في الصميم

بقلم
الحاجي الوزاني
التفسير الإيماني للأزمات الإنسانية
 نقصد بالأزمات الإنسانيّة؛ المهلكات التي تصيب الإنسانيّة في الأسس التي تقوم عليها حياتها، وتفقدها توازنها، وتكشف عن قصورها وعجزها، وخلل في تصوّراتها وسلوكها، سواء كانت هذه الأزمات استئصاليّة كما وقع لبعض الأمم السّابقة؛ أو كانت أزمة خانقة لكنّها انفرجت بعد معاناة شديدة. والإنسان هنا منظور إليه باعتباره جنسا، أي جنس الإنسان في الوجود، وليس باعتباره فردا أو جماعة في زمن ما (1). هذه الأزمات التي تغيّر مجرى التّاريخ؛ سنحاول أن نقدّم قراءة مختصرة في أسبابها من خلال الجمع بين الكتابين؛ الكتاب المسطور الذي يقرّر سننا كونيّة ثابتة، والكتاب المنظور الذي تتحقّق فيه تلك السّنن، وذلك من منطلق أنّ خالق الكتابين واحد، وهو الواحد الأحد سبحانه.
أمّا التّفسير الإيماني؛ فنعني به ما تقرّره الآيات البيّنات من الوحي المبين في هذا الموضوع، وذلك بناء على إيماننا بأنّ القرآن الكريم وحي من عند اللّه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ أي أنّ ما يخبرنا عنه فهو حقّ لاشكّ فيه، وما يأمرنا به فهو خير لا مرية فيه، وما ينهانا عنه فهو شرّ لاَ شِية فيه، لأنّه كلام صادر عن عالِم الغيب والشّهادة، انطلاقا من هذا الاعتقاد الجازم؛ سنحاول أن نتبيّن بعض أسباب الأزمات الإنسانيّة كما نصّت عليها نصوص قطعيّة ثابتة. أما غير المؤمن بالوحي، فليس مخاطبا لنا هنا، ونعذره ولا نعاتبه إذا نظر إلى هذه السّطور نظرة استخفاف واستكبار، فخطابنا موجّه للذين يشاركوننا الإيمان بالغيب عموما، وللمؤمنين بالرّسالة الخاتمة خصوصا.
الإشكالية التي سنحاول مناقشتها باختصار شديد؛ هي كيف نفسّر الأزمات التي تعاني منها الإنسانيّة؛ هل هي أمر طبيعيّ نتيجة عوامل موضوعيّة؛ أم تدخّل إلهي لمعاقبة الإنسان على سلوكه؟ وإذا كان الجواب هي عقاب إلهي للإنسان؛ فما هي الأفعال التي يعاقب عليها بالتّحديد؟
أولا: الله تعالى هو مصدر النّعم كلّها
يخبرنا القرآن الكريم في كثير من الآيات بمصدر النّعم التي نتنعم بها، وهي نعم كثيرة لا تعدّ ولا تحصى «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا»(2)، لكن عند التّأمل في هذه النّعم؛ نجد أنّ هناك  ثلاثَ نِعم كبرى يمكن اعتبارها أصلا للنّعم الأخرى؛ وهي: 
1. نعمة الإيجاد: نجد كثيرا من الآيات تذكّرنا بهذه النّعمة التي تستوجب التّقوى، أي الخوف منه سبحانه وتعالى وعبادته، ومن هذه الآيات؛ قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» (3). وقوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً» (4). وقوله أيضا: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ» (5) وغيرها من الآيات الكثيرة التي تبيّن أنّ اللّه تعالى منَّ على عباده بنعمة الإيجاد. 
2. نعمة التّسخير: بعد أن خلق اللّه تعالى الإنسان سخّر له ما في السّموات وما في الأرض، أي أنّه تعالى جعل مخلوقاته الأخرى كلّها في صالحه وخدمته، بها تقوم حياته وتستمر، قال تعالى: «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً»(6). وقال: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ» (7). وقال أيضا: «وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ»(8).
