في الصميم

بقلم
د.عثمان مصباح
أفق القرآن وآفاق الأزمان
 في مقالنا السابق (1) أسسنا لقاعدة (وحدة الدين وتعدد الكسب بتعدد العصور)، لكن قد يقول قائل: ينبغي أن يكون القرآن قد دل على هذه القاعدة بطرق متنوعة، فهل دل القرآن على إمكان وجود سنة بعد سنة النبي ﷺ؟
حقيقة السنة النبوية في القرآن 
السنة النبوية في حقيقتها القرآنية هي خير ما أمكن إنجازه ضمن الشروط التاريخية للعصر النبوي، والإسلام ليس سوى دعوة إلى الخير، وأما الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر فمقصودهما تحصيل ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن دفعه من الشر، ليكون الخير أمكن وأغلب، والحرص على استنفاذ تلك الإمكانات هو عين الإحسان، وهو مناط الابتلاء في الدنيا، «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»(2)  فكل فسحة من حياة المؤمن هي فرصة لكسب خير في إطار المتاح: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ، أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ، يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا، قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ»(3) 
فانظر كيف جاءت كلمة (خيرا) نكرة لتدل على صور لا حصر لها، وجاءت فرعا لأصل هو الإيمان لتدل على علاقة متغير بثابت، وكل ذلك إشارة إلى أن الكسب متفاوت لتفاوت الاستطاعة، وتابع للإمكان الذي يختلف باختلاف الأزمان.
ولنتأمل الآن قول ربّنا عزّ وجلّ: «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا، وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ، كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ»(4) 
المشهد المصور في الآية هو تمثيل للعلاقة التي بين هداية الرّحمن المتمثّلة في القرآن، وبين الإنسان وهو منغمس في أودية الزّمان، ويعنينا من هذه العلاقة المقارنة التي حصلت بين الإمكان السّماوي والإمكان الأرضي.
المشهد في دلالته الحسّية المباشرة يفيد أنّ الماء النّازل كان في السّماء واحدا، لكنّه لما اتصل بالأرض تفرّق في الوديان، واختلف كلّ واد عن الآخر في مقدار ما احتمل منه، لأنّ الأودية منها متّسع جدّا، ومنها كبير، ومنها متوسّط، ومنها صغير، ومنها مسائل محتشمة.
وتعبير هذه (الرؤيا) أنّ الماء النّازل بالنّسبة إلينا هو الوحي القرآني، والوديان هي العصور، وهذا يفيد أن القرآن يحيط بكلّ العصور إلى قيام السّاعة، ولا يحيط به عصر من العصور، فلا يمكن لسنّة عمليّة مهما كانت أن تتّسع لكلّ القرآن. الإمكان القرآني إذن عابر للزّمان، أمّا الإمكان العصري فهو عبارة عن احتمال من بين احتمالات تطبيقيّة محكومة بمنطق: «اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(5)
ولنزيد هذه القاعدة المنهجية تأكيدا وتوضيحا دعونا ندخل عليها من بوابة قرآنية أخرى، يقول تعالى: «قُلْ هَذهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي»(6) ، البصيرة هي الرؤية المعينة على سلوك الطريق الصحيح، والمثير في هذه الآية أن لفظ البصيرة جاء نكرة، فلم يقل على البصيرة، بمعنى أن القرآن فيه إمكان لتوليد عدة بصائر، وهذا ما دل عليه قوله تعالى: «هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(7) و«قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ»(8) 
المنظور القرآني أتاح للنّبي ﷺ رؤية اقتدر بها على تقديم الحلول لمشاكل عصره: «إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ»(9)، فأحلّ السّلام بين متّبعيه.
