نقاط على الحروف
بقلم |
![]() |
أ.د.احميده النيفر |
الخطاب الدّيني الرّسمي وصراع المرجعيّات في تونس (3/4) |
في المغايرة والارتهان الديني
كان القرن التّاسع عشر قرنا حاسما بالنّظر إلى دلالته السّياسيّة والدّينيّة(1). إنّه لم يكن شاهدا على تحولات السّياسة الإقليميّة والمحلّيّة الهائلة، المشار إليها آنفا - وحسب-، والتي آذنت ببداية اضمحلال الإمبراطوريّات الكبرى القديمة في القارّة الأوربّية وخارجها. ضمن هذا التّحوّل التّاريخي ما كان للإمبراطوريّة العثمانيّة أن تقاوم هذا التّغيير، الذي لم يقتصر الأمر فيه على البعد السّياسي التّنظيمي الذي كرّسه مؤتمر فيينا(2). لقد تركّز معه ما عُرف في أوروبا بالنّظام المُحافِظ المتجاهل للدّوافع الوطنيّة التّحرّريّة، التي أبرزتها الثّورتان الأمريكيّة والفرنسيّة والذي سيُلقي بظلاله على العالم الإسلامي انطلاقا من الحملة على الجزائر ثمّ مصر وتونس.
أمّا بالنّظر لخصوص ما كان يعتمل داخل العالم العربي الإسلامي، فيتّضح بجلاء في هذا القرن الأداء السّياسي الاندحاري للدّولة العَلِيَّة التي قامت مُكرهة بالإقرار بالتّنظيمات الإصلاحيّة لمؤسّسات الدّولة والمجتمع(3). ما يعنينا من هذه التّحوّلات دلالتها المثنّاة: من جهة كان الباب العالي، نتيجةَ ما واجهه من مصاعب داخليّة، إضافة إلى الضّغوط والإكراهات الأوروبيّة، يعبّر عن تزايد ضعفه في كلّ طور من أطوار أدائه التّراجعي، بما قلّص بصورة جليّة نفوذه السّلطاني؛ من جهة أخرى، انحسرت سلطة رجال الشّرع الإسلامي وانكشف تهافتُ خطابهم، ما أقعدهم عن أيّة مشاركة حضاريّة. لذلك لم يتمكّن القائمون على المجال الدّيني في الدّولة العَلِيَّة -رغم أهمّيتهم العدديّة، ورغم المواقع التي كانوا يحتلُّونها مؤسّسيّا واجتماعيّا- من تمثُّل مقتضيات السّياق الجديد، سواء في بعده السّياسي أو في بعده الحضاري الاجتهادي. لقد كشفوا عن عجز بَيِّنٍ في تشخيص الوضع العام الذي انخرط فيه العالم والسّلطنة، بما حال بينهم وبين التوصّل إلى وعي يجسّد إرادة التّحوّل الفكري والحضاري المنشود. لقد تعيّنت أفهامهم ومواقفهم من التّحوّلات الكبرى ولما وقع إقراره من إصلاحات ضمن فضاء الرّيب والرّفض. ذلك كان شأنهم مع المرسوم الهمايوني للإصلاحات الصّادر سنة 1856 والقاضي بتكوين هُويّة جماعيّة تُوحّد مختلف مُكوّنات متساكني الإمبراطوريّة العثمانيّة. نجم عن ذلك اعترافٌ بمجموعة من الحقوق للأقليّات الدّينيّة في الدّولة العثمانيّة، الأمرُ الذي مكّن من تدبير شؤون الجماعات الدّينيّة بمعزل عن المؤسّسة الإسلاميّة وأحكامها وفكرها (4).
