بعد أن خصّصّنا مقالين سابقين لخدمة الفئات المحرومة في المجتمع من خلال تبيان كيفيّة توظيف ما أفرزته مُتغيّرات التّحول الرّقمي لفائدتها، سواء من خلال تقنية البلوك تشاين (chain Blok) أو سلسلة الكتل، كضمانة للجودة وتفعيل للحوكمة(1) أو من خلال العقود الذّكيّة (Contrat Smart ) وما تمنحه من إدارة كفؤة للأصول ومصداقيّة للمعاملات (2) 

ومُواصلة لانشغالنا بما ينفع مختلف فئات مجتمعنا، وفي سياق تطوير دورنا في حمل أمانة تعمير الأرض والحفاظ على كرامة الإنسان، نبحث هذه المرّة عن الكيفيّة التي يتطوّر بها أداء مؤسّساتنا سواء الاقتصاديّة منها أو الاجتماعيّة بما يُضاعف إنتاجها للسّلع وإسداءَها للخدمات وبما يُحسِّن من نوعيّتها، وذلك من خلال إدارة المعرفة والذّكاء الإصطناعي.

فما المعرفة ؟ وما إدارة المعرفة وما ركائزها؟ وما الذّكاء الاصطناعي؟ وما العلاقة بين إدارة المعرفة والذّكاء الاصطناعي فيما ينفع النّاس ويُيَسِّرَ حياتهم؟

المعرفة هي معلومات مُنَظّمة تحوي أفكارا وخبرات وإجراءات سليمة، تُمَكِّنُ من فهم العلاقات بين مجموعة من المعلومات وإدراك السّببيّة بينها، وهي معرفة مُوَجِّهة للأفكار والسّلوك والتّواصل بين النّاس وبناء عليها يتمّ اتخاذ وصنع القرارات السّليمة(3) وهي معرفة لا ذاتيّة ولا مزاجيّة  ولا انفعاليّة، بل مصدرها البحث العلمي وهدفها اكتشاف المجهول، وتكون إدارتها استعدادا للتّفاعل مع ذلك المجهول حين وقوعه، حماية للمؤسّسات من المخاطر التي أصبحت سمة العصر، ولذلك على هذه المؤسّسات أن تُولي البحث العلمي والتّطوير الأولويّة القصوى وتوفّر لنجاحه كل المُستلزمات المادّيّة والمعنويّة.

تُعرّف «إدارة المعرفة» على أنّها هندسة البيئة البشريّة لتحسين طريقة انتاج المعرفة والتّشارك بها وحصر الحُصول عليها واستخدامها داخل المؤسّسة، وذلك لتوفير المعلومات الصّحيحة في الوقت المناسب لأصحاب القرار لاتخاذ وصنع القرار الصّحيح (4) .

وتعمل «إدارة المعرفة» على تعزيز نظام متكامل لإدارة رأس المال الفكري(5) في المؤسسة وذلك لخلق وتحديد وتقييم وحصر وتطوير الأصول الفكرية(6) والتّشارك بها وحسن استثمارها رفعا لأداء المؤسسة وتحقيقا للنّجاعة. وتشمل عمليات ادارة المعرفة  توليد المعرفة وتنظيمها وتخزينها وكذلك نقلها ومشاركتها ثم تطبيقها كما يوضحها ويوضح العلاقات بين تلك العمليات الشّكل (1):

تعمل إدارة المعرفة على تحسين استثمار المهارات والخبرات التي يمتلكها العنصر البشري الذي يعمل داخل المؤسسة، وذلك بهدف إتّخاذ قرارات ذات كفاءة وفعالية، كما تعمل على  تعزيز مكانة المؤسسة من خلال إعادة الثقة في خدماتها ومصداقيتها تجاه المُتعاونين معها.

وقد ازدادت الحاجة لإدارة المعرفة في ظلّ التّحديّات والتّهديدات التي تواجه مؤسّساتنا خاصّة العموميّة منها، من ندرة مواردها الماليّة وتعثّر توفّر المعلومة لمستحقّيها وهشاشة علاقاتها مع عملائها ومزوديها وضعف الحوكمة لديها.

كما باتت إدارة المعرفة ضرورة واقعيّة فرضها التّقدّم المعلوماتي والتطوّر التّكنولوجي الكبيرين والانفجار المعرفي ممّا أدّى إلى تقليص الوقت والجهد، وفرض تعديلات في الأسلوب والنّماذج والهياكل، وذلك بخلق المعرفة والمعلومات، وابتكار أفكار حديثة ومبدعة.

تقوم «إدارة المعرفة» على ركائز أربع بنسب متفاوتة أهمّها العنصر البشري (50 %) تليه العمليّات والمحتوى (20 % لكلّ منهما)، ثمّ التّكنولوجيا (10 %) (الرّسم «2»).  

