حديث في السياسة

بقلم
محمد أمين هبيري
المجتمع المدني والإصلاح نحو منهج تأسيسي لبناء مجتمع الخير والمعروف
 قد بيّنّا في مقال سابق(1) أنّ الشّباب قد يئس من الأحزاب السّياسيّة «كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ»(2) وذلك في عمليّة إصلاح الدّولة وبناء مؤسّسات عصريّة بآليّات تكنولوجيّة حديثة ما دفعه إلى التّوجّه صلب الجمعيّات والمنظّمات فرعي مؤسّسات المجتمع المدني وذلك قصد إصلاح ما يمكن إصلاحه من فساد مادّي (عبر كشف عديد الملفّات المتعلّقة بشبهات الفساد وهو عمل المنظّمات أساسا) والفساد المعنوي (عبر درء ما ترسّب من تلوّث فكري داخل ثقافة الوعي الجمعي للمجتمع وعقليّته).
يمكن تعريف كلمة «الإصلاح» من النّاحية اللّغويّة بكونها مشتقّة من الجذر الثّلاثي الصّاد واللاّم والحاء، حسب معجم لسان العرب، الصَّلاح: ضدّ الفساد؛ صَلَح يَصْلَحُ ويَصْلُح صَلاحاً وصُلُوحاً؛ وأَنشد أَبو زيد: فكيفَ بإِطْراقي إِذا ما شَتَمْتَني؟ وما بعدَ شَتْمِ الوالِدَيْنِ صُلُوحُ وهو صالح وصَلِيحٌ، الأَخيرة عن ابن الأَعرابي، والجمع صُلَحاءُ وصُلُوحٌ؛ وصَلُح: كصَلَح، قال ابن دريد: وليس صَلُحَ بثَبَت. ورجل صالح في نفسه من قوم صُلَحاء ومُصْلِح في أَعماله وأُموره، وقد أَصْلَحه اللّه، وربّما كَنَوْا بالصّالح عن الشّيء الذي هو إِلى الكثرة كقول يعقوب: مَغَرَتْ في الأَرض مَغْرَةٌ من مطر؛ هي مَطَرَةٌ صالحة، وكقول بعض النّحويين، كأَنّه ابن جنّي: أُبدلت الياء من الواو إِبدالاً صالحاً. وهذا الشّيء يَصْلُح لك أَي هو من بابَتِك. والإِصلاح: نقيض الإِفساد. أمّا من النّاحية الاصطلاحيّة، فيمكن تعريف الإصلاح على أنّه عمليّة تغيير كلّي وجذري في البنية الهيكليّة السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة تحتاج لفترة طويلة من الزّمن حتّى يستوعب العامّة الإصلاحات التي من شأنها أن تعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل الفساد.
تكمن أهمّية الموضوع في معرفة دور المجتمع المدني في عمليّة الإصلاح باعتباره شريكا أساسيّا في الأفعال الاجتماعيّة في ظلّ واقع انتقال ديمقراطي يغلب عليه التّشنّج ونقص الثّقة بين مختلف مكوّنات النّسيج السّياسي وغياب المنجز السّياسي طيلة العشريّة الأولى من الثّورة، ما دفع المجتمع المدني إلى إحداث التّغيير النّسبي وذلك بالاستناد إلى مقومات المجتمع الخيري الحديث من جهة (الجزء الأول) ووظائفه (الجزء الثاني)
الجزء الأول: مقومات المجتمع الخيري الحديث
يرتكز المجتمع المدني على مجهودات الشّباب الذين طالما أرادوا أن يحقّقوا في الواقع المعيش تغييرا ولو كان بسيطا، يضعون من خلال ذلك بصمتهم في الحياة، ما يجعل المجتمع المدني لا يقوم إلاّ من خلال أسس الفعل الخيري (العنصر الأول) من جهة أولى وأبعاد الفعل الخيري (العنصر الثاني) من جهة ثانية.
العنصر الأول: أسس الفعل الخيري
يمكن إجمالها في أربعة أسس كبرى:
-1 أساس الجعل الإلهي وهو الجعل التّشريعي النّاظم للخير المطلق، والذي جاء بمقتضى نصوص مقدّسة بما يتضمّنه من مقاصد خيريّة تشرّع عديد القيم للسّلوك البشري النّازع للشرّ لضبطه لقيم الخير وهو ما نصّت عليه الآية الكريمة «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا»(3) .
