بهدوء

بقلم
د.عثمان مصباح
نحو قراءة قرآنية للتراث
 تمهيد فيه تشخيص إجمالي لأزمة التراث
ينقسم تراثنا إلى قسمين، القسم الأول كلمة إجماع بين طوائف المسلمين، وهو نصّ القرآن الكريم، وأمّا القسم الثاني فهو تراث الاختلاف، وهو نفسه ينقسم إلى قسمين: تراث ما قبل التّدوين، وتراث ما بعد التّدوين. والفرق بينهما أنّ تراث ما قبل التّدوين هو تراث شفهي، تحوّلت وقائعه بفعل القراءات الطّائفيّة اللاّحقة إلى تاريخ مفارق للتّاريخ البشري، لا تجري عليه سننه، تاريخ متعدّد الوجوه تعدّد الطّوائف، كلّ طائفة تبني رواية تستمدّ منها مشروعيّتها، وتعتبرها تاريخا مقدّسا، والمساس به هو مساس بالعقيدة نفسها.
هذه العقائد الطّائفيّة هي التي أحكمتْ عُقدها على العقل المسلم، ونفثت فيه ما أوجب الخصومة العمياء، والثأر الذي لا يرتوي مهما سالت الدّماء، فتعطّلت هداية القرآن، وهجر العقل المسلم حاضره إلى ماض مسكون بالنزعات الطّائفيّة، بل ضحى في سبيل ذلك الماضي بمستقبل الأمّة.
لقد تحول الشّطر الشّفوي من تراثنا إلى ثقب أسود في وعينا التّاريخي، ثقب يبتلع كلّ شعاع يقترب منه، يقول الشيخ صادق إبراهيم عرجون في مقدمة كتابه (عثمان بن عفان):  «كانت هذه المرحلة من تاريخ الإسلام غامضة أشدّ الغموض، لأنّ التّاريخ نفسه لم يستطع الفصل في شيء من أحداثها، ولم يحقّق أمرا من أمورها التي أدّت إلى ذلك الانقلاب الذي زلزل كيان المجتمع الإسلامي، وغيّر كلّ شيء في حياة المسلمين. فالتّاريخ إذا حدّثك في موضوع برواية سَرْعان ما ينقضها برواية أخرى في نفس الموضوع، وهو إذا أعطاك صورة لشخصيّة تاريخيّة، فإنّه لا يترك لك معالمها سويّة لتستقر في ذهنك حتّى تتعرّف عواليها من سوافلها، وهو إذا وقف بك على سبب حادث من الأحداث استدرك عليه بسبب آخر يهدمه. 
ويوشك أن يكون هذا عيبا عاما في مصادر التّاريخ الإسلامي التي بأيدي النّاس، وحسب النّاظر في هذا التّاريخ أن يأخذ إليه ما يشاء من مصادره، فيقرأ فيها ما يريد من الموضوعات، فإنّه لا يخرج منها بنتيجة واحدة في الموضوع الواحد، ولكنّه سيخرج من الموضوع الواحد بنتائج مختلفة لمقدّمات مختلفة بروايات مختلفة»(1) . 
والحاصل أنّ ما يقال له (تراث إسلامي) ليس له في الحقيقة وجه واحد بل له عدّة وجوه تجعلنا إزاء روايات متعدّدة للإسلام، بحيث يستحيل الحديث عن إسلام تاريخي واحد، ويصعب أن ننكر على من استعمل الإسلام مقيّدا بالإضافة إلى الطّوائف، فتحدّث عن إسلام سنّي، وإسلام شيعي، وإسلام خارجي، وإسلام معتزلي، وإسلام أشعري، وإسلام صوفي ... 
ضرورة قراءة التّراث قراءة علميّة
القراءة العلميّة للتراث هي قراءة متحرّرة من الالتزامات الطّائفيّة، لها مرجعيّة ذات مصداقيّة عابرة للحدود، وقابلة لأن تقوّم وفق مناهج أكاديميّة محَكمة، بغض النّظر عن هويّة الباحث وخلفيّاته الثّقافيّة.
ونحن هنا أمام احتمالين: قراءة من داخل الدّائرة الإسلاميّة، وقراءة من خارجها. فالخارجيّة لا تميز في التّراث بين القرآن وغيره، وتنطلق من مبدأ الشّك في كلّ ذلك، وهذا ما ادّعى محاولته المستشرقون، واتبعهم في ذلك عدد من الباحثين العرب وغير العرب، والقراءة الخارجيّة إذا تحرّرت من العصبيّة وخدمة الاستعمار، أتاحت شهادات علميّة في غاية الأهمّية، تشبه ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾(2). 
