وجهة نظر

بقلم
عبدالرحمان بنويس
الفهم السّياسي المعاصر لاقتصاد التّعليم في الظّروف الطّارئة
 ولّد إشكال التّداخل البنيوي بين السّياسي والتّعليمي رهانات عدّة جعلتنا ننظر إلى طبيعة الفهم العام لقضيّة المناهج التّعليميّة من زوايا مختلفة وأنظار متعدّدة في زمن الوباء، ويتسيّد هذا النّظر الفهم الكلّي للسّياسي في علاقته بالتّعليمي، والتّفكير في البعد الاقتصادي للمنهج التّعليمي في نظر السّياسي، فما هي تجلّيات التّلاقح العملي بين الفكر السّياسي والتّعليمي والاقتصادي؟ وهل يمكن اعتبار ابتكار مناهج تعليميّة في الظّروف الطّارئة عبءا اقتصاديّا إضافيّا مرهقا لميزانيّة الدّول في الظّروف العاديّة؟ أم أنّ كلّ اقتصاد في التّعليم هو تفكير سياسي لإحياء باقي المجالات الحيويّة؟ كلّ هذه الأسئلة وغيرها سنتداول الحديث عنها في النقاط الآتية:
أوّلا: الفكر السّياسي ودوره الرّيادي في الارتقاء بالمناهج التّعليميّة
لا أحد يماري في كون السّياسي هو الرّجل الأول المستهدف بالإصلاح، لأنّ بنية السّياسة الفلسفيّة تختصر في الاقتراح والتّوجيه والدّراسة المجتمعيّة المبنيّة على الإحصاء والمسح، إضافة إلى أنّ السّياسة الشّرعيّة من الأبواب الكبرى للفقه الإسلامي من حيث بيان العلاقة بالحاكم والمحكوم وواجب كلّ منهما، والنّظر المحكم في تدبير وإيالة الشّأن العام. لكنّ السّياسة في المفاهيم والبراديغمات المعاصرة تغيّرت وتطوّرت، وأضيفت إليها تحسينات شكليّة فأصبحت ضروريّات، فانقلبت الموازين، وأصبحت السّياسة معيارا للتّراشق وخدمة طرف على حساب آخر، وتدخّلت فيها المنافسة الجشعة فقزّمت الدّور الإصلاحيّ للسّياسي المبني على المرجعيّة الحزبيّة أو الحركيّة، لذلك نجد من يهتم بالحقائب الوزاريّة في الكثير من البلدان ينظر إلى مجال التّعليم على كونه مجالا للرّبح إذا تعلّق الأمر بخوصصة المدرسة، وذلك بإظهار الجوانب الشّكليّة المتعلّقة بإضافة مناهج غربيّة على المقرّرات والبرامج التّعليميّة، وتزيين فضاءات المؤسّسة وفرض ضرائب ماليّة مرتفعة تبعا لهذه المقاييس الشّكليّة.
أمّا إذا تعلّق الأمر بالمدرسة العموميّة، فإنّ نفس المسؤول ينظر إلى التّعليم سواء في شقّه التّربوي أو التّكويني على أنّه من أسباب فشل الاقتصاد، لضخامة الميزانيّة المرصودة إليه مقارنة مع حجم المخرجات المنتظرة في المناهج الذي تبتغيها الدّولة. والحقّ أنّ تلك الميزانيّة لا تفِ بالغرض، لأنّ بيداغوجيّة المعرفة المفروضة لا تتساوق والمحيط الذي توجد به المدرسة، أو أنّ البنية المعرفيّة التي تُتلقّى في مراكز التّكوين مختلفة تماما مع واقع العمل، ممّا يجعل الفاعل التّربوي الممارس في تكوين مستمر، واعتبار عمله تجارب مضطربة، ولا يخفى عن ذي حصيف أنّ التّجارب ما هي إلّا معايير لإثبات النّظريّات فحسب.
إنّ السّياسي المحنّك هو الذي يسعى برؤاه الاستراتيجيّة إلى الخروج من هذه الدّوامة، وتقريب حقيقة المفاهيم السّياسيّة في علاقتها بالتّربية والتّعليم وخاصّة في الظّروف الطّارئة، وأمّا التّراشق الفكري والسّياسي فلن يزيد المجال سوى ضنكا وأزمة، ممّا يتطلّب فتح أفق الشّراكات التّواصليّة من أجل مساهمة الكلّ في الارتقاء بالنّموذج التّعليمي.
