حديث في السياسة

بقلم
محمد أمين هبيري
القرية في القرآن دراسة لسوسيولوجيا الدولة الفاشلة
 كثيرا ما يتمّ اقتران القرية في القرآن بعاقبة الهلاك والدّمار، من ذلك قوله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا﴾(1)  أو كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾(2) وهو ما دفع البعض للتّساؤل حول المقصد من وراء ربط القرية بالهلاك خاصّة وأنّ الرّسول ﷺ في هجرته إلى تأسيس الدّولة قد حوّل اسم عاصمته السّياسيّة من «يثرب» إلى «المدينة»، فهل في ذلك تصريح ضمني بأنّ قريش هي عبارة عن الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا التي وجب الخروج منها ؟
تذكر معاجم العربيّة أنّ لفظ (قري) يدلّ على جمع واجتماع، من ذلك (القرية)، سمّيت قرية لاجتماع النّاس فيها. وكما أنّ لفظ (القرية) هو اسم للموضع الذي يجتمع فيه النّاس، فهو أيضاً اسم للنّاس جميعاً، ويستعمل في كلّ واحد منهما. كما أنّ لفظ (القرية) في العرف المعاصر هو اللّفظ المقابل للفظ (المدينة)، ولكلّ منهما دلالة تغاير الآخر قليلاً أو كثيراً، فإذا كان أوّلهما يشير إلى الفقر والتّخلّف من حيث الجملة، فإنّ الثّاني يدلّ على الغنى والتّحضّر من حيث الجملة أيضاً.
تكمن أهمّية الموضوع في معرفة خصائص الدّولة الفاشلة (الجزء الأول) في ظلّ واقع وطني وإقليمي حرج، مع بيان انعكاساتها ونتائجها (الجزء الثاني) ما يؤدّي إلى نكوصها إلى القرية بالمنطق القرآني.
الجزء الأول: صفات القرية؛ أو خصائص الدّولة الفاشلة
صدق ابن خلدون في عبارته الشّهيرة التي قالها في مقدمته «العدل أساس العمران والظّلم مؤذّن بخرابه»، ذلك أنّ خراب العمران إنّما هو انقطاع النّوع البشري وهلاكه سواء كان هلاكا مادّيا (الموت) أو هلاكا معنويّا وذلك بكثرة الفساد (ضيق العيش). ولا يكون الهلاك إلاّ من خلال صفتين أوّلهما الظّلم أو غياب القانون (العنصر الأول) وثانيهما الفسق أو غياب الأخلاق (العنصر الثّاني). 
العنصر الأول:
الظّلم؛ أو غياب الوازع الخارجي التّشريعي
اشترط اللّه في السّنن التّاريخيّة شرط الظّلم للتّأكيد على صفة القرية ومن ذلك في قوله تعالى:﴿وَتِلكَ ٱلقُرَىٰ أَهلَكنَـٰهُم لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلنَا لِمَهلِكِهِم مَّوعِدا﴾(3) ولا يكون الظّلم إلاّ في صورة غياب القانون بما هو الفيلسوف الأعظم الذي يمكن الاحتكام إليه في صورة تنازع طرفين أو أكثر أمام القضاء الذي يسهر على حسن تطبيق القواعد القانونيّة تحقيقا للعدل وإرساء لدعائم سيادة القانون واحترام إلزاميته. ويتمثّل الهدف الأسمى للقانون في تنظيم العيش في الجماعة، وتحقيق التّعايش السّلمي بين أفرادها عن طريق وضع قواعد سلوك تخاطب كلّ واحد منهم، وتحدّد ما له من حقوق وما عليه من واجبات. وقد أدّى تعدّد الحاجات الإنسانيّة وتنوّعها إلى اختلاف القواعد القانونيّة التي تعمل على تنظيمها وضبط العلاقات النّاشئة منها.