وبعد الإحاطة بنوعيّة المعرفة وأهمية إدارتها كرافعة لمؤسّساتنا خاصّة العموميّة منها، نمرّ إلى الحديث عن الذّكاء الاصطناعي والعلاقة بينه وبين إدارة المعرفة فيما ينفع النّاس ويُيَسِّرَ حياتهم.

يعرّف الذّكاء الإصطناعي «Artificial Intelligence» على أنّه الذّكاء الذي تعكسه الآلات التي ابتكرها الذّكاء الطّبيعي للإنسان، ويُعَرَّفُ مجال الذّكاء الاصطناعي على أنّه «مجال دراسة العوامل الذّكيّة للجهاز الذي يدرك من خلالها بيئته ويتّخذ إجراءات تزيد من فرصته في تحقيق أهدافه بنجاح»(7) . كما يُستخدم مصطلح «الذّكاء الإصطناعي عادة لوصف الآلات (أو أجهزة الحاسوب) التي تُحاكي الوظائف «المعرفيّة» التي يربطها البشر بالعقل البشري مثل «التّعلّم» و«حلّ المشكلات» (8)  

ويُمثل الذّكاء الاصطناعي إحدى تمظهرات التّكنولوجيّة الرّقميّة الحديثة، وهو بالتّالي ركيزة من الرّكائز الأربع لإدارة المعرفة كما سبق ذكره، ولكن ما العلاقة بين إدارة المعرفة والذّكاء الاصطناعي فيما ينفع النّاس ويُيَسِّرَ حياتهم؟

في دراسة احتوتها مجلة الاقتصاد الاسلامي العالميّة الصّادرة عن المجلس العام للبنوك والمؤسّسات الماليّة الإسلاميّة(9)،تمّ التّأكيد على أنّ أيّة إدارة للمعرفة لن يُكتب لها النّجاح إذا لم ترافقها سياسة نقل وتحويل وتحكّم في تكنولوجيات أنظمة المعلومات، كما عرضت الدّراسة أنظمة الذّكاء الاصطناعي وتطبيقاتها المساعدة في عمليّات إدارة المعرفة ومنها النّظم الخبيرة التي يتمّ بموجبها خزن الخبرات والمعارف المتراكمة معتبرة أنّ تطبيقات تكنولوجيّا أنظمة المعلومات تعتبر واحدة من المفاتيح الأساسيّة للكفاءة والفعاليّة لإدارة الأعمال وأنّ استراتيجيّة استخدام تكنولوجيا المعلومات هي واحدة من استراتيجيّات إدارة المعرفة(10).

يقول تعالى:«..فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ »(11) ذلك وعد اللّه ولن يُخلف اللّه وعده. وكلّما تقدّم الإنسان في مجال المعرفة والتكنولوجيا كلّما اكتشف ما به يتحقّق نفعه، وكذلك الحال من خلال إدارة المعرفة والذّكاء الاصطناعي.

فإن كانت إدارة المعرفة رافعة لمؤسّساتنا الاقتصاديّة والاجتماعيّة بما يضمن توفير حاجيّات المجتمع الأساسيّة والاستراتيجيّة بما ينفع أفراده ويُيسّر حياتهم، فإنّ عالمنا اليوم الذي يعاني من أزمات إنسانيّة مستمرّة سواء نتجت عن كوارث طبيعيّة أو تسبب فيها الإنسان، في حاجة ماسّة الى الذّكاء الاصطناعي وعلوم البيانات، بالإضافة الى الخبرة المتمثّلة في العلوم البيئيّة والمساعدات الإنسانيّة، من أجل إنقاذ المزيد من الأرواح وتخفيف المعاناة، وذلك عبر تحسين الطّرق التي تتنبأ بحدوث الكوارث وتعزيز التّعامل معها قبل وقوعها أو بعد كما جاء في مقال نشر حديثاً ، لبراد سميث الرّئيس والمدير القانوني في شركة مايكروسوفت(12) 

من جهة أخرى وحفاظا على الأرض أطلقت مايكروسوفت برنامج «الذّكاء الاصطناعي من أجل الأرض» ، بهدف حمايتها وذلك من خلال استخدام علم البيانات  وباستعمال تقنيات الذّكاء الاصطناعى في القطاعات الأربعة الرّئيسيّة : الزّراعة والمياه والتّنوع البيولوجي وتغيّر المناخ. يقول لوكاس جوبا رئيس برنامج الذّكاء الاصطناعى من أجل الأرض في مايكروسوفت «نعتقد أنّ الذّكاء الاصطناعي يمكن أن يكون مغيّراً لقواعد اللّعبة في مواجهة التّحديات المجتمعيّة الملحّة وخلق مستقبل أفضل، حيث يمكن أن يؤدّي التّبني المبكر لأدوات الذّكاء الاصطناعي في مجالات مثل الزّراعة والحفاظ على الموارد إلى تحقيق فوائد بيئيّة واقتصاديّة، وذلك انطلاقاً من إتاحة القدرة على إدارة الموارد الطّبيعيّة بشكل أفضل ووصولاً إلى رفع مستوى القوى العاملة»(13).