ثانيا: التلاقح الفكري قسيم الإصلاح التّعليمي
إنّ الرؤية الصّحيحة في نظرنا تتطلّب أن يكون الفاعل السّياسي جليس الفاعل التّربوي ومشتركا في همّه، إذ كلاهما يسهر على بناء منظومة قوامها «تخريج المواطن الصّالح لذاته ولمجتمعه، والمتفاعل مع ظواهره وزمانه ووقائعه»(1)، ولو كان هذا الأمر حاضرا في الواقع المعاصر لما وجدنا هذا الشّرخ الكبير بين الفاعل التّربوي الذي يتلقّى كلّ ما أنتجه الفاعل السّياسي بالنّقض والهدم، واعتبار هذا الأخير مجهودات الفاعل التّربوي مجهودات لا ترتقي إلى سلّم الطموحات.
إنّنا نحتاج إلى إعادة بنية فكر الفاعلين في صياغة المناهج والمتحكّمين فيه، ذلك أنّ السّياسي يجب أن تتوفر فيه النّجاعة والكفاءة العلميّة التي تؤهّله لممارسة هذا الدّور التّحويلي والتّفاعلي، ويجب أن يكون صريحا في سياسته الدّاخليّة والخارجيّة مع جميع الشّركاء، مبتعدا عن الدّغمائيّة التي قتلت مجال السّياسة حتّى أضحى السّياسي لدى الجميع أضحوكة وكاذبا ومنافقا، غائبا طيلة مساره السّياسي حتّى إذا جاءت فترة الانتخابات، تزيّن بلباس العوام في الحواضر والقرى يستجدي أصواتهم في المكاتب الانتخابيّة، مزيّنا صراخه الإنتخابي بالحديث عن إصلاح التّعليم ومناهج التّربية والتّكوين وإيجاد سبل للحدّ من البطالة... هذا النّموذج يقتصر الإصلاح في اقتصاد التّعليم، مع كونه ليست له أدنى قدرة معرفيّة بيداغوجيّة أو منهاجيّة لاقتصاد المعرفة.
وأمّا الفاعل التّربوي(2) فينبغي عليه أن يكون واسع النّظر، عميق التّفكير في طَرْق الموضوعات التي ينبغي أن تُدرج في المناهج، بدل الحشو واستهلاك المعلومات منتهية الصلوحيّة، وإعادة النّظر في الهوّة الموجودة بين التّخصّصات العلميّة والأدبيّة، وإزالة النّظرة الدّونية للتّخصّصات الإنسانيّة والتّاريخيّة، بالتّركيز أساسا على دراسة التّاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة والفكر الإسلامي وجعلها موادَّ مصاحبة للتّخصصات العلميّة في التّعليم الجامعي، كما يجب التّركيز على الكفاية الوظيفيّة في التّكوين، «والكلام عن الكفاية هو كلام عن مواصفات محدّدة يتطلّبها الإنجاز الجيد والكامل لمهمة أو وظيفة أو دور، ويتجسّد مدلولها في أفعال نقوم بها، ويظهر مستوى التّمكّن منها في نوعيّة الأعمال التي نقوم بها»(3) .
إن الكفايات في الوقت الرّاهن أصبحت مطلوبة من الجميع، بالبحث عن السبل الموصلة إلى اقتصاد المعرفة والسّياسة المعرفيّة التي تربط بين المناهج التّقريبيّة والأحداث الواقعيّة المتسارعة، ولا أحد يتصوّر هذا الطّرح بِقَدْره سوى الخبير في المجال السّياسي والتّربوي في الآن نفسه.
ثالثا: المنهجيّة الإصلاحيّة في المقاربات البيداغوجيّة
المعتمدة في المناهج التّعليميّة
المقاربة البيداغوجيّة في الإصلاح التّربوي في عالمنا العربي عامّة والمغربي خاصّة تتخللها عدّة اضطرابات وتغييرات متنوعة، بعضها ظاهره الصّلاح وباطنه الفساد، ومن ينظر إلى كرونولوجيا الإصلاح التّعليمي يجد أنّ المرجعياّت والمقاربات البيداغوجيّة في بداية أمرها كانت ترتهن إلى المعرفة، أو ما يعرف بتبنّي بيداغوجيا المضامين، والتي كانت، قبل عشرينيّات القرن الماضي، ترى من الأستاذ والمعرفة مركزَ ثقل المناهج التّربويّة، فالأستاذ هو مصدر المعرفة ومنبعها الأصيل، وطبيعة المادّة المعرفيّة الـمُوجّهة كانت ترمي إلى الأصالة والقوّة والضّخامة. ولازلت أرى هذا النّموذج نموذجا راقيا خرّج كفاءات وإطارات عالية، غير أنّه وبحلول الاستخراب (أي الاستعمار) الغربي ورغبته الأكيدة في تغيير مناهج التّعليم وخاصّة الدّيني منه؛ ظهرت البوادر الأولى للإصلاح التّذبذبي، وذلك بالانتقال من نظريّة المضامين إلى بيداغوجيّة الأهداف، وجعل المحتويات والمضامين المنهاجيّة تكتسي صبغة التّدريس بالأهداف والمرامي، فتمّ تقزيم المعرفة والتّخلّي عنها نسبيّا وتحويلها إلى مقياس المعامل والخطط العسكريّة. وللتّاريخ فهذا المنهج التّربوي له حسناته لكنّ سيئاته كثيرة، ومن بين هذه السيّئات اعتبار الأستاذ في مرتبة دونيّة، فالتّراجع عن قيمة المربّي وإضعاف القادر على تنزيل المناهج بمثابة ضعف المناهج نفسها.
