نافذة على الفلسفة

بقلم
أ.د. عبدالرزاق بلقروز
دروس في فلسفة الدّين «الدرس الثاني»
 بين المقولات الدّينية والأفكار الفلسفية 
لا يتناول مبحث فلسفة الدّين كجزء من أجزاء المعرفة، الدّين مُكْتفيا بمحاولة الفهم لماهيته وعِلله وغاياته، وإنّما ثمّة أثر كبير للدّين نفسه في عقول الفلاسفة وثمرات فكرهم نفسه؛  أو أنّ من تَسَمُّوا بقُدماء الحكماء في التُّراث الإنساني كانوا يقتبسون حكمتهم من تعاليم الدّين الإلهيّة، وإظهارا لهذه الفكرة يقول أبو الحسن العامري عن حكماء اليونان في الفصل الثالث من كتاب: «الأمد على الأبد»،[قُدَماء الحُكماء وجَلاَلة الحكمة] :«أوّل من وُصف بالحكمة من البشريين على الإطلاق كان لقمان الحكيم. واللّه سبحانه وتعالى يقول (وَلَقَدْ آتيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ) [لقمان 12] وكان في زمن داود النَّبي عليه السّلام، وكان مقامهما جميعا ببلاد الشّام. وكان أنباذوقليس اليوناني يختلف إليه، على ما حُكي، ويأخذ من حكمته...
واليونانيّون كانوا يصفونه بالحكمة لمصاحبته التي كانت للقمان الحكيم. بل هو أوَّل من وُصف بالحكمة...ثمّ أحد الموصوفين منهم بالحكمة فيثاغورس. وقد اختلف بمصر إلى أصحاب سليمان بن داود عليه السَّلام حين جُلبوا إليها من بلاد الشّام، وكان تعلّم الهندسة قبلهم من المصريّين. فتعلّم أيضا العلوم الطَّبيعيّة والعلوم الإلهيّة من أصحاب سليمان...ثمّ أحد الموصوفين منهم بالحكمة بعده سقراط، وقد اقتبس الحكمة من فيثاغورس، واقتصر من أصنافها على المعالم الإلهيّة وأعرض عن ملاذّ الدّنيا بالكليّة...ثمّ أحد الموصوفين بالحكمة بعده أفلاطون، وكان فيهم شريف النّسب مِفضالا. وقد وافق سقراط في اقتباس الحكمة من فيثاغورس إلاّ أنّه لم يقتصر على المعالم الإلهيّة...ثمّ أحد الموصوفين منهم بالحكمة بعده أرسطا طاليسُ وهو معلّم الاسكندر المعروف بذي القرنين. وكان ملازما لأفلاطون قريبا من عشرين سنة لاقتباس الحكمة. وكان يسمى في حداثته «روحانيا»(1) لفرط ذكائه.وكان أفلاطون «يسميه عقلا»(2).
ووجه تصنيف هؤلاء بالحكماء، هو رؤاهم الفلسفيّة المبنيّة على إقرار مؤدّاه؛ أنّ للعالم وُجودا محدثا وليس قديما، وأنّ المعاد حَقَّ وليس باطلا، وأنّ النَّفس هي جوهر شريف وليست عرضا، وكُلُّ من يعاند هذه المعالم في التَّفكير، يوصف بالزّراية ويجري الحطُّ من منزلته، وتوكيدا لاكتساب صفة الحكمة من الارتكاز على المعالم الإلهية « أنّه من الحكايات المشهورة عن أفلاطون أنّه كان يقول لأصحابه : إنّكم إن عرفتم كلَّ شيء فلا تحسبوا أنّكم قد عرفتم شيئا مالم تعرفوا اللّه عزّو جلَّ، ثمّ من الحكايات المشهورة عن أرسطا طاليس أنّه كان يقول : كنت قبل اليوم أشرب وأظمأ، حتّى إذا عرفت اللّه عزّ وجلَّ رويت بلا شرب»(3).