أمّا ما يميّز القراءة الدّاخلية المتحرّرة من الطّائفية، فهو الارتكاز على القرآن باعتبار أنّ الطّوائف المؤسّسة للاختلاف كلّها مجمعة على أنّ القرآن حقّ، وأنّه مركز الدّائرة، فتحكيمه مسلّم به من النّاحية المبدئيّة.
القراءة القرآنية للتراث: المشاكل والمؤهلات
أول عقبة تعترض القراءة القرآنيّة للتّراث هو أنّ القرآن قد استعمل من طرف الطّوائف كلّها في نصرة المواقف والطّعن على الخصوم، وهذا ما أنتج ركاما هائلا من ضرب القرآن بعضه ببعض، أدى في النّهاية إلى فقدان الثّقة بحاكميته، والاستهانة بحرمته، فجُعل منه تابعا لا متبوعا، وخادما لتحيّزات متضادّة متصارعة، فهو مع كلّ طرف ضدّ كلّ طرف، وقد ترتّب على هذا السّلوك ما يمكن تسميته: (أزمة اليقين في تاريخ الفكر الإسلامي) والتي أدّت إلى ظهور مصادر إضافيّة لا تتمتّع بالإجماع، ومع ذلك فقد صارت قاضية على القرآن نفسه. 
وهكذا أهدرت الغاية من نزول القرآن، ألا وهي الهداية إلى الحقّ من خلال الحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (3) 
وحاكميّة الكتاب في الاختلاف وظيفة مؤكّدة في حقّ القرآن: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾(4). 
ومأزق التّراث التّفسيري الذي جعل من كتاب اللّه محكوما عليه، عوض أن يكون حاكما، يستوجب أوّل ما يستوجب، تحرير قراءة القرآن من المداخل الطّائفيّة، وهي المداخل المشكلة لما يسمّى (التّراث). وأقصر طريق إلى ذلك هو اعتبار نظام المعاني في الفضاء القرآني نظاما مكتمل البنيان، مستغنيا بذاته عن أيّ تكملة بشريّة استغناء اللّه عن خلقه، فهدايته للتي هي أقوم غير مشروطة بمصدر إضافي ولا مصدر شارح، فهو كتاب مبيّن عن مراد اللّه لا يحتاج إلى مزيد بيان، دلالته على الحقّ تامّة لا يلابسها أدنى ريب، وعدالته محكمة لا يعترضها حيف ولا يلوي بها تحيز: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا؟! وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا، لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾(5). 
ومن أعظم ما جنته المداخل الطائفيّة، أنّها أغرقت قراءة القرآن في المشاكل التّاريخيّة للمسلمين، فتعطّل بُعده الفطري، وأخرج عن إطاره العالمي، وغيّب المخاطب الحقيقي الذي هو الإنسان، باعتباره كائنا له تاريخ يتّصل بأب مشترك هو آدم، ذاك الذي خلقه اللّه بيديه، وعلّمه الأسماء كلّها، ثم استخلفه في الأرض، فنجح في تأسيس أوّل تجربة تاريخيّة مباركة، كان النّاس فيها أمّة واحدة، ثمّ حملهم البغي بعد ذلك على الاختلاف: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾(6)، فقصّة الأنبياء هي في الحقيقة قصّة الحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه من الحقّ الذي كانوا عليه أوّل الأمر، والذي كان قائما على تأسيس أبويّ لا على تأسيس نبويّ(7) . 
فلا غرو أن يكون مشروع القرآن هو ردّ النّاس إلى فطرتهم الأولى(8)، وتخليصهم من تحيّزاتهم العدوانيّة الطّارئة: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (9)
تاريخ أمّتنا بحكم قانون الوحدة والاختلاف
إخراج أمّة مسلمة من بين فرث الولاءات الوثنيّة ودم الصّراعات القبليّة والدّولية، كان معناه نجاح التّجربة النّبويّة في حلّ مشكل الإنسانيّة حلاّ يعتمد الردّ إلى الفطرة ردّا قرآنيّا، وهو الحلّ القائم على أنّ الرّبّ واحد، والأب واحد، والغاية هي إنجاز مهمّة الاستخلاف المقتضيّة للشّراكة العادلة والتّعاون على الصّلاح والإصلاح في ظلّ سلام عالمي.
