في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
حقيقة الحكمة وعلاقتها بالقرآن
 ذكر القرآن حكمة آل إبراهيم، وحكمة داود وسليمان، وحكمة لقمان وعيسى بن مريم... وقال: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾(1) فرشّح لها مِن كل أبناء الزمان.
ولكن لمّا قال سبحانـه وتعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ﴾(2) وقال: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾(3). قال أصحاب نظريّة الوحيين: الحكمة هي السّنّة! وإلاّ ما معنى نزولها؟.
وهذا الزّعم يصطدم باللّغة، وبالاستعمال القرآني، وبالآثار التي يصحّحونها. فأمّا اللّغة، فإنّه لم يعرف فيها أنّ الحكيم لا يكون إلاّ نبيّا، وأمّا الاستعمال القرآني، فإنّ اللّه قال عن كتابه : ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ» (4)، وقال: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَــةِ﴾(5) والوحـي المتلو هو القـرآن، وقال بعد أن ذكر أمّهات الأخلاق: ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾(6). 
وأمّا مناقضتهــا للآثــار المُصحَّحـة، فمثـل ما رواه البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ضَمَّنِي النَّبِيُّ ﷺ إِلَى صَدْرهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ». ثم عقّب البخاري قائلا: «وَالحِكْمَةُ: الإِصَابَةُ فِي غَيْرِ النُّبُوَّةِ»(7).
وبهذا تتهافت هذه الشّبهة التي تعلّق بها أصحاب الوحيين، وتبقى الحكمة إمكانا قرآنيّا متاحا بفضل اللّه لأهل كلّ زمان، لا يستغني عنها إلاّ من رفض عصره، وأبى إلاّ أن يستنسخ (ماضيا مقدّسا) قد شغفه حبّا.
الحكمة ملكة يستفاد أصلها الأول من القرآن، وتؤهّل أهلها للإصابة في القول والعمل، والإصابة من الأمّة تتوقّف على كفاءة مراجع الحكمة فيها، وهي مؤسّسات العلم ومؤسّسات العمل:  ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾(8)
 إذن، حقيقة الحكمة التي كلّف الرّسول تعليمها للأمّيين هي إكساب القدرة على الانتقال من الإمكان السّماوي إلى الإمكانات التّاريخيّة المتعدّدة.
والرّسول ﷺ حين علّم الكتاب والحكمة، كان مقصوده أن يُخرّج الحكماءَ لا الببغاوات المقلّدين لحكمته، والعجيب حقّا أنّ أصحاب الوحيين يتداولون بلا حرج حديثا يروى عن النّبي ﷺ، فيه أنّه قال: «عليكم بسنّتي وسنة الخلفاء الرّاشدين المهديين»(9) ، أي أنّ الرّسول له سنّة، ولكلّ خليفة راشد - متى ما وجد، وفي أيّ عصر كان - سنّة أيضا، ولا يمكن أن نتصوّر سنّة الخلفاء وحيا، فتبيّن أنّ السّنة هي الحكمة العمليّة التّطبيقيّة التي اقتضاها كلّ عصر.
واقتران تعليم الكتاب بتعليم الحكمة في القرآن فيه إشارة إلى إمكان تخلّف الحكمة عن تعليم الكتاب، فنكون وجها لوجه مع ظاهرة: (كمثل الحمار يحمل أسفارا)، وظاهرة الأميّين الذين لا يقرؤون الكتاب إلا أمانيّ، وهذه الحالة هي المشار إليها فيما رواه أحمد عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ شَيْئًا، فَقَالَ: « وَذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ لَبِيدٍ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوَ لَيْسَ هَذهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَا يَنْتَفِعُونَ مِمَّا فِيهِمَا بِشَيْءٍ؟!» (10).
والعلم المقصود هنا هو الحكمة، لأنّ القرآن استمر حضوره في التّعليم، وبغياب الحكمة تتعطّل صلة الكتاب بالتّاريخ، ويصير الدّين صورا محنّطة تدّعي الحلول الصّالحة لكلّ زمان، وما هي إلا آصار كاسحة، وأغلال كابحة.
خاتمة
الأمّة المسلمة لها نسبتان متلازمتان: نسبة إيمانيّة تجعلها إطارا يتّسع لكلّ مسلم فيما فات وفيما هو آت، ونسبة كسبيّة تستقلّ فيها بمرجعيّة تطبيقيّة اقتضتها الحكمة النّاظرة في الممكن والمستطاع، سمها إن شئت سُنّة، أو أسلوب حياة، أو طريقة أو منهاجا، لكن عليك أن تعلم أنّها غير قابلة للاستنساخ إذا تغيّر لاحقا الشّرط التّاريخي.
هذه القاعدة للأسف يستحيل التّسليم بها من طرف عقل فقد وعيه التّاريخي، عقل رفعت فيه أمّة الكسب الأولى إلى مستوى الأسطورة، فحلّت في مخياله محلّ الدّين نفسه، وصارت تلك الأسطورة بشتّى صورها الطّائفيّة مصدر الشّرعيّة، فعطّلت باسمها فاعليّة الأجيال، وصودر حقّها في الانتماء إلى عصرها، وفي إنجاز كسبها باستقلال تامّ عن وصاية سلفيّة متخيّلة.
هكذا التبست في تراثنا حقيقة الدّين، والتبس مفهوم الأمّة، والتبس المفهومان ببعضهما حتّى لم يبق منهما إلّا صورة محنّطة غامضة، تعشقتها الجماهير، ووظفتها النّخب، وضحي لأجلها بالحاضر والمستقبل، ونفت القــرآن عن مركــزه، ويوشك أن يكون حالنا كحــال الذين قال اللّه فيهم: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَـا مِنْ قَبْلِـكَ فِي قَرْيَـةٍ مِنْ نَذِيـرٍ إِلَّا قَـالَ مُتْرَفُوهَـا: إِنَّـا وَجَدْنَـا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾(11)
الهوامش
(1)   سورة البقرة - الآية 269
(2)   سورة البقرة - الآية 231
(3)   سورة الجمعة - الآية 2
(4)   سورة يس - الآية 2
(5)   سورة الأحزاب - الآية 34
(6)   سورة الإسراء - الآية 39
(7)  فتح الباري شرح صحيح البخاري - الحديث 3546 - ص126
(8)   سورة النساء - الآية 83
(9)  عَنْ أَبِي نَجِيحٍ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ - رضي اللّه عنه - قَالَ: «وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَوْعِظَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَأَوْصِنَا، قَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ [رقم:4607]، وَاَلتِّرْمِذِيُّ [رقم: 266] وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(10) مسند أحمد بن حنبل - المجلد الرابع - الحديث عدد 17241
(11)   سورة البقرة - الآية 269