والمعنى قريب نجده عند سقراط الذي كان قبلهما؛ فهو لم يكن فيلسوفا نظريّا؛  منحصرا همّه في تجريد المعقولات من المحسوسات،  وإنّما كان صاحب رسالة تشبه رسالات الأنبياء في مسعاهم نحو تحرير الإنسان من الاعتقادات الخاطئة والسُّلوكات المنحرفة عن استقامة الفضيلة « ذلك أنّ سقراط كان يشير إلى اللاّمنظور الذي كان يعاوده ويأنس إليه، فهو يُشرّع لممارسته الفلسفيّة باعتبارها إلهيّة، لأنّه دخل يوما «معبد دلفي» فسمع هاتفا يخبره بأنّه أكثر  الأثينيين حكمة.
إنّ رسالة سقراط ذات أساس إلهي، لذلك فهو لا يقبل التخلّي عنها، مثلما يتجلّى ذلك في مؤلف أفلاطون بعنوان « تمجيد سقراط»، نكتفي هنا بالإشارة في هذا الموضوع، إلى أنّ سقراط يخاطب القضاة بقوله: « لو أنَّكم طلبتم منّي أن أتخلّى عن التّفلسف مقابل تبرئة ساحتي وإطلاق سراحي، فإنّي لن أقبل ذلك البتّة، لأنّه ليس أعسر عليّ من عدم طاعة اللّه الذي حمّلني رسالة هدايتكم وإرشادكم إلى ما به تكون النّفس فاضلة»(4). وهنا نلاحظ طبيعة المضمون الذي يريد سقراط أن يهدي به المجتمع الأثيني، فهو مضمون ديني حقيقي في شكل فلسفي، مضمون مقدّس في شكل جديد هو الشَّكل الفلسفي البرهاني، أي أنَّ القيم الدّينية قد أحالها سقراط في تعاليمه من هذا الشَّكل إلى شكل جديد، قِوامه العقلانيّة المجرّدة وتأسيس اليقين على أسس برهانيّة وليست أسسا أسطوريّة، وبالتالي فنحن «أمام لحظة استجلاب للمقدّس في فضاء جديد هو فضاء القول الفلسفي من حيث هو رغبة جامعة في الحكمة وبحث عن الحقيقية في صورة جديدة...
إن الميتافيزيقا التي افتتحها سقراط وواصلها فلاسفة آخرون ستكون أساس خطاب فلسفي أقرّ بإطلاقيّة الحقيقة إلى حدّ التّقديس»(5).
الهوامش
(1)  يقول جون غروندان    Jean Grondin» كان غادامير Gadamer   على حق عندما قال أن أرسطو، الذي كان ينتقد دوما عند أستاذه أفلاطون فصله بين عالم المثل وعالم المحسوسات، ربّما هو المفكّر الحقيقي في مسألة الفصل هذه عندما طرح فكرة التّعالي المطلق للمحرك الأوّل.إنّنا هنا أمام سؤال مهم  بالنّسبة إلى فلسفة الدين : هل الإله محايث لعالمنا، أو متعال عنه بصفة مطلقة؟ جواب أرسطو الصَّارم هو أن الإله لا يمكن أن يكون إلاَّ متعاليا « أنظر كتاب جون غروندان، فلسفة الدين، ترجمة أحمد المتوكّل، المغرب : مؤمنون بلا حدود، 2017، ص 79
(2)  العامري أبو الحسن، الأمد على الأبد، ضمن كتاب، أربع رسائل فلسفية، تحقيق سعيد الغانمي، العراق : الكوفة، 2015، ص 167/169.
(3)  نفسه، ص 172. 
(4) محمد الجوة، الحقيقية المقدّسة، ضمن كتاب : محمد الجوة و آخرون، الإنسان و المقدّس، تونس : الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية، دار محمد علي الحامي، 1994، ص 10.
(5) المرجع نفسه، ص 12