3. نعمة التّعلّم: نعمة الإيجاد لا تكتمل إلاّ بنعمة التّسخير، ونعمة التّسخير لا تتحقّق إلاّ بنعمة التّعلّم، لأنّ الاستفادة من نعمة التّسخير لا تتمّ تلقائيّا، بل بعد كدّ وسعي من قبل الإنسان الذي مكّنه اللّه تعالى من وسائل التّعلّم، فالتّعلّم إذن؛ شرط ليستفيد الإنسان ممّا سخّر اللّه له، قال تعالى«وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ» (9). وقال أيضا:«وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(10). ونفس المعنى يؤكده قوله :«قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ»(11) .
أصل النعم إذن هو اللّه، والإنسان ما يزال متنعّما بها، وهو الأصل؛ حتّى يحدث ما يقتضي عكس ذلك، قال تعالى: «ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»(12).
ثانيا: الإنسان هو سبب الأزمة
يقرّر القرآن الكريم في عدد من الآيات قاعدة إيمانيّة نستطيع في ضوئها أن نفسّر الأزمات الإنسانيّة، وهي: (الأزمة سببها الإنسان)، قال تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(13). وقوله: «وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ»(14). وقوله أيضا:«وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ»(15).
واضح إذن من خلال هذه الآيات، وهي نماذج فقط؛ أنّ الأزمات التي تعاني منها الإنسانيّة في فترة من الفترات، أي خروجها من حالة الرّخاء إلى حالة الشّدة؛ سببها الإنسان نفسه، ويكون الإنسان سببا عندما ينحرف عن الرّشاد، فيقترف أفعالا تخالف الغاية التي وجد من أجلها، والسّنة التي يجب أن يتّبعها، وهي سنن الخلق والتّكوين والاستمرار، فالنّعم تستوجب الشّكر، لكن إن قوبلت بالكفر، أي استعمالها في غير محلّها؛ حلّ العقاب الإلهي بالإنسان لعلّه يتذّكر فيرجع إلى سواء السّبيل، وهذا هو المقصود بالقول؛ إنّ الإنسان هو سبب الأزمة التي يعاني منها، وليس أنّه هو صانعها والمتحكّم فيها. وإذا ثبت الآن بهذه النّصوص القطعيّة أنّ الأزمة عقاب إلهي للإنسان؛ فهل كلّ فعل أُمِر به الإنسان ولم يلتزم به يقتضي العقاب الدّنيوي؟ سؤال نجيب عنه في الفقرات التالية.
ثالثا: الأفعال التي تستوجب العقاب الدنيوي
بعد تتبع الآيات الواردة في الموضوع؛ وجدنا أنّ الأفعال التي تستوجب العقاب الدّنيوي تنقسم إلى قسمين، وهما:
1. أفعال فيها اعتداء على حقوق الإنسان: اللّه عزّ وجلّ خلق الإنسان من أصل واحد ولم يميّز بين ذكر وأنثى، أو بين أبيض وأسود، فالنّاس سواسية كأسنان المشط لا يفضل أحدهم الآخر عند اللّه إلّا بالتّقوى، «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(16)، ثمّ تكرّم سبحانه على عباده بنعم كثيرة، وجعلها مسخّرة للجميع ومشاعة بينهم بالعدل، ولا تفاضل فيها لأحد إلاّ بمقدار عمله وسعيه، لكن قد يقع الانحراف عن هذا المنهج فينتشر الظّلم والاعتداء على قسمة اللّه العادلة، قال تعالى:«وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ»(17). ولهذا الظّلم والاعتداء تجليات كثيرة في كتاب اللّه المنظور، من ذلك:
- منع النّاس من حقوقهم الإنسانيّة: ويقع ذلك عندما تتجبّر فئة من ذوي النّفود والقوّة، فتتحكّم في رقاب النّاس، وتمنعهم من حقّهم في الحرّية والكرامة والمساواة والعيش الكريم، نجد ذلك عند قوم نوح عليه السّلام الذين قالوا جوابا عن دعوته إيّاهم إلى الحقّ: «قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ»(18) وقالوا أيضا:«وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ»(19) وردّ عليهم نوح عليه السّلام: «وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا»(20). أصبح المجتمع إذن يتكوّن من ملأ متجبّرين وأراذل مستضعفين، وهنا تدخّلت العناية الإلهيّة بعد إنذار، فكانت النّتيجة«وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ»(21). ويتجلّى هذا أيضا في النّموذج الفرعوني والقاروني «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ»(22).
