في ظلال آية

بقلم
ابراهيم بلكيلاني
واجه حاضرك بقوّة الفعل والسعي والجهد المستمر
 يقول الحقّ تبارك وتعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾(1)
يقول الفخر الرّازي «فأمّا الخوف فلا يكون إلاّ من المستقبل، وأمّا الحزن فقد يكون من الواقع والماضي، كما قد يكون من المستقبل، فنبّه تعالى بالأمرين على نهاية السّعادة، لأنّ النّعيم العظيم إذا دام وكثر وخلص من الخوف والحزن، فلا يحزن على أمر فاته، ولا على أمر يناله، ولا يخاف انقطاع ما هو فيه وتغيّره فقد بلغ النّهاية وفي ذلك ترغيب في هذه الطّريقة، وتحذير من خلافها»(2)
فهذه الآية من آيات اللّه في الأنفس، وممّا تقول به العلوم النّفسيّة اليوم. فالتّسليم بمعنى الأخذ بالأسباب والتّوكّل على اللّه ثمّ الرّضا بالقضاء والقدر، يحمي النّفس من الخوف والحزن. تقول الدّراسات النّفسيّة الحديثة بأنّ الخوف يكون عادة من شيء مجهول، تخشى قدومه لجهلك به. لذلك من أحدث الظّواهر النّفسيّة اليوم ما يطلق عليه بقلق المستقبل، حتّى يبلغ بالبعض درجات خطيرة فتسقطه في الاكتئاب، ومقت الحياة والنّفور منها، وغيرها من الأمراض النّفسيّة والبدنيّة الخطيرة، وهي من أمراض هذا العصر. أمّا الحزن فهو عادة على ما مضى وانقضى، أو على أمر تعيشه. 
فعندما تعلم بأن ماضيك قد انقضى، ولم يبق لك غير التّفكّر والاستفادة وأخذ الدّروس منه، كي تتجاوز المطبّات التي وقعت فيها. وعندما تعلم أنّ حاضرك هو من صنعك، تتوسّل فيه بالأسباب وتسلّم للقدر بعد ذلك، تتحرّر من أكدار الحزن، فتواجه ماضيك بشجاعة المتدبّر والمتمعّن فيه، دون أن تسجنك صور الحسرة والنّدم، فترديك في زوايا الاكتئاب واليأس. وتواجه حاضرك بقوّة الفعل والسّعي والجهد المستمر، متوكّلا على اللّه، راضيا بأقداره، ومسلّما لقضائه.
أمّا المستقبل فتواجهه بحسن الظّنّ في اللّه، وتعيش تحت ألطاف رحمته، دون نسيان التّخطيط والإعداد والأخذ بالأسباب، وما سيأتي هو ما زرعته في يومك وما استفدت به من ماضيك، وتبقى قسمة الرّحمن لك هي العدل. فإذا واجهت مستقبلك بهذه الرّوح المستبشرة، تكون متحرّرا من كلّ أصناف الخوف، وفي ذلك قوّة لك في حاضرك. ولا خراب ولا هدم أكثر مما يفعله الخوف، فهو يسجن صاحبه، ويربك فعله، ويتحكّم في حركته حتّى تكون على شكلٍ مخاوفه. 
فالتّسليم للّه وحسن الظّنّ به وقوّة الإيمان تمنح النّفس لطائف تحرّرها من الحزن والخوف، فتواجه فصول الزّمن وتعرّجاته بقوّة وصبر وثقة، وذلك لا يمنحه على صورته الايجابيّة والمثاليّة مثل ما يمنحه الإيمان باللّه تعالى والتّسليم له وحسن الظّنّ به.
وطلب الأمن والأمان، مما جُبلت عليه النّفس. بل كلّ أعمالنا تدور حول تحقيق هذا المطلب في حياتنا الدّنيا ويوم الحساب. فطلب الرّزق هو بغرض تأمين متطلّبات العيش الكريم، والترفّع بالذّات عن مدّ اليد. فالرّزق عزّة للنّفس، ونأي بها عن كلّ ذلّ تفرضه الحاجة.
وطلب العلم هو أيضا بغرض توفير متطلّبات الحياة الكريمة الخالية من الأمراض، والتي تتوفّر فيها شروط اليسر، والفعاليّة، والهناء، وضبط وتوجيه الحاجات لتحقيقها بسلاسة. 
وطلب العدل هو سعي إلى تحقيق صورة الأمن والأمان اجتماعيّا وسياسيّا، حتى تُشبع الحاجات الضروريّة، ويمارس المرء حياته دون شعور بالضّيم أو الحيف.
وطلب الحبّ هو طلب للأمن الدّاخلي، الذي يفيض على النّفس راحة وطمأنينة وثقة. فالحبّ عطاء وتبادل، يبدأ من حبّ العبد لخالقه، وقد سبقه حبّ خالقه له. وحبّ المرء لأهله وذويه..حتّى يتحوّل الحبّ إلى عطر يعطّر الحياة الاجتماعيّة، فيكبح شططها، وميلها للأنانيّة..
جميع تلك المطالب وغيرها، ممّا جُبلنا عليه، وننام ونصحو عليه. والآية الكريمة تدلّنا إلى هذا الطريق. فالبداية بتسليم وجوهنا للّه تعالى، أي الإيمان الخالص به وله. فالإيمان تصديق كامل، وشعور داخلي يملأ الفؤاد بجمال وجلال اللّه تعالى. وعندما يمتلئ فؤادك بهذا الجلال والجمال، سيفيض عليك بنوره، لتخرجه إحسانا، أي جودة واتقانا في كلّ ما تعمل، وإن لم تتحقّق فيك هذه الصّورة، فجدد إيمانك.
الهوامش
(1)   سورة البقرة - الآية 112.
(2)   تفسير الفخر الرازي - الجزء الرابع، ص 4  - الطبعة الأولى - 1981م -دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.