تحت المجهر

بقلم
د.عزالدين عناية
الترجمة المُرابِطة
 تُشكّلُ التّرجمة في السّياق العربي الرّاهن دعامة نهضويّة لا غنى عنها. يتوسّل الفكر من خلالها رفد النّشاط الثّقافي بخطاب حافز للذّات وشاحذ للعقل. ومن هذا المنظور يقتضي المقام أن تكون التّرجمة فعلا ثقافيّا واعيّا وهادفا. فليس ثمّة ترجمة لغرض التّرجمة، خالية من دواعيها ومقاصدها، إذ لكلّ واقع ثقافي استراتيجيّة خاصّة به في التّرجمة، واستراتيجيّة التّرجمة المرابِطة في الواقع العربي تتلخّص في نشدان التّواصل مع الفكر العالمي بُغية تكثيف سُبُل إثراء الذّات وربطها بحراك الفكر العالمي، من هنا كان المقصد التّنويري مضمَرا ومعلَنا في مشروع التّرجمة. 
ولعلّ بحث الثّقافة العربيّة عن الانعتاق من قيد التّقليد، والتّطلّع لتخطّي الانحصار الذي أُسِر فيه العقل، يملي عليها بناء تواصل رصين مع الفكر العالمي، العقلاني والتّحرّري، حتّى يكون فعل التّرجمة فعلا إضافيّا.
صحيح أن ثمة مجالات في الثّقافة العالميّة يجد فيها المثقف العربي نفسه مدعوّا للتّواصل معها عبر لغة ثانية، أو عبر التّرجمة. وعلى سبيل المثال يبدو ما يتوفّر من أدوات معرفيّة للإحاطة بالواقع السّوسيو-ديني العربي المتفجّر وفهمه لا يفي بالحاجة، في ظلّ ندرة كتب علم الاجتماع الدّيني وسوسيولوجيا الأديان والأنثروبولوجيا الدّينيّة وعلم النّفس الدّيني وفلسفة الدّيـن. لذلك يكثـر التّخبّـط في معالجـة الظواهـر التي يعيشهـا العـرب اليــوم، ولا يسعــف المــرء في ذلك ســوى خطاب متشنّـج في واقـع مستنفر.
لكن هذه الحاجة الماسّة ينبغي أن تكون حافزا لما نطلق عليه توطين التّرجمة، إذ يصعب إن لم نقل يتعذّر أن تَبْني ثقافة ما تواصلا مع الفكـر العالمـي من خارج لغتهـا، ولذلك يبقى توطين إبداعات الفكــر العالمـي عبر التّرجمـة عامــلا حاسمـا في التّواصـل مع ذلك الفـكر. ففي بلاد المغرب الكبير ملايين يتكلّمـون الفرنسيّـة، لكنّ المفكر «محمد أركـون» العائـد عبر لغـة الغنيمـة، كمـا سمّاها «كاتب ياسيـن»، لم يقـع انتقــاده واحتضانـه، أو لنقل مناقشته، سوى بعد ترجمته من الفرنسيّة إلى العربيّة. وبوجه عام ثمّة كتب قيّمة تمور بها السّاحـة الثّقافيّة العالميّـة، لن نكتسبهـا ما لم نعرّبها، ولا يكفي أن نقرأها في لغتهــا الأصليّــة إن كنّا نـروم صناعـة تواصل حقيقي مع الإبداعات العالميّة.
في خضم هذا المسعى، لا ينبغي الرّهـان في التّرجمـة على النّص الإيديولوجـي، بل التّركيز على النّص الرّصين والمتين والأصيل، لأنّ النّصّ الإيديولوجي مضلّل وخادع، ومحكوم استهلاكه بظرفيّة عابرة، وبقدْر ما يغوي الذّات يضلّها. وعلى سبيل المثال، من مفارقات القراءة العربيّة الحديثة لنصّ التلمود أن كان اعتمادها على مؤلَّف لكاتب جرماني المسمّى «روهلنج»، تعود أولى طبعاته إلى العام 1899م، وقد عرّبه الكاتب «يوسف نصر اللّه»، أحد النّصارى الشّـوام، في منتصف القرن الماضي، وجاء بعنوان: «الكنز المرصود في قواعد التّلمود». 
أتى تأليف الكتاب في حّمى موجة اللاّساميّة في أوروبا، التي كان انعكاسها واضحا على بنية المؤلَّف ومضامينه. وشيوع هذا الكتاب في الأوساط العربيّة، جاء بموجب تداعيّات الصّراع العربي الإسرائيلي، ما جعل جلّ الكتابات العربيّة المتحدثّة عن التّلمود تعتمد عليه اعتمادا رئيسا. 
كان الكتــاب المذكـور مدعــاة للضّرر بالاستهـواد العربــي، أي بالدّراسـة العلميّــة لليهوديّة، وقلّة من الدّارسين العرب من تفطّنوا إلى أنّ التّلمود هو أرحب ممّا اختزله فيه صاحب الكنز المرصــود. انتظرنــا طويــلا حتّى جاءت ترجمــة التّلمود من أصوله الآراميّة وبأسفاره العشرين (2012)، وذلك بالتّعاون بين كوكبة من المترجمين أشرف عليهم الدكتور «عامر الحافي»، وتولّى مركز دراسات الشّرق الأوسط في عمّان نشره.
ولكن فعلَ الترّجمة يغدو بحقّ تنويريّا مرابِطا حين يعضد ذلك المسعى «نقد التّرجمة». ليس النّقد المكتفي بمراجعة لغة التّرجمات وأساليبها ومناهجها، بل النّقد الذي يتوجّه إلى مضامين تلك النّصوص، وما يمكن أن تسهم به من ترشيد وتنوير وتطوير للذّات.
صحيح أنّ التّرجمة في الثّقافة العربيّة المعاصرة قد بدأت تشهد بعض التّطوّر والنّضج، منذ إنشاء جملة من المؤسّسات المتخصّصة في الشّأن في مصر ولبنان والإمارات العربيّة، ولكن هذا التّحوّل الواعد ما زالت تعوزه حركة نقد للتّرجمة، تتابع تلك الإنجازات القيّمة، ليس في حدود عرض تلك الأعمال والتّعريف بها، بل في إعادة قراءتها وتبين إلى أيّ حدّ تشكّل تلك الإنجازات مادّة إضافيّة تنويريّة في الثّقافة العربيّة، لعلّ تلك النّقطة الجوهريّة هي مرحلة متطوّرة على درب التّوطين المنشود للتّرجمة.