ما ينبغي الالتفات إليه هو: كيف تمثّلت النّخبة الحاكمة في تونس هذا الانقلاب العثماني الضّخم؟ وكيف انعكس هذا السّياق الجديد على المؤسّسة الدّينيّة التّونسيّة وعلى خطابها ومرجعيّتها؟ وهل كان تعاملُ علماء تونس مُوحَّدا إزاء هذه التّحولات؟ ثم كيف أثّر كلّ هذا على المشهد الدّيني بعد ذلك خاصّة عند تأسيس دولة الاستقلال وبعد ذلك إلى اليوم؟
للإجابة نذكر أولا: أنّه ما كان للنّخب التّونسيّة الحاكمة أن تصمّ آذانها عمّا كان يعتمل في الخارج عثمانيّا وأوروبيّا. في هذا تأكّدت صبغة القابليّة للانفعال والتّأثر بالتّقلبات الخارجيّة، وهي الصّبغة المميّزة لحكام القطر التّونسي مقارنة بنظرائهم مغاربيّا. ثمّ إنّ هذا النّزوع الاتباعي التقى موضوعيّا مع مصالح حكام تونس في سعيهم منذ فترة إلى التّحرر من تبعيّة النّظام السّلطاني. في مستوى ثالث، نجد اتساقا لعاملَيْ الانفتاح والحرص السّياسي على الانعتاق مع الجهود التّوسعيّة الفرنسيّة ومطامعها، وما كان يدأب عليه القناصل والمُمَوِّلون والتّجار الأوروبيّون من تشجيع على فكّ الارتباط مع الخلافة العثمانيّة.
نجم عن كلّ هذا تعاظم خشية حكّام تونس خاصّة في عهد أحمد باشا باي (تـ 1855) من أن تُنْهِي الدولة العَلِيَّة حكمَ الأسرة الحسينيّة، كما أنهت حكم آل القارمانلي في طرابلس الغرب. فكان السّعي حثيثا للبحث عن دعم لاستقلال القطر؛ ظنّا من حكّام تونس أنّهم سيجدون في فرنسا السّند الحامي لذلك النّزوع دون الالتفات إلى الأطماع الفرنسيّة الواضحة (5) .
ثانيا: الأهم من ذلك هو أنّ القرن التّاسع عشر شَهِد تحوّلاً لافتا شمل المجال الدّيني خاصّة. لقد تغيّر السّياق الذي عرفته الرّبوع التّونسيّة في القرن الثّامن عشر مع إقامة الدّولة الحسينيّة، لكونه أتاح للمجال الدّيني قدرا كبيرا من الانتظام عبر المؤسّسات، والرّموز، والرّؤى والفكر. مكّن ذلك نفوذا حقيقيّا على الحكّام الأتراك؛ لكونهم من القادة العسكريّين بالأساس، ولكونهم غير مُتديِّنين كثيرا، ولكونهم لا يُحسنون العربيّة أو لهجة أهل البلاد. لا غرابة عندئذ إن عمل أصحاب السّلطة السّياسة، لتركيز نفوذهم، على تكريس شرعيّةِ سلطانهم من خلال النّظام الدّيني المُمَأْسس المتمتّع باستقلاليّة كبيرة إنْ من حيث انتخاب القائمين عليه أو من حيث مرجعيّة هؤلاء في التّصرف وفي القاعدة المادّية والاجتماعيّة والفكريّة التي يمتلكونها.
ضمن نفس هذا الانتظام « التّنافذي»، كانت الطّرق الصّوفيّة تُشكّل - بشيوخهاوزواياها،وحضورها الكامل في المدن والقرى والأرياف، وبما تمتلكه من إمكانيّات والتزام- نسيجا أهليّا واقيا وفاعلا في حياة الأفراد والجماعات إزاء سطوة الحاكم وضرورات الحياة. أبرزُ صور التّعبير عن المكانة الخاصّة لهذا القسم من المجتمع الأهلي الحصانةُ، القائمة حتّى سنة 1883، لمن يلتجئ إلى الزّوايا الكبرى اتقاء متابعةِ السّلطة السّياسيّة والأمنيّة الحاكمة(6).
إلى جانب ذلك، مثّلت المؤسّسة التّعليميّة -بمركزيّة جامع الزّيتونة، والمدارس والزّوايا الملحقة به، وبما يَتلقّاه الطّلبة والتّلاميذ من تكوين في اللّغة والعلوم الشّرعية، وبما يُتيحه من ارتقاء في السّلم الاجتماعي- العنصرَ الدّاعم لمكانة المؤسّسة الدّينية ولأثرها المجتمعي.