ولم تقتصر بيداغوجيّة المعرفة على هذا، بل أضافت أشياء أخرى من قبيل بيداغوجيا الكفايات التي تعتمد على القدرات والمؤهّلات الموجودة عند التّلميذ أوالطّالب، وأسُّ هذه المقاربة هي جعل المتعلّم محور العمليّة التّعليميّة التّعلّميّة، واعتبار المعرفة والأستاذ وسيلتين للارتقاء بالمتعلّم، وممّا لوحظ على مستوى التّكوين في مراكز التّكوين العليا حاليّا؛ الرّغبة الأكيدة في اعتماد الكفايات كمقاربة بيداغوجيّة والتّدريس بالمفهوم العلمي كطريقة تجعل المتعلّم منخرطا في مجتمعه، وفي نظرنا على الأقل تجعل المتعلّم يدرك مفاهيم علميّة يحتاجها دوما في حياته، وضبطها من أولى الأولويّات، غير أنّها غير وافية بالغرض للتّحكم الدّولي في أولويّات أهداف تعليمنا، والتي بانت ملامحه في أزمة كورونا.
لكن الأمر المقلق في هذه المقاربات البيداغوجيّة أنّ مرجعيتها كلّها تستند إلى مدارس ذات مرجعيّة فكريّة غربيّة، فالمقاربة بالمضامين ترجع إلى المدرسة اليونانيّة القديمة وإلى الفلسفة الأفلاطونيّة والسّقراطيّة المنبثقة من ساحة الأكورا، وأمّا المقاربة بالأهداف فمرجعيّتها السّلوكيّة والتّنظيريّة مصدرها المدرسة الأمريكيّة والرّوسيّة خاصّة مع ثورندايك وسكينر وبافلوف وغيرهم، وتضاف إليها المقاربة البنيويّة الكلّيّة الصّادرة عن المدرسة الألمانيّة وخاصّة كوهلر وكوفكا، وأمّا المقاربة بالكفايات والقدرات فمرجعيتها المدرسة الفرنسيّة التي تعتمد البنائيّة والسّوسيوبنائيّة التي تنطلق من ذات المتعلّم... وبالرّجوع تاريخيّا إلى هذه المقاربات نجدها في صراع سياسي بين الدّول التي ترغب في التّحكم في العالم والسّيطرة على أفكاره، لذا فهي وليدة أوطان صالحة لها، وقادرة على الإنتاج في بلدانها.
إنّ ما ذكر سالفا لا يمكن بحال وصفه بالتّخلّف الشّمولي، ولا ينبغي لنا الدّعوة إلى المحيد عنه، ولكن نأخذ منه ما يتوافق مع بيئتنا وهويتنا ومرجعيّتنا الإسلاميّة، ونترك ما لا يتوافق معها، ولذلك وجدنا شرخا كبيرا في حلّ المشكلات التي تعتري حياتنا وواقعنا من قضايا وأحداث، «ولم يعد من المهم، حشو أذهان التّلاميذ بالمضامين والمحتويات الدّراسيّة، بقدر ما أصبح من المهمّ تطوير قدراتهم على التّفكير النّاقد والتّفكير الإبداعي، وتزويديهم بالوسائل والمهارات المعرفيّة التي تساعدهم على التّكيّف مع ظروف البيئة وإكسابهم القدرة على حل المشكلات»(4)، والواجب الذي نراه في ثنايا هذه المقاربات البيداغوجيّة هو اعتماد النّمط الذي يقوي الاعتزاز بالنّفس والتّربية على القيم المشتركة، والتي تعلي من شأن الفرد وخدمته، لأنّ «إرساء بيداغوجيا المعرفة يقوم على إعادة النّظر في دور كلّ من وظيفة المدرّس ودور المتعلّم وأهمّية المحتوى الدّراسي»(5)، وهذه الأقطاب تمثّل رحى المنهاج التّربوي.
