قبل الوداع

بقلم
لطفي الدهواثي
شهر الأمل والألم
 أقبل الشّهر الكريم كعادته كلّ عام ليضفي على الأرض مساحة من الغبطة والتّقوي وحبّ الخير، ثمّ رحل عنّا مجدّدا ككلّ مرّة، غير أن لرمضان هذا العام خصوصيّات سيظلّ يتذاكرها النّاس عاما بعد عام حتّى تصيرمضرب الأمثال في تأثّر العبادات بأحوال النّاس. 
اختلف رمضان هذا العام عن غيره في سنين خلت لأنّه جاء وسط هيمنة تامّة لوباء الكورونا على العالم بكلّ اختلافاته وعلى امتداد الأرض. جاء رمضان هذا العام والحياة خاضعة لأحكام وباء شديد ينتقل من بلد إلى بلد ويفتك بمن يصيبه، وقد اتخذت كلّ الدّول إجراءات حازمة بغاية تفادي انتشار العدوى أهمّها منع الجولان والاكتضاض وهو ما يتنافى وطبيعة الشّهر الكريم، حيث دأب النّاس من قبل على التّزاور والتّوادد وتبادل الهدايا وإقامةالموائد والسّهرات الدّينية وإحياء الحفلات التي يكثر فيها السّمر حيث يتحلّق النّاس في البيوت ذاكرين للّه أو مستذكرين لسيرة المصطفى ومناقبه أو منشدين متبتّلين. ومنذ العصر الأول للإسلام لا يُذكر الشّهر الكريم إلاّ ذُكرت معه صلاة التّراويح التى لا يجد المصلّي طعما لرمضان دون إحيائها في المساجد كلّ ليلة من لياليه . . 
اختلف الشّأن في هذه السّنة أيّما اختلاف وقد أُغلقت المساجد في معظم أرجاء العالم وخلت من كلّ الرّواد وإقامة الشّعائر حتّى وصل الأمر حدّ إغلاق المسجد الحرام في مكّة المكرّمة ومنع النّاس من الطّواف أو أداء الصّلاة فيه.. «صلّوا في رحالكم أو في بيوتكم»، هكذا أفتى المفتون توقّيا من إنتشار عدوى الوباء اذا اجتمع النّاس في المساجد ولذلك خلت معظمها من المصلّين وعطّلت شعيرة الجماعة والتّراويح وحُرم النّاس من الاجتماع عليها في أيّ مسجد أو مصلّى ممّا خلف مرارة في النّفوس وحزنا لا يدركه إلاّ من استطعم هذه الشّعيرة من قبل وعظم شأنها مع النّاس عاكفا في المساجد.. 
طال على النّاس الحجر الصّحي في البيوت وكانوا يأملون أن يرفع اللّه الوباء قبل حلول الشّهر الفضيل لتكون لهم سعة في طلب الرّزق والعبادات، وهو الشّهر الذي اقترن في الأذهان بالتّوسع في الإنفاق حيث يتجاوز النّاس معدّلات إنفاقهم العاديّة وتكثر شهواتهم، ويأتيهم الشّهر الفضيل بعادات لا تكون إلاّ معه وتختلف من مصر إلى آخر ومن جهة إلى أخرى وحسب القدرة على الإنفاق. ولا غروّ أنّ حجر النّاس في البيوت وتقييد حركتهم ومنعهم من العمل قد جعل معظم النّاس في ضيق وشدّة بسبب انعدام المداخيل واعتماد الغالبيّة منهم على مدخراتهم وما أمكنهم الاحتفاظ به للشّدة وهو قليل عند الغالبيّة ومنعدم عند طبقة الفقراء وصغار الأجراء وأصحاب المهن محدودة الدّخل. لقد كان الاختيار بين الصّحة و«عيش» النّاس أمرا لا مناص منه وكان لا بدّ من تفضيل الصّحة وجعلها في المقام الأول حفاظا على الذّات البشريّة، فأن يحيا الإنسان بالقليل خير من أن يموت، وسوف تنتهي الأزمة لاحقا ويكون بالإمكان التّدارك من جديد. ما يحيّر في الأمر حقيقة ليس الدّفع بالنّاس إلى حافة الجوع أو ما يقرب من ذلك والأمر يتعلّق بالصّحة العامّة والخاصّة، بل ما يجعل المرء في حيرة من أمره هو أنّ الأثر السّلبي لما يسمى بالحجر الصّحيّ قد ازدادت وطأته على النّاس مع دخول الشّهر الكريم وهو الشّهر الذي أوّله رحمة. ولا شكّ أنّ الدّولة قد مدّت يد المساعدة لفئات متعدّدة من المواطنين فقراء وغير فقراء ممّن تغيّرت أحوالهم المادّية وانقطعت أبواب الرّزق عنهم. ولاشكّ أنّ الجائحة قد فرضت على النّاس شيئا من التّقشف وإعادة النّظر في ما اعتادوه من سبل الانفاق وأولويّات العيش، غير أنّ كلاّ الأمرين لا يكفي بالنّظر إلى أنّ الأزمة طالت وقد تطول أكثر ممّا يهدّد فئات كثيرة بالجوع ومجتمعات متعدّدة بالقلاقل وعدم الاستقرار. أفلم نكن نعرف أنّ الشّهر الكريم على الأبواب قبل جائحة الوباء؟ ألم نكن نعرف أنّ الحجر على النّاس وتعطيل أنشطتهم سوف يؤثّر على مصادر دخلهم وطرق عيشهم؟ ألا يتّفق أغلبنا على أنّ أيّ مجهود للدّولة لن يكفي؟ أين العلّة إذن؟ 
تطلّع الجميع إلى الشّهر الكريم آملين أن يكون شهر الرّحمة والمغفرة، ولكنّنا للأسف اكتفينا فيه بالتّعاطف مع ذوي الحاجة أو مدّ يد المساعدة بالقليل على نحو فردي لا يغيّر في الأمر شيئا. إنّ شهر رمضان لم يكن إلاّ شهرا كريما بكرم اللّه سبحانه وتعالى وكرم الصّائمين، وهو شهر التّقوى ولكنّه شهر الإنفاق أيضا، وأكاد أجزم أنّ لا أحد من المسلمين ممّن يصومون رمضان لا يعرف أنّ نبينا ﷺ كان من الجود بمكان وأنّه كان أجود ما يكون في رمضان حتّى شُبّه بالرّيح المرسلة. 