مع هذا وذاك، توّج المجلسُ الشّرعي-بما ارتبط به من خطط الإمامة والإفتاء، والقضاء، والتّدريس، والعدالة، سواء في العاصمة أم سائر المدن والقرى، وما تشمله أنظاره من قضايا عدليّة مختلفة- مكوّناتِ السّلطة المرجعيّة بمستوييها: المعرفي والاجتماعي، والتي ما كان لأصحاب النّفوذ السياسيّ قدرةٌ على تجاوزِها بسهولة. في قمّة هذا الانتظام الأهلي المتكامل والمُمَأْسَس، نجد «الأشراف» الذين تجمعهم هيئة «نقابة الأشراف» القائمة على أمورهم الاجتماعيّة والماديّة، والرّابطة إياهم بنظرائهم من الأشراف في خارج البلاد التّونسيّة، ما يجعلهم يتمتّعون بقيمة رمزيّة ونفوذ معنوي واسع.
هذا الوضع المؤسِّسُ للشّأن الدّيني والمؤطِّرُ للواقع الذّهني والمجتمعي، دفع بالقائمين على الدّولة الحسينيّة قبل القرن التّاسع عشر إلى التّقرّب من الشّيوخ والعلماء، وإلى تجديد مقامات الأولياء، والاعتناء بجامع الزّيتونة، وبناء المدارس القريبة منه، كما اعتنوا بالأشراف خاصّة عند ظهور الأوبئة؛ تبرُّكا بتلاوتهم للقرآن الكريم. كان الملوك كذلك يحضرون دروس العلماء، ويقبلون فتاواهم المتعلّقة بالمسائل الحياتيّة العامّة: كالجبايات، والزّكاة، والأوقاف، بل بلغ الأمر ببعض الملوك أن صاهر العلماء أحيانا، في حين أُرسل بعضُ النُبهاءِ منهم في المهام السّياسيّة الدّقيقة، بينما استصحب آخرون معهم الأولياءَ في المعارك (7).
ثم كان القرن التّاسع عشر مُؤذِنًا بـطور جديد مُختلفٍ نوعيّا، إذ تحقّق فيه «ارتهان الدّيني للسّياسي» حيث لم تبقَ مشروعيّة الدّولة موصولة بالدّين ومؤسّساته، بقدر ما نشأ التّغاير بين السّلطة السّياسيّة والمجال الإسلامي.
بدأ تحوّل المشهد بصورة أكيدة مع حمودة باشا (1782 - 1814) خامس الملوك الحسينيّين(8)وبلغ مع عاشرهم، أحمد باشا باي(1837-1855)، مداه؛ فلم يبقَ للمرجعيّة الدّينيّة ذلك الحضور في المجال المجتمعي والسّياسي.
لم يعد الباي مُحتاجا للاستنجاد بالمؤسّسة الدّينيّة لكسب الثّقة والدّعم الاجتماعي، وللتّقليل من حالة الخوف عند اشتداد الضّغط المزدوج عليه؛ من قِبَل الدّولة العثمانيّة من جهة والطّرف الفرنسي من الجهة الأخرى.
من سياق المغايرة الجديد الذي لم يكن يعني انخراطاً في الفصل التّام بين السّياسة والدّين، بقدر ما كان تأسيسا لعلاقة «رخوة» أتاحت ارتهان الدّيني لصاحب السّلطة السّياسيّة لتدشين ما يمكن تسميته بمرحلة الأحاديّة السّياسية والإيديولوجيّة. إنّه الإعلان الصّريح عن نهاية الفكر الدّيني الموحِّدِي القديم، المستند إلى مرجعيّة دينيّة للدّولة (9)وبناء تجربة للدّين جديدة، لا يمثّل الإسلام فيها إلاّ رافعة يمكن استعمالها من قِبَل الفاعلين السّياسيين الجدد لدعم مشاريعهم السّياسيّة المميّزة.
الهوامش
(1) يوافق القرن التاسع عشر الميلادي القرن الثالث عشر من التاريخ الهجري: سنة 1801 = 1241هـ
(2) شارك في هذا المؤتمر الذي انعقد بفيينا فيما بين سبتمبر 1814 إلى جوان (يونيو) 1815 وزراء وسفراء خاصّة الدّول الأوروبيّة الكبرى آنذاك والمنتصرة على حملات نابوليون التي أدخلت القارّة في دوّامة حروب ونزاعات مدمّرة. من أبرز نتائج هذا المؤتمر توقّف النّزاعات بين الدّول الأوروبيّة لفترة قرن كامل وانطلاق الحملات الاستعماريّة خارج أوروبا.