في غياب هذا الوازع تغيب معه كلّ مقومات العيش المشترك وهو ما يؤدّي إلى الهلاك المادّي والمعنوي ولذلك وجب على السّلطة السّياسيّة عموما والسّلطة التّشريعيّة خصوصا أن تسنّ قوانين واضحة وذلك لتكريس العدالة داخل الكيان السّياسي للدّولة (الحرّيّة الّسياسيّة) ولتكريس العدالة الاجتماعيّة عبر توزيع عادل للثّروة (الحرّيّة الاقتصاديّة)، ولا يكون ذلك إلاّ من خلال إصلاحات شاملة في المنوال التّنموي من جهة وفي المنظومة الجبائيّة من جهة أخرى. وهذان النّوعان من الحرّية يعتبران أهمّ الرّكائز والمقومات التي يقوم عليهما مفهوم العيش الكريم. 
العنصر الثّاني: الفسق؛ أو غياب الوازع الدّاخلي القيمي
نجد الشّرط الثّاني في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾(4) والفسق في اللّغة عدم إطاعة أمر اللّه تعالى فيشمل الكافر والمسلم العاصي، وفي الشّرع ارتكاب المسلم كبيرة أو صغيرة مع الإصرار عليها(5)، وهو نقيض التّقوى. ففي المفهوم المعاصر نجد أنّ التّقوى تمثّل الوازع الدّاخلي الذي ينظّم العلاقات الاجتماعيّة، فيجرّم ارتكاب المحظورات التي تشكّل تهديدا لسلامة المجتمع ولأمنه العام ويحثّ على مكارم الأخلاق والتّقيّد بها حتّى ينتقل المجتمع من الحيوانيّة (قانون الغاب) إلى البشريّة (المدينة الفاضلة) التي دعا إليها بعض الفلاسفة. ولذلك فإنّ تقوى اللّه في مخافته باجتناب نواهيه، من ذلك الأعمال الضّارة التي ينجرّ عنها ظلم لنفس مرتكبها فترديه إلى أسفل سافلين، واتباع أوامره، الأعمال التي يقوم بها الفرد الصّالح في المجتمع ليثبت حسن أدائه لأمانة الاستخلاف.
وعلاج الفسق في التّربية السّليمة القائمة على الأخلاق، فالقيم الكونيّة للاستخلاف هي الضّامنة لاستغلال الثّروة دون إساءة استغلالها المؤدّية في كثير الأحيان لإهدارها. يمثل إذا المعيار الأخلاقي القيمي والمعيار التّشريعي القانوني أحد أهم معايير التّقييم لخصائص الدّولة الفاشلة أو صفات القرية بالتّعبير القرآني. ولا يكون الهلاك بنوعيه مكتملا إلاّ في صورة بيان علل القرية أو ظهور الأزمات الخانقة والمتلاحقة، وهو ما سنتعرض إليه في الجزء الموالي.
الجزء الثاني: انعكاسات القرية؛ أو أزمة الدّولة الفاشلة
تعتبر الدّولة الفاشلة أو القرية بالمنطق القرآني دولة عاجزة عن إيجاد اتفاق سياسي (دستور) واقتصادي واجتماعي (مخطّط) وحتّى ثقافي (سرديّة) واضح ومشترك بين مختلف النّاس، قائم على أساس المواطنة داخل كيان الدّولة، والتي تمثّل العصبيّة المعاصرة بالمنطق الخلدوني التي بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكلّ أمر يجتمع عليه. فالعصبيّة أساس نهضة المجتمع أو أفول الحضارة. وأمّا المفهوم العصري للعصبيّة فهو ينتهج نهج المدنيّة المنفتح على الآخر وابتعاده عن نهج القوميّة بالمفهوم المنغلق المولد لنتائج وانعكاسات متنوّعة ومتعدّدة منها ما هو هيكلي (العنصر الأول) ومنها ما هو بنيوي (العنصر الثّاني)
العنصر الأول: انعكاسات هيكليّة 
تعجز الدّولة الفاشلة عن الوفاء بتعهداتها تجاه مواطنيها بركائز الأمن الخمس؛ السّياسي (الاستقرار السّياسي) والحمائي (بشقّيه العسكري والمدني) والاقتصادي (نمو ورخاء) والبيئي (المحافظة على التّوازن البيئي) وأخيرا المجتمعي (السّلم المجتمعي) باعتبارها محتكرة لامتيازات السّلطة العامّة. ولعلّ من بين أهمّ الأزمات والعلل التي نجدها تلك المتعلّقة بأزمة الشّرعيّة سواء أكانت أزمة شرعيّة عنيفة (الانقلابات العسكريّة) أو حتّى أزمة شرعيّة ناعمة (نموذج صوري للدّيمقراطيّة).  ما يؤدّي إلى أزمة مشاركة سواء في الحياة السّياسيّة عبر العزوف عن الانتظام في مؤسّسات حزبيّة، أو في الحياة المدنيّة عبر العزوف عن المشاركة في مؤسّسات المجتمع المدني. 
