في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
حجة الله بين المسلمين، كيف تتحقّق؟ (1-2)
 بين الدّين وتطبيق الدّين - كما أثبتنا في مقالات سابقة(1) - فارقٌ إذا تمّ إسقاطه وقع الخلط بين الإلهي وبين البشري، وبين ما يصحّ أن يبقى ويستمر، وبين ما ليست له صلاحيّة الاستمرار.
الدّين الإلهي لا وجود له خارج النّص القرآني، والمسلمون على اختلاف أجيالهم يشتركون في الإيمان به، أمّا التّطبيق فهو كسب في الإيمان يختلف من فرد إلى فرد، ومن جماعة سياسيّة إلى أخرى، ومن جيل إلى جيل: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، لَهَا مَا كَسَبَتْ، وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ، وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(2) 
وهنا يرد إشكالان منهجيان: الأول، كيف تمّت الدّلالة على الدّين المشترك دلالة تقوم بها الحجّة على كلّ مسلم؟ وتحمي الدّين من ظنون المتخرّصين وعبث العابثين؟، والثاني، كيف ينشأ الإلزام الشّرعي المقتضي للكسب، والكسب في حالة صيرورة تاريخيّة مستمرة؟
حجة الله في الدّين
 دين اللّه اكتمل باكتمال نزول القرآن: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾(3)، ولم يبق بعد ذلك إلّا العمل، والسّنة النّبويّة نفسها كانت عملا تطبيقيّا محكوما بشروط تاريخيّة: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾(4)، ولهذا فإنّ النّبي ﷺ مع أنّه كان مأمورا بأن يخاطب العالمين(5)، فإنّه لم يستطع أن يفي بذلك عمليّا، وهو معذور، إذ حياته لا تتّسع للإحاطة بهذه المهمّة، ووسائل الاتصال في ذلك الزّمان كانت ضعيفة، فمات ﷺ وأكثر أهل الأرض لم تبلغهم دعوته بلاغا تقوم به الحجّة. 
بل إنّه ﷺ امتنع أن يعيد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لهشاشة الوضع السّياسي بعد فتح مكة(6)، وهذا الموقف النّبوي لا يُسقط المطالبة بإعادتها إلى الوضع الإبراهيمي مستقبلا.
وأمّا أقوال النّبي التي تأتي في صيغة العموم، فإنّها لا تفيد عموم النّصّ القرآني إلاّ إذا كانت تأكيدا له، فقوله ﷺ: «لا هجرة بعد الفتح»(7) لا يمكن أن يفيد العموم، لأنّ الرّحلة بين مكّة والمدينة كانت قبل ذلك تعتبر فرارا بالدّين، ونصرةً للإسلام، وهجرةً في سبيل اللّه، فلمّا زالت العداوة، ودخلت قريش في الإسلام انتهى اعتبار الرّحلة من مكّة إلى المدينة هجرة، لكنّ هجرة المستضعفين مبدأ قرآني ماضٍ إلى يوم القيامة، تتجدّد المطالبة به كلّما تجدّدت بواعثه.
الدّين الخالص لا يحتمل الظّن
مهّدنا بتلك الأمثلة لكي نقول إنّ الحجّة على أنّ أمرا ما هو من الدّين العام الذي يمثّل صورة الإسلام، على اختلاف الأيّام، هو النّص القرآني وحده، وأهمّ شاهد على هذه الدّعوى هي القاعدة القرآنيّة القائلة: «إنّ الدّين الحقّ لا يقوم على الظّن، بل ينبني على اليقين»، وهذه القاعدة ثابتة في صورة السّلب وفي صورة الإيجاب، ومن شواهدها السالبة قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾(8). فالظّنون مجالات الأوهام، وجعلها مصدرا للدّين يجرّ إلى التّخرّص والافتراء على اللّه، ولهذا نهى اللّه عن اتباع أهل الظّنون. يؤكد ذلك قوله تعالى: ﴿... إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾(9) 
فلا شيء من الحقّ إذن يستفاد بالظّن، لأنّ الحقّ لا يستحقّ اسمه إلاّ بشرط القطع واليقين. 
وقد اشتهر بين علماء الأصول قاعدة مفادها: أنّ الخبر الظّنّي لا يكون حجّة فيما يرجع إلى الاعتقاد، لأنّ الاعتقاد يُبنى على اليقين، لكنّ الخبر الظّنّي يصلح أن يكون حجّة في المسائل العمليّة (10). 
وهذه القاعدة باطلة لما فيها من تناقض، لأنّ أي خبر ديني مهما كان مضمونه فلا بدّ فيه من نسبة اعتقاديّة، وهي دعوى أنّه من عند اللّه، وهذه النّسبة لا تثبت إلاّ باليقين، وقد قال تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا، وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ، كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا، قُلْ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا؟ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَِ﴾(11)
لاحظ أنّ المشركين احتجّوا بالظّن على أمرين: على شركهم، وعلى تحريماتهم، وهذه القسمة هي نفسها قسمة الأصوليّين الذين فرّقوا بين مسائل الاعتقاد والمسائل العمليّة. فهذا بالضّبط شأن الذين يجعلون الأخبار المنسوبة إلى النّبي ﷺ مصدرا للدّين، لأنّ حقيقة ذلك هي الزّعم بأنّها من عند اللّه، مع أنّ جُلّ أحكام المحدّثين يبنونها على ظنون مركبة، وقد انتهوا إلى وضع سلّم للثّبوت نكتفي هاهنا بامتحان صيغته الإجماليّة، إذ يقسمون الحديث المرفوع إلى النّبي ﷺ أربعة أقسام: صحيح، وحسن، وضعيف، وموضوع.