- الاستكبار في الأرض وسفك الدّماء: وخير نموذج في ذلك قوم عاد وفرعون، حيث قالت عاد «وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً» (23)حتّى نزعت الرّحمة من قلوبهم فسفكوا الدّماء، قال تعالى: «وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ»(24) وكانت نهايتهم: «إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ، تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ» (25). أمّا فرعون فقد طغى في الأرض وسعى فيها بالفساد وسفك الدّماء، قال تعالى: «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ» (26)، فجاء العقاب الإلهي لينتصر للضّعفاء من فرعون وملئه «فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ» (27).
2. أفعال فيها اعتداء على نظام الحياة: لمّا خلق اللّه تعالى الكون والإنسان وسائر الموجودات؛ خلق ذلك بنظام دقيق، فجعل ذلك النّظام سنّة كونيّة بها تستمرّ الحياة في الأرض، لكنّ الكائن الإنساني المستخلف في الأرض، والذي حباه اللّه تعالى بنعمة العقل؛ قد يتدخّل أحيانا في هذا النّظام فيريد تغييره، ومن تجليات هذا الاعتداء على نظام اللّه في الحياة:
- تغيير نظام التّناسل البشري: وخير من يمثّل ذلك في التّاريخ؛ قوم لوط عليه السّلام، حيث استبدلوا النّساء بالذّكور، قال تعالى: «أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ» (28)، فقد فشت فيهم هذه الفاحشة حتّى أصبحت هي الأصل والمعروف، وما سواها استثناء ومنكر، حيث قالوا: «أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ»(29) وبعد إنذار نبيّ اللّه لوط عليه السّلام الذي لم يثنهم عن غيهم وخروجهم عن الفطرة؛ تدخّلت العدالة الإلهيّة لتهلك هؤلاء المعتدين على نظامه وسنته، قال تعالى:«إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ»(30). ويلحق باللّواط الزّنا؛ لأنّه اعتداء أيضا على سنّة اللّه في التّواصل الجنسي بين البشر، ونظامه في النّسل وتكوين الأسرة.
- الجور على النّظام البيئي: سخّر الله تعالى للإنسان ما في السّموات والأرض، وأباح له التّمتع بجميع الطّيبات، لكن في نفس الوقت؛ حذّره من التّبذير والإسراف المؤدّيين إلى الإخلال بالتّوازن البيئي،«وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (31). ومن نماذج الاعتداء على سنّة اللّه في البيئة؛ قوم ثمود، وهم –كما يخبرنا عنهم القرآن-؛ قوم كانوا«فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ»(32)، ولمّا بعث اللّه إليهم أخاهم صالحا، وأيّده بمعجزة النّاقة؛ أنبأهم بأنّ«الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ»(33)، يوم لها ويوم لهم، «قَالَ هَٰذهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ» (34)، فأمرهم اللّه تعالى بأن يتركوها تأكل في أرض اللّه، ولا يمسّوها بسوء، لكنّهم اعتدوا «فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ»(35) فوصفهم اللّه تعالى بالمسرفين الذين يفسدون في الأرض «وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ»(36)، فاستحقّوا بهذا العدوان العقاب الإلهي،«إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ»(37). والنّموذج الثّاني قوم من بني إسرائيل مع خيرات البحر، حيث أباح اللّه لهم الصّيد في جميع أيام الأسبوع إلاّ يوم السّبت، لكنّهم اعتدوا ولم يلتزموا بذلك، والاعتداء والعدوان؛ هو الإفراط وتجاوز الاعتدال، فحلّت بهم سنّة الّله في المسرفين«وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ»(38).