ولكلّ عصر مشاكل تحتاج إلى رؤى جديدة تؤسّس للتّعايش السّلمي بين أهله؛ وقد وعد القرآن الكريم أن يفيد متّبعيه تلك الرّؤى، لذا لم يلزمهم سبيلا واحدا للسّلام: «قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(10) 
وممّا دلّ به القرآن على تعدّد مكاسب الأجيال في إطار الدّين الواحد لفظ (الحكمة)، وهو اللّفظ الذي فسّره (الإسلام السّنّي) بالسّنّة النّبويّة، وكأنّه لا حكمة في القرآن سواها.
حقيقة الحكمة  وعلاقتها بالقرآن 
ذكر القرآن حكمـة آل إبراهيـم، وحكمـة داود وسليمـان، وحكمـة لقمـان وعيسى بن مريم... وقال: «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا»(11) فرشّح لها أهلها مِن كل أبناء الزمان.
ولكــن لما قـال سبحانـه: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ»(12) وقال: «هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»(13)... قال أصحاب نظريّة الوحيين: الحكمة هي السّنّة! وإلّا ما معنى نزولها؟.
وهذا الزّعم يصطدم باللّغة، وبالاستعمال القرآني، وبالآثار التي يصحّحونها. فأمّا اللّغة فإنّه لم يعرف فيها أنّ الحكيم لا يكون إلا نبيّا، وأمّا الاستعمال القرآني فإنّ اللّه قال عن كتابه:«وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ»(14)، وقال: «وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ»(15) والوحي المتلو هو القرآن، وقال بعد أن ذكر أمّهات الأخلاق: «ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ»(16). 
وأمّا مناقضتها للآثار المُصحَّحة فمثل مـا رواه البخاري عَـنِ ابْنِ عَبَّــاسٍ، قَــالَ: ضَمَّنِـي النَّبِـيُّ ﷺ إِلَى صَدْرهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ». ثم عقب البخـاري قائـلا: « وَالحِكْمَةُ: الإِصَابَةُ فِي غَيْرِ النُّبُوَّةِ» .
وبهذا تتهافت هذه الشّبهة التي تعلّق بها أصحاب الوحيين، وتبقى الحكمة إمكانا قرآنيّا متاحا بفضل اللّه لأهل كلّ زمان، لا يستغني عنها إلّا من رفض عصره، وأبى إلّا أن يستنسخ (ماضيا مقدّسا) قد شغفه حبا.
الحكمة مَلَكَة يستفاد أصلها الأول من القرآن، وتؤهّل أهلها للإصابة في القول والعمل، والإصابة من الأمّة تتوقّف على كفاءة مراجع الحكمة فيها، وهي مؤسّسات العلم ومؤسّسات العمل: 
«وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ، وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا»(17)
 إذن حقيقة الحكمة التي كلّف الرّسول تعليمها للأميين هي إكساب القدرة على الانتقال من الإمكان السّماوي إلى الإمكانات التّاريخيّة المتعدّدة.
والرّسول ﷺ حين علّم الكتاب والحكمة، كان مقصوده أن يُخرّج الحكماءَ لا الببغاوات المقلّدين لحكمته، والعجيب حقّا أنّ أصحاب الوحيين يتداولون بلا حرج حديثا يروى عـن النّبـي ﷺ، فيه أنّه قال: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ» (18) ، أي أن الرسول له سنة، ولكل خليفة راشد - متى ما وجد، وفي أي عصر كان - سنة أيضا، ولا يمكن أن نتصور سنة الخلفاء وحيا، فتبين أن السنة هي الحكمة العملية التطبيقية التي اقتضاها كل عصر.