كان ذلك النّجاح بحسب ما سمحت به الإمكانات العصريّة، والقدرات التي ابتناها المجتمع المسلم يومئذ، لكنّ هذا المشروع توقّف لمّا اشتد بين المسلمين التّنافس الدّنيوي، والتّنازع السّياسي، وحدث الانقلاب على الخلافة الرّاشدة.  أدى الحكم الملكي فيما بعد إلى الاستئثار بالشّأن السّياسي، والحجر على الأمّة، وبهذا تعطّلت وظيفتها في الشّهادة على النّاس، وتوقّف المشروع الذي بدأه النّبي ﷺ، وتمّ عزل القرآن عزلا عمليّا، فأفضى التّنازع إلى التّفرّق في الدّين، ثمّ تمخّض في زمن التّدوين عن تأسيس مرجعيّات متضاربة.
هذا ما جنى على نظام المعاني في القرآن، وأدّى إلى تفكيكه وإعادة استعمال مفرداته من منظور طائفي عمّق الشّقاق، وضاعف أزمة العلاقة بالقرآن، فعزله عزلا علميّا من خلال التأّسيس لـ (علوم) طائفيّة، وظيفتها الأساسيّة نصرة الحزب وتجريد الخصوم من المشروعية.
الخطوات الكبرى على طريق التّحرير العلمي
ما دامت النّبوة قد ختمت، فلا مخرج من متتالية التّفرّق والاختلاف إلاّ باسترجاع السّلطان العلمي للقرآن، والاحتكام إليه وفق معطياته وقواعده ونظامه الدّاخلي، وهذا ما يتطلّب من النّاحية العلميّة:
-1 دراسة ألفاظه ومفاهيمه دراسة استقرائيّة وفق منهج الدّراسة المصطلحيّة، وتحريرها من الفوضى التي هي من أثر التّوظيف الطّائفي. 
-2 الكشف عن نظام المعاني في القرآن كشفا يربط مفرداته وقواعده بغاياته ومقاصده، مع مراعاة خصائصه التي خصّه اللّه بها، وعلى رأسها أنّه ذكر ميسر، وأنّه تبيان لكلّ شيء، وأنّه حكم اللّه الفاصل إلى قيام السّاعة.
هذه في رأيي، هي مقدّمات استرجاع القرآن، التي ستسمح لنا بتشكيل منظور قرآنيّ يعيد الفاعليّة لكتاب اللّه كما سمحت بذلك لرسول اللّه ﷺ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ، وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾(10) 
وبتحكيم المنظور القرآني يمكننا أن نتوصّل بطريقة علميّة إلى نتيجتين عظيمتين:
الأولى: بيان الدّين الخالص الذي هو مجموع ما بقي من الفطرة وما استرجعه القرآن منها.
ثانيا: تبيّن حقيقة ما جرى من الاختلاف الذي وقع بين الأمم، والذي وقع بين أهل الكتاب، والذي وقع بين المسلمين.
 خاتمة في فضيلة هذا المنحى العلمي:
هذا المنحى في اقتراح الحلول العلميّة لمشاكل التّراث التي حصلت عبر تراكم زمني متطاول، يعتمد على قاعدة الردّ إلى الأمر الأوّل، أي تحكيم مرجعيّة التّأسيس، وهذا المنحى يجعلنا إزاء لحظتين تأسيسيتين: اللّحظة الأولى هي زمن الفطرة التي فطر اللّه النّاس عليها، وهي لحظة مشتركة بين كّل الأمم. واللحظة الثانية هي لحظة القرآن العظيم، وهي لحظة مشتركة بين جميع طوائف المسلمين، وتماثل لحظة التّوراة بالنّسبة لبني إسرائيل.
وخاصّية هذا المنحى أنّه يعالج إشكالات التّراث الإسلامي في أفق تحرير القرآن من التّجارب التّاريخيّة الخاصّة، واسترجاع عالميّة خطابه المنفتح على مستقبل إنساني واعد بالتّمكين. 
الهوامش
(1) الشيخ صادق إبراهيم عرجون، عثمان بن عفان، ص 10، الطبعة الثالثة، 1410 - 1990، الدار السعودية للنشر والتوزيع.
(2) سورة الأحقاف - الآية 10 (3) سورة البقرة - الآية 213 
(4) سورة النحل - الآية 64 (5) سورة الأنعام - من الآية 114 إلى 117
(6) سورة يونس - الآية 19
(7) أبونا آدم لم يكن نبيا كما شاع في التراث، فالقرآن لم يسمه نبيا، وأول الأنبياء هو نوح كما دل عليه قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدهِ} [النساء: 163] ثم النبوة وظيفتها كما بين القرآن الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
(8) للوقوف على حقيقة الفطرة من خلال دراسة مصطلحية للاستعمال القرآني يرجى الرجوع إلى كتاب: (مدخل قرآني إلى القرآن الكريم، مساهمة في إحياء الذكر وتجديد الفكر) للدكتور عثمان مصباح.
(9) سورة الروم - من الآية 30 إلى 32 (10) سورة النساء - الآية 105