-2 أساس الإمداد الإلهي وهو إمداد الخيرات من سنن تاريخيّة وقوانين طبيعيّة خلقها اللّه ليختبر الإنسان بكونه خليفة اللّه في الأرض وصاحب وظيفة استعمار الأرض بقيم الاستخلاف الكونيّة، وكذلك إمداده بقدرات ذاتيّة وموضوعيّة، وهو ما نصّت عليه الآية الكريمة «لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ»(4) 
-3 أساس الاستباق الخيري وهو استباق الإنسانيّة للعمل الصّالح الذي لا يقتصر على المنفعة المادّية وإنّما يتعدّاها إلى المنفعة المعنويّة عبر عدم الإضرار بأيّ من المخلوقات التي سخّرها اللّه للإنسان، وهو ما نصّت عليه الآية الكريمة «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ» (5) 
-4 أساس الجزاء الإلهي ومعناه أنّه ما من عمل إلاّ وسيحاسب عليه الإنسان، أي تأكيد الرّجوع إلى اللّه لتقييم الأفعال إمّا أن تكون من جنس العمل الصّالح فيثاب، أو من جنس العمل الطّالح فيعاقب. وهي فلسفة تجعل من المرء شديد المراقبة على أفعاله لاعتقاده بأنّه سيحاسب عليها وهو ما نصت عليه الآيــة الكريمـة «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا»(6)
العنصر الثاني: أبعاد الفعل الخيري
يمكن إجمالها في أربعة أبعاد كبرى؛
-1 البعد الدّيني الذي يحفز الإنسان على الفعل الخيري عبر إيمانه بالجزاء الذي ينتظره من جرّاء القيام بالأفعال الحسنة وبإصلاح ما تمّ إفساده، وهو ما يعطي دافعا إضافيّا يجعل المرء توّاقا لفعل الخير (الوقف نموذجا).
-2 البعد الإنساني: فمن خلال مساعدة الآخر، يشعر المرء بأنّ له رسالة نبيلة في الحياة. ومن بين أنواع المساعدة ما هو متعلّق بالحاجة المادّية (طعام، شراب، كساء، ...) وما هو متعلّق بالحاجة المعنويّة (التّعليم، التّوعية، الإحاطة، ...) 
-3 البعد التنموي: يتأسّس خاصّة من خلال الفعل الخيري المتعلّق بالجانب الاقتصادي إذ يحتوي الفعل الخيري على وعاء استثماري وأهداف اقتصاديّة من خلال تحقيق تنمية شاملة مع حاجيّات المجتمع (الاقتصاد الاجتماعي والتّضامني أنموذج).
-4 البعد المؤسّسي يتجلّى من خلال المؤسّسات التي تحتوي على نظم إداريّة واجرائيّة فنّية تسعى لتسيير الشّأن الذي أحدثت من أجله عبر نظام داخلي يفرض مراقبة المسؤول ومحاسبته، وهو ما مثّلته التّجربة التّاريخيّة للمجتمع المدني بتفاوت وتداخل عميق.
الجزء الثّاني: وظائف المجتمع الخيري الحديث
لو لم يكن للمجتمع المدني وجود لاستحالت العمليّة السّياسيّة، ذلك أنّ السّلطة السّياسيّة بنوعيها، المركزي واللاّمركزي، لا يمكن أن تقوم بمهامها إلاّ متى شارك المجتمع المدني في وظائفه بنوعيها، الوظائف الإنسانيّة العامّة (العنصر الأول) والوظائف الحياتيّة الخاصّة (العنصر الثّاني).
العنصر الأول: وظائف إنسانيّة عامّة 
يمكن إجمالها في أربع مهام كبرى؛
-1 مهمّة الوعي الخيري حيث تمثّل مهمّة التّنظير الصّحيح للمنهج الرّشيد للخير في الوجود الإنساني. وينقسم هذا الفهم إلى فهم إدراكي يحتوي على آليّات الإدراك، وفهم تفاعلي يحتوي على آليّات الفعل. ولذلك فإنّ مهمّة الوعي تنقسم إلى ضرورة الأخذ بناصية العلم مع ضرورة الأخذ بقوّة العمل. وهو ما يخوّل للمجتمع المدني فاعليّة في الفهم وسرعة في الأداء.