واقتران تعليم الكتاب بتعليم الحكمة في القرآن فيه إشارة إلى إمكان تخلف الحكمة عن تعليم الكتاب، فنكون وجها لوجه مع ظاهرة: (كمثل الحمار يحمل أسفارا)، وظاهرة الأميين الذين لا يقرؤون الكتاب إلا أماني، وهذه الحالة هي المشار إليها في حديث رواه أحمد عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ، قَالَ: «ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ شَيْئًا، فَقَالَ: وَذَاكَ عِنْدَ أَوَانِ ذَهَابِ الْعِلْمِ « قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَذْهَبُ الْعِلْمُ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَنُقْرِئُهُ أَبْنَاءَنَا، وَيُقْرِئُهُ أَبْنَاؤُنَا أَبْنَاءَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ لَبِيدٍ، إِنْ كُنْتُ لَأَرَاكَ مِنْ أَفْقَهِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، أَوَ لَيْسَ هَذهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ لَا يَنْتَفِعُونَ مِمَّا فِيهِمَا بِشَيْءٍ؟!»(19) .
والعلم المقصود هنا هو الحكمة، لأن القرآن استمر حضوره في التعليم، وبغياب الحكمة تتعطل صلة الكتاب بالتاريخ، ويصير الدين صورا محنطة تدعي الحلول الصالحة لكل زمان، وما هي إلا آصار كاسحة، وأغلال كابحة.
خاتمة:
الأمّة المسلمة لها نسبتان متلازمتان: نسبة إيمانيّة تجعلها إطارا يتّسع لكلّ مسلم فيما فات وفيما هو آت، ونسبة كسبيّة تستقلّ فيها بمرجعيّة تطبيقيّة اقتضتها الحكمة النّاظرة في الممكن والمستطاع، سمّها إن شئت سُنّة، أو أسلوب حياة، أو طريقة أو منهاجا، لكن عليك أن تعلم أنّها غير قابلة للاستنساخ إذا تغير لاحقا الشّرط التّاريخي.
هذه القاعدة للأسف يستحيل التّسليم بها من طرف عقل فقد وعيه التّاريخي، عقل رفعت فيه أمّة الكسب الأولى إلى مستوى الأسطورة، فحلّت في مخياله محلّ الدّين نفسه، وصارت تلك الأسطورة بشتّى صورها الطّائفيّة مصدر الشّرعيّة، فعطّلت باسمها فاعليّة الأجيال، وصودر حقّها في الانتماء إلى عصرها، وفي إنجاز كسبها باستقلال تامّ عن وصاية سلفيّة متخيّلة.
هكذا التبست في تراثنا حقيقة الدّين، والتبس مفهوم الأمّة، والتبس المفهومان ببعضهما، حتّى لم يبق منهما إلاّ صورة محنّطة غامضة، تعشقتها الجماهير، ووظّفتها النّخب، وضُحيَ لأجلها بالحاضر والمستقبل، وزاحمت القرآنَ حتى نفته عن مركزه، ويوشك أن يكون حالنا كحال الذين قال اللّه فيهم: «وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ، وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ»(19) 
الهوامش
(1) مقال «الإسلام بين أمّة الدّين وأمّة الكسب» صدر بالعدد 165 من مجلّة الإصلاح - أفريل 2021 - شعبان -رمضان 1442
(2) سورة الملك - الآية 2
(3) سورة الأنعام - الآية 158
(4) سورة الرعد - الآية  17
(5)  سورة التغابن - الآية 16.
(6)   سورة يوسف - الآية 108
(7) سورة الجاثية - الآية 20
(8) سورة الأنعام - الآية 104
(9) سورة النساء - الآية 105 
(10) سورة المائدة - الآية 15-16
(11)سورة البقرة - الآية 269
(12) سورة البقرة - الآية 231
(13) سورة الجمعة - الآية 2
(14) سورة يس - الآية 2
(15) سورة الأحزاب - الآية 34
(16) سورة الإسراء - الآية 39
(17) سورة النساء -   83
(18)  عَنْ أَبِي نَجِيحٍ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ - رضي الله عنه، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ [رقم:4607]، وَاَلتِّرْمِذِيُّ [رقم: 266] وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(19) رواه أحمد عَنْ زِيَادِ بْنِ لَبِيدٍ
(19) سورة الزخرف - الآية 23