فالحديث الصّحيح، وهو عندهم ما غلب على الظّنّ صحته، يستلزم أن تكون نسبته إلى اللّه تعالى هي مجرّد نسبة تغليبيّة، بمعنى أنّ احتمال كونه ليس من الدّين، يبقى واردا. والحديث الحسن، هو صحيح أيضا لكنّه دون الصّحيح، وهذا يعني أنّ النّسبة إلى غير اللّه قد قوِيَ احتمالها. والحديث الضّعيف هو ما غلب على ظنّهم أنّه ليس من عند اللّه، لكن تبقى نسبة من الظّن تحتمل أنّه من عند اللّه، ولهذا يأخذون به مرّة، ويردّونه مرّة.
فالدين المبني على مثل هذا السّلم دين لا يصحّ أن يقال إنّه من عند اللّه، لأنّه تعالى حكم ببطلان دين المشركين لكونهم يتّبعون فيه الظّن، والظّن كما قال سبحانه: ﴿لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾(12). فهل يصحّ أن نبلّغ عن اللّه شيئا لا نشهد يقينا أنّه من عنده؟ وهل يجوز أن نقول في نسبة الأدلّة العمليّة إلى اللّه: ﴿إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا، وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾(13)؟
الشواهد الموجبة لليقين في الدّين
من أشهرها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾(14)، ومعلوم أن حقيقة هذا الإيمان هو التلقي العلمي للدين بالتسليم التام، وهذه الآية جاءت في سياق الرد على الأعراب القائلين: (آمنا)، والإيمان تصديق جازم، والتصديق لا يتصور عقلا إلا ملازما للخبر، وهم ليس عندهم خبر هذا الدين كما بلغه الرسول، فتصديقهم المزعوم إذن لا حقيقة له، لهذا قال الله لهم: ﴿قُلْ: لَمْ تُؤْمِنُوا، وَلَكِنْ قُولُوا: أَسْلَمْنَا، وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾(15). 
ومن شواهد المطالبة باليقين قوله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ!﴾(16) حكم الجاهلية مبني على الظنون، ولهذا مزق الناس وفرق بينهم، كل حزب بما لديهم فرحون، فهو حكم لا يفيد السلم والطمأنينة، بسبب تضارب الظنون، وحكم الله هو الأحسن لأنّه ﴿قَوْلٌ فَصْلٌ. وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾(17) يفيد اليقين في معترك الظنون: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾(18)
ولو كان القرآن عرضة للاحتمال لما صلح أن يكون حكَما بين النّاس: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(19) إذ التّلازم بين اليقين والفصل بين المختلفين وهداية الضّالين تلازم ضروري، لأنّ الظنّ لا يكون حجّة على الظّنّ.
أخيرا وليس آخرا
انتهى المقال، ولم نجب إلاّ على أوّل إشكال، وهو المتعلّق بأساس الدّين المنسوب إلى ربّ العالمين، والمشترك بين أجيال المسلمين، حيث قرّرنا أنّ أساسه الوحيد هو الحجّة المستيقنة، المقطوع بصدورها عن اللّه تعالى، وبوصولها إلينا وصولا متواترا لا ريب فيه، وتلك هي حجّة القرآن.
بهذا، وبهذا وحده، يحصل الفصل بين الدّين الخالص، الذي هو من عند اللّه حقّا، والدّين المغشوش الذي اختلط فيه ما هو من عند اللّه بما هو من صنع البشر.
وبقي أن نتكلّم في مقال لاحق على الإشكال الثّاني وهو: كيف ينشأ الإلزام الشّرعي المقتضي للكسب، مع أنّ الكسب يختلف من جيل إلى جيل؟
الهوامش
(1) أنظر أعداد مجلّة الإصلاح  165 و166 و167
(2) سورة البقرة - الآية 134.
(3)   سورة المائدة - الآية 3.
(4) سورة الكهف - الآية 110  
(5) كما في قوله تعالى:«قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا»[الأعراف: 158]
(6) انظر صحيح مسلم، حديث رقم: 1333، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت
(7) انظر صحيح البخاري، حديث رقم: 2783، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى، 1422هـ
(8) سورة الأنعام - الآية 116
(9) سورة النجم - الآية 28
(10) انظر علاء الدين البخاري الحنفي، كشف الأسرار شرح أصول البزدوي: 3/27، دار الكتاب الإسلامي، بدون طبعة وبدون تاريخ، وجمال الدين الإسنوي الشافعيّ، نهاية السول شرح منهاج الوصول: 169، دار الكتب العلمية -بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1420هـ- 1999م
(11) سورة الأنعام - الآية 148
(12) سورة النجم - الآية 28
(13) سورة الجاثية - الآية 32
(14) سورة الحجرات - الآية 15
(15) سورة الحجرات - الآية 14
(16) سورة المائدة - الآية 50
(17) سورة الطارق - الآية 13-14
(18) سورة محمد - الآية 14
(19) سورة النحل - الآية 64