واسطة بين النّاس وربّهم. وأنّ من يخالف هذه القيمة ممّن ينسب نفسه إلى الدّعوة والإفتاء والعلم أو ينسب إلى ذلك فهو فاسد العقيدة. فإذا تأسّست دولة على هذا المنوال التّيوقراطيّ الدّينيّ فهي فاقدة للمشروعيّة الدّينيّة إبتداء وللشّرعيّة الدّستوريّة الشّعبيّة الجمهوريّة إنتهاء.
إعفاؤه عليه السّلام من صفة الحفظ
الأمر هو نفسه. أي تقريبا بقدر ما نفى عنه صفة الوكالة نفى عنه صفة الحفظ. الغرض ذاته. الحفظ معناه المسؤوليّة والعكوف على شأن المحفوظ من كلّ جانب قدر الإمكان. ومن ذا سمّى سبحانه نفسه حفيظا وحافظا. نفي الحفظ عنه ﷺ معناه أنّه ليس مطالبا لا بإنشاء إيمان ولا بحفظه في قلوب النّاس. ولا يسأل عن ذلك يوم القيامة. وبذا نبذ عنه سبحانه صفة الوكالة فلا يكون وسيطا بين النّاس وربّهم الحق وعليه يتوكّلون كما يفعل النّصارى بنبيّهم عيسى عليه السّلام. كما نفى عنه صفة الحفظ فلا يكون على النّاس ـ ﷺ ـ مسؤولا في أمر الإيمان. وليس في الأمر الدّنيويّ طبعا بمقام الإمامة والقوامة السّياسيّة والإداريّة. الغرض ذاته. وهو المبالغة في محو أيّ أثر من آثار السّلطان الدّينيّ الغاشم الذي يكون به الإنسان عبدا لنبيّ أو لوليّ أو لوصيّ وليس محرّرا توحيده لربّه الحقّ سبحانه.
إعفاؤه عليه السّلام من صفة الجبر
ورد هذا مرّة واحدة في قوله سبحانه «وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ»(3) . صحيح أنّ أصل الجبر هو تمتين الشّيء وتغليظه والعناية به حتّى يكون سميكا وقويّا ومؤهّلا لمواجهة العاديات ومقاومة العاتيات. ذلك هو الأصل اللّغويّ وهو أصل مادّيّ كقولك : جبرت الحبل أي ثنيته مرّات ليكون سميكا قويّا. ولكنّ المعنى المجازي الذي عادة ما تختاره العرب هو أن يقوم إنسان بذلك العمل قوّة غاشمة من نفسه على النّاس والضّعفة منهم. وبذا غلب المعنى المجازيّ على المعنى الحقيقيّ كعادة لسان العرب. الجبر إذن هو القهر والغلبة والجور ومعاملة النّاس بنفس مجبورة أي معقّدة تؤذي كما يؤذي الحبل المجبور إذا وكز به حيّ. نبذ عنه ﷺ صفة الجبر ليكون كما أراده ربّه أي رحيما بهم. الجبر هنا يعني إكراههم على الإيمان أو إيذاءهم بسبب الكفر. الغرض ذاته هو غرض نبذ صفتي الوكالة والحفظ آنفا.
إعفاؤه عليه السّلام من صفة السّيطرة
ورد هذا كذلك مرّة واحدة في قوله سبحانه «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ»(3). سيطر يسيطر سيطرة : فعل رباعيّ أصله سطر يسطر سطرا. المعنى الأوّليّ الأصليّ لهذا الفعل هو إجتراح خطّ واحد ماض لا يلوي على شيء ولا على أحد. فإذا إنقلب هذا الفعل رباعيّا، فإنّ معناه يتغلّظ ويتركّب ليكون ذلك الخطّ القاسي قهرا للنّاس. السّيطرة هي القهر والجبر والحيف والظّلم وحمل النّاس على كلمة واحدة وإتّجاه واحد حملا بالقوّة لا بالرّضى والتّبايع. الغرض من نفي السّيطرة هو ذاته الغرض من نفي الوكالة والحفظ والجبر.