وللفشل مستويات ثلاث وهي:
• المستوى الاقليمي: ضعف الكيان يبرز مشاكل تتجاوز الأقطار مثل حركة اللاّجئين والحروب الأهليّة لطبيعة انتشار التّهديدات مثل ما نتج من تأثير للنّزوح للاجئين من دولة مالي لدول المغرب العربي وتحديدا الجزائر بعد سقوط شمال مالي بيد الجماعات المسلّحة.
• المستوى عبر الإقليمي: مثل المناطق الحدوديّة بين الشّرق الأوسط وإفريقيا والتّفاعلات الأمنية بعيدة المدى بين الدّول الإفريقيّة.
• المستوى العالمي: وقد حتّم اعادة النّظر في مقولات الأمن ومفاهيم الإرهاب خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وبروز التّنظيمات الرّاديكاليّة المسلّحة كالقاعدة وأخواتها.
تبدو وضعيّة الدّولة الفاشلة خانقة على جميع المستويات ولعلّ ما يزيد في الوضع تأزّما وضيقا كثرة لوبيّات الفساد التي من شأنها أن تعطّل الاعتمار (الاستثمار) فتضعف الإعمار (الاقتصاد).
العنصر الثّاني: انعكاسات بنيويّة
إنّ ما يحدّ من نمو الإعمار بالتّعبير الخلدوني هو تدخّل عدّة عوامل. ويبقى أهمّها الفساد المالي والإداري الذي يخسر الدّولة موارد ماليّة وبشريّة لا تستطيع تداركها إلاّ بعد جهد وعناء شديدين. لذلك وجبت محاربة الفساد حتّى تبنى الدّولة على ركائز صحيحة. فلا أحد يستطيع تقبّل أن تكون الدّولة ديمقراطيّة وفاسدة في نفس الوقت. فالدّيمقراطية لا يمكن أن تكون وسيلة لتنظيم الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك. والحاجة التي نقصدها ليست ما تفرض متطلبات الظّروف السّياسيّة الآنية التي تستدعي اتباع النّهج الدّيمقراطي كخيار إلزامي، بل نعني بها الوعي الجمعي بهذه الحاجة طوعيّا. وإذا كانت الدّيمقراطيّة تفترض العدالة الاجتماعيّة وعدم التّمييز بين الفئات بحسب انتماءاتها العرقيّة أو القوميّة أو غير ذلك، فإنّ تقسيم الشّعب إلى فئات مميّزة على حساب أخرى، لا يعني سوى تشريع القوانين بما يتوافق مع الأقلّية الغالبة بما لا ينسجم مع الوحدة القانونيّة ويتعارض مع الدّيمقراطيّة التي تصبح أوليغارشيا أو ديمقراطيّة مزيّفة تتّخذ من الفساد عنوانا لسياستها وكلّ ذلك من القرية بالمفهوم العصري للقرية بالتّعبير القرآني.
لعل من أهم نتائج فشل الدّولة نجد:  
• وجود حالة من العنف الدّاخلي والمشاكل ذات النّشأة الدّاخليّة؛
• الانهيار الدّاخلي للنّظام والقانون بتوقّف بنى السّلطة؛
• غياب المؤسّسات القادرة على تمثيل الدّولة على المستوى الدّولي والتي تملك سلطة التّفاوض مع العالم الخارجي.