(3) عملت «التّنظيمات»(1839 - 1876) على تحديث الجيش والتّربية والإدارة والاقتصاد كما شهدت هذه الفترة حرب القرم (1853-1856) بين الإمبراطورية الرّوسيّة والسّلطنة العثمانيّة المسنودة ببعض حلفائها مثل مصر وتونس والمدعومة بصورة استثنائيّة بالبريطانيّين والفرنسيّين الذين كانوا يخشون من التّوسع الرّوسي.
(4) اعترف المرسوم بالمساواة بين جميع رعايا الدّولة العثمانيّة على اختلاف مذاهبهم وأديانهم كما جرّم كلّ تعبير فيه تحقير للمسيحيّين إلى جانب أنّه نصّ على تجنيد هؤلاء في الجيش العثماني، وإلغاء الجزية عنهم وأن يكون للمسيحيّين في الولايات والأقضية تبعا لأعدادهم ممثّلون في تلك المناطق. خارجيّا تحصّلت فرنسا بعد معاهدة باريس على امتيازات في الأماكن المقدّسة المسيحيّة دون غيرها من الدّول بناء على تعاقد ثنائي بين الدّولة العثمانيّة ذات السّيادة على هذه الأماكن وبين فرنسا منفردةً.
(5) لم يدرك أحمد باي مخاطر سياسته المقبلة على فرنسا والمُعرضة عن إسطنبول إلاّ بعد فوات الأوان. تجسّد النّفوذ الفرنسي عندما خاطبه قنصل فرنسا قائلا: «أنت لا تقدر على فعل شيء من سياسة بلادك إلاّ بإذن دولة فرنسا» انظر أحمد بن أبي الضياف، الإتحاف، ج 6/ 121.
(6) أُلغي حقّ اللّجوء إلى الزّوايا الكبرى بأمر صادر في ربيع الثاني 1301 الموافق لـ 6 فيفري 1883 وحقّ اللّجوء إلى الزّوايا قديم ومعمول به في عدّة مناسبات من أبرزها الثّورة الباشيّة (1728-1756).
(7) تجسّدت عناية البايات فيما كان عليه الوضع قبل القرن التّاسع عشر في الاعتناء بجامع الزّيتونة وإعادة بنائه وبناء جامع سيدي محرز والاعتناء بالمدارس المحيطة. نجد أيضا تحوّل الباي إلى مقام سيدي بن عروس للقيام بإعدام أحد المعارضين والتّمثيل به. نذكر أيضا محاولة اغتيال علي باشا في مقام سيدي محرز بن خلف وقتل المعتدي في زقاق المقام. كذلك قام الباي عند تدشين قصر باردو بدعوة أحد الأشراف تيمّنا به وقد كان هذا الأخير أوّل الدّاخلين للقصر، فضلا عن سير الباي في تشييع جنازة شيخ الطّريقة الشّاذلية وحمل النّعش بنفسه أو لبس الباي رداء الولي «سيدي عمر عباده» واستقباله للأعيان يوم عيد الأضحى وهو يرتديه تيمنا وتبرّكا بهذا الشّيخ وذلك بعد شفائه من داء الفلج. في القرن 18 أصبح لتونس ما يقارب 180 عالما يستحقّ أن يؤرّخ لهم، كانوا في غالبيتهم من المالكيّة ممّا أتاح لهم وزنا اجتماعيّا وسياسيّا كبيرا، انظر حسين خوجة ذيل بشائر أهل الإيمان، تحقيق وتقديم الطاهر المعموري، الدّار العربيّة للكتاب، تونس 1975 ص 163 - 305 وكذلك أحمد عبد السلام، المؤرخون التونسيون ص 38 - 53).
(8) عرف عهد حمودة باشا في تونس ازدهارا واستقرارا بفضل نهضة اقتصاديّة واجتماعيّة إلى جانب ازدهار نشاط القرصنة والتّجارة البحريّة والصّناعة التّونسيّة المحلّية التي كانت تصدّر لأوروبا وباقي الحوض المتوسّطي.
(9) أسّس دولة الموحِّدين أتباع حركة «محمد بن تومرت» وقد استطاع «عبد المؤمن بن علي الكومي» بعده أن يحكم المغرب الأقصى والأوسط بعد القضاء على المرابطين في مراكش عام 1147م ومنها اتسع سلطان الموحّدين إلى كامل إفريقيّة والأندلس. يدعو الموحّدون إلى توحيد اللّه توحيدا قاطعا ويعملون على تنقية العقيدة من كلّ الشّوائب.
|