العلّة إذن تكمن في كوننا لا نستلهم معنى العبادات و لا نملك الرّوح التّواقة لإنفاذ المعنى في الواقع، فلا تجد مسلما لا يتوق للاقتداء بالنّبي ﷺ ولكنّنا لا نحسن هذا الاقتداء وإلاّ كنّا مثله جميعا توّاقين للخير، آملين في الحصول على رضاء اللّه بإكرام خلقه والرّحمة بهم.
لندع جانبا من يروّج إلى نظريّة قديمة مفادها أنّ الضّرورة تقتضي وجود فقراء داخل كلّ مجتمع بحكم الاختلاف في الكسب أو بحكم غلبة طبقة على أخرى وهي نظريّة لا تنسجم مع روح الإسلام وما يحمله من معاني العدل، فالفقراء لا ضرورة لوجودهم في أيّ مجتمع لأنّ هذا إنّما يعبّر عن خلل في توزيع الثّروة وفي تكافؤ الفرص ويعني حرمان طائفة من النّاس من حقّهم في العيش الكريم،ومن ثمّ فمقاومة الفقر والقضاء عليه ليست منّة من الدّولة ولا هي عمل مناسباتيّ أو مبنيّ على الشّفقة، وإنّما هي رافد من الرّوافد التّي تدعم الاقتصاد في أيّ بلد متّى أُدمج الفقراء في نسيج المجتمع وغدوا مساهمين في النّشاط الاقتصادي وفي خلق الثّروة وتبادلها تماما كالفئات الأخرى دون أيّ تمييز. ولا تكون مقاومة الفقر من أيّ منظور كانت هذه المقاومة عملا فرديّا أو هامشيّا وإنّما يجب تحويلها إلى عمل دؤوب مبنيّ على مناهج علميّة وأن تُجنّد له كلّ الطّاقات ليصبح عملا ذا جدوى لا يكتفي فقط بتوزيع الفتات على الفقراء وإنّما يتوجّب حياله أخذ الأموال من الدّولة ومن الأغنياء ومن أموال الزّكاة وممّا ينفقه ذَوُوا السّعة واستثماره في استحداث طرق وبرامج جديدة تقضي على الفقر تماما وتحوّل الفقراء نهائيّا من فئة محرومة إلى فئة قد استردت حقّها في العيش الكريم. 
لم نكن نحتاج جائحة تذكّرنا بما يجب أن نفعل، وجبّذا هذا الشّهر الكريم وما فيه من مكرمات لو أنّنا نظرنا إلى المحرومين منّا على أنّهم بشر مثلنا . إذا لكنّا كسبنا من النّهوض بالفئات الهشّة والمحرومة أضعاف ما سننفقه عليها ووقينا مجتمعنا من شرور جمّة وظواهر كثيرة مرتبطة بالفقر أيّما ارتباط، ولكنّنا لم نع بعد أنّنا ملزمون بهذا في رمضان وفي غيره من الشّهور وأنّنا لا بدّ أن نعلّم النّاس كيف يصطادون بدل أن نعطيهم سمكا ولكنّنا غافلون. 
هذا شهر آخر من شهور رمضان جاء يذكّرنا بحالنا وكيف يجب أن نكون، وارتحل مثل سابقيه من دون أن نستغلّ فرصة وجوده بيننا لأنّنا أمّة ضيّعت هدى نبيّها ﷺ والتمست الفلاح في غيره، ولكننا سنظّل نأمل أن يكون القادم أفضل ولا حياة بدون أمل.