إعفاؤه عليه السّلام من صفة الكهانة
الكاهن هو من يدّعي أنّه موصول بقوّة غيبيّة تخبره أو تعضده. وتلك هي روح القيمة التّيوقراطيّة التي اعتصمت بها الكنيسة ورجالها لتسويغ قهرهم النّاس. وهي تلتقي هنا مع نظام الكهانة الدّينيّ القديم سواء كان في التّجربة العربيّة ذات المناحي الشّركيّة الوثنيّة الصّنميّة أو في التّجارب النّصرانيّة واليهوديّة القديمة. إذ عرف التّاريخ دوما تسلّط الكهنة على النّاس بإسم الدّين والعلاقة الخاصّة باللّه أو بالغيب. وما ذلك سوى لأنّ أقوى سلطان نافذ على قلوب النّاس ـ عادة ما لا يقاوم ـ هو سلطان الدّين. وظلّت أنظمة الكهانة تشوّش كثيرا في كلّ عصر ومصر على النّبوّات الصّحيحة. قال سبحانه نافيا عنه ذلك : «فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ»(5)
ما هي الأردية اللاّئقة به عليه السّلام؟
في مقابل نبذ الصّفات آنفة الذّكر خلع عليه سبحانه أردية تليق برسالته. من مثل أنّه بشير ونذير ومذكّر ومبلّغ. ورد مثل هذا مرّات «إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ»(6). والمراد منه ليس عليك إكراههم أو الوكالة عليهم أو حفظ قلوبهم والتجسّس على صدورهم. يكفي منه أن يذكّر النّفوس بآلاء ربّهم وتضاريس قدرته في الأرض والسّماء وأمارات عظمته وعلامات إحاطته وغير ذلك ممّا ينشئ إيمانا أو يجدّده. البشير النّذير يبلّغ النّاس رسالة ربّهم إليهم فإذا تبيّن رشد من غيّ إنصرف إلى شيء آخر أو إلى آخرين غيرهم.
أكبر أغراض هوية الرّسالة النّبوية
الغرض الأكبر هو تصحيح الإعتقاد الذي لوّثه رجال الدّين النّصارى. إذ جعلوا من أنفسهم وكلاء على النّاس وحفظة وجبابرة ومسيطرين، يدخلون إلى حظيرة الإيمان من شاؤوا ويطردون من شاؤوا. فنشأت فضيحة صكوك الغفران وإستبدّ القهر بالنّاس حتّى انتظم ذلك في مؤسّسة دينيّة تصدّ عن سبيل اللّه وتأكل أموال النّاس بالباطل.
المقصد الأسنى من كلّ ذلك هو تحرير الإنسان من أيّ سلطان دينيّ غيبيّ قهريّ. ولعلّنا نحن اليوم أدرى بذلك. إذ نعلم أنّ أوروبا ظلّت حبيسة القهر والظّلم والتّخلّف قرونا طويلات بسبب سطوة رجال الدّين وقمع الحرّيّة الفكريّة والدّينيّة. 
وبسبب أنّ هذا الدّاء قابل للإنتشار حتّى في بعض طوائف الأمّة الإسلاميّة، فإنّ القرآن الكريم جاء فيه ببيّنات صارمات صريحات أنّ النّبيّ نفسه ليس وكيلا ولا حفيظا ولا مسيطرا ولا جبّارا، إنّما هو مبلّغ عن ربّه فحسب. وأنّه هو نفسه مهدّد ـ لو تقوّل عليه ـ بقطع الوتين. الخلاصة العظمى من كلّ ذلك هي أنّه لفرط فحش هذا الدّاء الذي يعبّد النّاس لرجال الدّين ومؤسّساتهم وهيئاتهم ودولهم فإنّه حرّمه على النّبيّ إبتداء وأصالة. ولكنّ المقصود به تبعا هم ورثة النّبيّ، أي العلماء والخطباء والفقهاء والأئمّة والحكّام ومن يلي أمرا من أمور النّاس. سيما أنّ الإنسان ـ كلّ إنسان ـ في أغوار فؤاده السّحيقة نداء فرعونيّ يقول : «ما أريكم إلاّ ما أرى». وأنّه عندما تشرئبّ أعناق النّاس إلى معارضة رجل الدّين أو الحاكم، فإنّ خير ملجإ لترسيخ أركان الهيمنة والسّيطرة إنّما هو الدّعوى بأنّ الأمر إلهيّ، وعندها يخضع النّاس ويخنعون. 
تلك هي مهمّة هذا الكتاب العظيم. أي تحرير النّاس حتّى من سلطان الأنبياء على أفئدتهم وقلوبهم وكالة وحفظا. والسّؤال الخطير هو: هل أنّ الأمّة الإسلاميّة مهدّدة بالوقوع في أتون سلطان دينيّ غاشم بإسم الإسلام أم أنّها محفوظة من ذلك؟ الأمّة في تقديري محفوظة من ذلك بقدر فقهها لرسالة التّحرير في كتابها وفي سنّة نبيها ﷺ وفي التّجربة الرّاشدة الأولى وفي تكافلها على ذلك علما وتعليما وتذكيرا ومقاومتها دونه. أمّا دون ذلك فإنّ سنن اللّه تجري عليها عدا أنّها موعودة بمجدّدين يجدّدون فيها ما اندرس.
الهوامش
(1) سورة الأنعام - الآية 107 
(2)  سورة الإسراء - الآية 54
(3)  سورة ق - الآية 45
(4)  سورة الغاشية - الآية 22
(5)  سورة الطور - الآية 29
(6)  سورة الشورى - الآية 48