رابعا: حقوق الله الخالصة ليست من أفعال العقاب
وإذ تبيّن أنّ اللّه تعالى يعاقب عباده عندما يعتدون ويفسدون في الأرض، سواء كان الاعتداء في حقّ الإنسان أم في حقّ البيئة ونظام الحياة؛ فإنّ حقوق اللّه الخالصة، وهي الإيمان به وتوحيده وعبادته؛ ليست من الأفعال الموجبة للعقاب المادّي الدّنيوي، بل عقوبتها مؤجّلة إلى يوم الحساب، والأدلّة على ذلك كثيرة، ومنها:
- أنّ جميع العقوبات الإلهيّة التي حلّت بالأمم السّابقة لم تكن بسبب كفرهم وشركهم، أو تركهم لعبادته؛ بل كانت بسبب عتوّهم وفسادهم في الأرض، والألفاظ التي تذكر غالبا في سياق استحقاق العقاب، هي: الاستكبار، والطّغيان، والعدوان، والفساد، والإجرام، والبغي، والذّنب، والمعاصي، والفواحش، والظّلم، وهذه كلّها أوصاف متعلّقة بالسّلوك وليس الاعتقاد، ففرعون مثلا، حينما غرق وأعلن إيمانه؛ لم يقبل منه بسبب فساده وليس كفره «آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ»(39)، وكذلك عاد وثمود وقوم نوح، قال تعالى: «وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ ، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَىٰ، وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ، إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ» (40).
- قال الله تعالى: «وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا،كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ» (41). فاللّه تعالى أهلكهم لمّا ظلموا، وليس حينما كفروا أو أشركوا، ولم يهلكهم كذلك إلاّ بعد أن جاءهم البيان من اللّه عساهم يعدلون، لكنّهم تمادوا في غيّهم ولم ينفعهم الإنذار، ولن ينفعهم لأنّهم مجرمون، وما يروى في سبب نزول قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ»(42) أن ذلك شقّ على الصّحابة فسألوا النّبي ﷺ، وفسّرها بقوله تعالى: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ»(43)؛ لا يعني أنّ الظّلم مرادف للشّرك؛ بل يعني أنّ من معاني الظّلم الشّرك بالله(44) .
- وقد ورد تعليل العقاب بالكفر في سياق واحد في القرآن الكريم، وذلك مع قوم سبأ الذين أنعم اللّه عليهم بجنّتين ولم يشكروا، فسلّط اللّه عليهم سيل العرم، قال تعالى: «ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا»(45)  والكفر هنا لا يعني –واللّه أعلم- الكفر باللّه تعالى؛ بل الكفر بنعم اللّه الكثيرة عليهم، وذلك بسبب طغيانهم وإفسادهم في الأرض. كما ذكر الله تعالى عن قوم يشبهون قوم سبأ، أنعم اللّه عليهم برغد العيش فكفروا بأنعمه بأفعالهم وأخلاقهم، قال تعالى «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ»(46)
- تكتفي كثير من الآيات القرآنية التي تحدّثت عن الكفّار والمشركين بالعقوبة الأخروية، من ذلك على سبيل التّمثيل فقط؛ قوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ، وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ»(47).
- ويزكّي الواقع هذا الفهم، وهو أنّ كثيرا من الكفّار والمشركين هم أحسن بكثير، على مستوى النّعيم الدّنيوي؛ من أهل الإيمان والتّوحيد، ذلك أنّ اللّه تعالى جعل قوانين ثابتة في كونه من سلكها وصل إلى مبتغاه، مؤمنا كان أو كافرا، والجزاء يوم الحساب(48)، « مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ» (49).
وإذا كان العقاب الدّنيوي المادّي منفيا عن المفرطين في حقوق اللّه الخالصة، ومؤجّلا إلى يوم الآخرة؛ فإنّ العقاب النّفسي ليس كذلك؛ بل هو جزاؤهم في الدّنيا، وهو عذاب قد يكون أشدّ من العذاب المادّي، قال تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا»(50)، وفي آية أخرى:«وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ» (51).
خاتمة
الأزمات الإنسانيّة من المنظور الإيماني إذن؛ سببها الإنسان الذي يعتدي على سنن اللّه في خلقه، فيأتيه العقاب الإلهي ليهلكه فيكون عبرة لغيره، أو يسومه سوء العذاب لعلّه يتوب ويرجع إلى سبيل الهدى والرّشد(52)، واللّه تعالى ينتقم لعباده الضّعفاء ولا ينتقم لنفسه، فهو غنيّ عن العالمين، لا ينفعه إيمان المؤمن وعبادته ولا كفر الكافر وجحوده، والجزاء مؤجّل إلى يوم الحساب، وهو حكم لم نستنتجه ونظنّه؛ بل نطقت به النّصوص القطعيّة ثبوتا ودلالة.