رابعا: الإشكاليّة التّصوريّة 
لصلاحيّة العلم للأزمات والكوارث
إنّ العلم يولد بين رحم أهله، وهو أداة مقصديّة في محاربة كلّ أنواع الجهل والتّخلّف المحيطة بالإنسان، وصلاحيّة العلم في واقعنا الرّاهن ترتكز على كَمِّ الدّراسات والأبحاث المرصودة للكوارث وكيفيّة مجابهتها، أي استحضار إعمال قواعد البحث العلمي في إنتاج الحلول، وما دام البحث العلمي لدينا مناسباتيّا فمن الصعوبة بمكان الحديث عن صلاحيّة العلم لمعالجة الأزمة، وتبقى الصّدفة والحظّ الخيارات الكفيلة لدفع أنماط الشّرّ، وهذا ما نشاهده أحيانا في مخرجات بعض المناهج التّعليميّة مع جائحة كورورنا، إذ تحوّلت المختبرات العلميّة بسببها مناسبة للبحث والنّظر، والموائد الفكريّة مناسبة للحديث والنّقاش والخروج بتوصيات، لكن كلّ ما ذُكر يبقى إجرائيّا وتجريديّا، بينما المعقوليّة والتّفكير العميق في ذلك يبقى في الرّفوف إلى حين الحاجة إلى الاستشهاد به لا تطبيقه.
إنّنا نرى غياب ميزانيّة مرصودة للبحث العلمي في زمن كورورنا، وحتّى إن كانت رُصدت فتبقى نظريّة غير مرصودة إلاّ بعد مرور وقتها الأساسي، فأصبح التّدبير مرتقبا، والحساب لها أوليّا، في غياب العدّة الماليّة مطلقا، ولذلك فالمختبرات العلميّة عاجزة عن أن تقدم تجارب ودراسات تخصّ كوفيد 19:
 أولا: للإجراءات الإداريّة المعرقلة، وتردّي الخدمات التّقنيّة.
وثانيا: لعدم الثّقة الكاملة في المحرّكين لهذه المختبرات من العلماء والمفكّرين الجامعيين.
وثالثا: لغياب الوسائل التّقنيّة المساعدة لذلك نتجة تكلفتها وسعرها المرتفع.
ورابعا: لعدم وجود رؤية منهاجيّة لذات المختبرات، وللوزارة المكلّفة بالقطاع أيضا.
وباختصار شديد، فإن هذه المختبرات في الحقيقة هي مجسّمات ومتاحف لا أقلّ ولا أكثر، إلاّ القليل منها التي تشتغل بهمم عالية وعزائم قويّة رغم الإمكانات المحدودة،
خلاصة أمل
 وعلاقة بما بيّناه نخلص إلى أنّنا نوجه -بعد هذه العرائض- إشكاليّة علاقة التّعليم بالمجالات الأخرى تأثيرا وتأثّرا، وكأنّ التّعليم بمختبراته وعلمائه ومفكّريه منزه تماما عن الواقع، وهذا ما أكّدناه سالفا من انعزال المفكّرين عن العامّة وعن طمأنتهم من هكذا أزمات، والوقوف بجانب المسؤولين في الإفادة والاقتراح، ولكن سبق الحكم بفقدان الثّقة، وهي نتائج وضرائب تقطف ثمار إهمال المثقّفين والمفكّرين، إضافة إلى زرع إعلام فاشل غير قادر على توجيه المجتمع إلى الأصلح والصّالح.
الهوامش
(1) ينظر أهداف المناهج التعليمية المغربية منذ الميثاق الوطني الصادر سنة 1999م إلى القانون الإطار 17.51.
(2) بمن فيهم الخبراء ورؤساء المصالح والمكلّفين على مديريّات المناهج التّعليميّة وأرباب صناعة التّأليف المدرسي أو الجامعي
(3) تكوين المدرسين نحو بدائل لتطوير الكفايات للحسن مادي مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء المغرب الطبعة الأولى 2001م ص31.
(4)  بيداغوجيا المعرفة: حل المشكلات وتطوير القدرات العقلية لمحمد مزيان أفريقيا الشرق الدار البيضاء المغرب الطبعة الأولى 2016م ص9
(5)  بيداغوجية المعرفة لمحمد مزيان ص9.