-2مهمة الفعل الخيري حيث تمثّل مهمّة التّطبيق القويم للفعل الرّشيد في الوجود الإنساني. وينقسم هذا الفعل إلى فعل أدائي يحتوي وسائل الأداء، وفعل تنزيلي يحتوي على وسائل التّنزيل. ولذلك فإنّ مهمّة الفعل تنقسم إلى ضرورة مراعاة شروط الإقدام وضرورة مراعاة أسبابه وموانعه. وهو ما يجعل من المجتمع المدني يتنافس في الإصلاح.
-3 مهمّة الاجتماع الخيري حيث تمثّل مهمّة التّجميع القويّ للمجتمع الرّشيد في الوجود الإنساني. وينقسم هذا الاجتماع إلى اجتماع وظيفي الذي يحتوي على آليّات التّخطيط، واجتماع مؤسّسي الذي يحتوي على وسائل التّسيير. ولذلك فإنّ مهمّة التّجميع تنقسم إلى ضرورة رصد الظّواهر الاجتماعيّة وضرورة اكتشاف القوانين التّفاعليّة. وهو ما يجعل المجتمع المدني يتطلّع إلى التّآلف. 
-4 مهمّة الحوكمة الخيريّة حيث تمثّل مهمّة التّدبير السّديد للمجتمع الرّشيد في الوجود الإنساني. وينقسم هذا التّدبير إلى تدبير وظيفي يحتوي على آليّات التّخطيط، وتدبير مؤسّساتي يحتوي على وسائل التّسيير. ولذلك فإنّ مهمّة التّدبير تنقسم إلى ضرورة الأخذ بزمام الأمور وضرورة الأخذ بانعكاسات القرار. وهو ما يجعل المجتمع المدني يتطلّع إلى الإحسان.
العنصر الثاني: وظائف حياتيّة خاصّةّ
يمكن إجمالها في ثلاثة أبعاد كبرى؛
-1 مهمة الإغناء المعاشي: يُراد من خلال هذه الوظيفة تحقيق الاكتفاء الذّاتي للفرد داخل المجتمع الإنساني لسدّ حاجيّاته العضويّة والتّحسينيّة، وهو ما يجعل المجتمع المدني يتجنّد في حالات الكوارث والأوبئة والحروب لتأمين المعاش والسّعي لحفظ النّفس وذلك لدرء المفاسد التي تنجرّ عن الفقر المعاشي والتي تنجرّ عنه مهمّة الإحاطة النّفسيّة، إذ يسعى إلى تحقيق الهدوء المجتمعي والتّخفيض من حدّة الاحتقان المستفحل بين صفوف العاطلين عن العمل وإرشاد القصّر دون سند عائلي لتأمين حياة كريمة ولو بنسبة صغيرة لا تضاهي النّسبة التي يمكن أن تتحقّق لو قامت الدّولة بدورها الفعلي.
-2 مهمة التّنوير العلمي: يسعى المجتمع المدني إلى تنوير العقول وبناء عقليّات جديدة مواكبة للتّحوّلات الكبرى، ولعلّها من أشرف الوظائف، ذلك أنّ بناء العقول يعدّ أعلى مراتب فعل الخير. 
-3 وكتكملة لهذه المهمّة نجد مهمّة التّوعية الحضاريّة التي تعدّ من أوكد المهمّات، إذ أنّ التّوعية شرط لبناء وعي قوامه الإنتاج بنوعيه المادّي (الاقتصاد) والرّمزي (الثّقافة) المؤدّي إلى الخيرات المادّية (ثروة) والخيرات المعنويّة (سعادة). 
ختاما، يسعى المجتمع المدني إلى الإصلاح ما أمكنه ذلك من خلال مبادرات فردية شبابيّة تسعى إلى إبداع فضاء يطيب فيه العيش بسلام.
الهوامش
(1) راجع مقال الأحزاب السياسية والديمقراطية
(2) سورة الممتحنة، الآية 13
(3) سورة المائدة، الآية 48
(4) سورة الأنعام، الآية 165
(5) سورة البقرة، الآية 148
(6) سورة المائدة، الآية 105