وإذا تأمّلنا في واقعنا المعاصر على هدي ما سبق؛ فإنّنا ندرك بسهولة أنّ مناط العقاب الإلهي متحقّق، فالعالم منقسم اقتصاديّا إلى دول الشّمال الثريّة، ودول الجنوب الفقيرة، الشّماليّون وعملاؤهم في الجنوب في بذخ وإسراف، وسكّان الجنوب من المستضعفين يموتون فقرا وجوعا، آلاف من الضّعفاء يموتون يوميّا بسبب الحروب والمجاعة وسوء التّغذية تحت رعاية المتجبّرين، ومئات من الأجنّة تسقط يوميّا كذلك بسبب الإجهاض النّاتج عن العلاقات غير الشّرعية، واستنزاف الثّروات الطبيعيّة الذي يهدّد التّوازن البيئي بشكل غير مسبوق متواصل، إضافة إلى دعوات تقنين اللّواط، والتّطبيع مع جميع الرّذائل ومحاربة الأخلاق بصفة عامّة، والادّعاء بأنّ الإنسان أصبح هو الإله بسبب الغرور العلمي، هذه الظّواهر هي نفسها التي عرضناها سابقا، والتي قلنا إنّها تستوجب تدخّل العدالة الإلهيّة لوقف العبث والإفساد في الأرض. 
ولعلّ ما نشاهده اليوم من الجفاف، والتّصحّر، والاحتباس الحراري، وانتشار أمراض خطيرة جدّا، وأوبئة فتّاكة كهذا الذي نعاني منه اليوم (كورونا)، وعجز العلم -إلى حدود لحظة كتابة هذه السّطور- رغم تقدّمه غير المسبوق عن مواجهته؛ إلاّ عقابا إلهيّا للإنسان الذي سعى في الأرض فسادا لعلّه يستفيق من ظلمه وغروره، وأثر هذا العقاب سينال الظّالمين لظلمهم، والمؤمنين لسكوتهم عن الحقّ، وكسلهم حتّى أصبحوا تحت رحمة الجبابرة عاجزين عن مواجهتهم وإن أرادوا، رغم أنّ أول خطاب من اللّه تعالى إليهم في آخر الرّسالات؛ هو (اقرأ)، لكنّهم أعرضوا عن القراءة والعلم فأعرض اللّه عنهم.
الهوامش
(1) وهذا التحديد لمفهوم (الإنسان والأزمة) يتماشى مع التحليل الذي سنقدمه، إذ سنتحدث عن النموذج الاستئصالي للأزمة من خلال الأمم السابقة، كما سنشير إلى النموذج الثاني الموجود في الواقع، وهو المقصود عندنا أصالة، فنحن إذن نتحدث عن أزمة اعترضت وتعترض الإنسانية منذ أن وجدت على الأرض، ومن هنا، فلا تعارض بين العنوان والمضمون.
(2) سورة ابراهيم - الآية 34
(3) سورة البقرة - الآية 21
(4) سورة النساء - الآية 1 
(5) سورة الروم - الآية 20
(6) سورة لقمان - الآية 20
(7) سورة الحج - الآية 65
(8) سورة الجاثية - الآية 13
(9) سورة السجدة - الآيات 9،8،7
(10) سورة النحل - الآية 78 
(11) سورة الملك - الآية 23 
(12) سورة الأنفال - الآية 53
(13) سورة الروم - الآية 41
(14) سورة الروم - الآية 36
(15) سورة الشورى - الآية 48
(16) سورة الحجرات - الآية 13 
(17) سورة هود - الآية 102
(18) سورة الشعراء - الآية 111
(19) سورة هود - الآية 27
(20) سورة هود - الآية 31
(21) سورة الأعراف - الآية 64
(22) سورة القصص - الآية 76 
وفي هذه الأيام؛ دعا طبيب فرنسي على الهواء مباشرة إلى تجريب لقاح كورونا في القارة السمراء!! وكأنّ الأفارقة فئران تجارب في نظر هذا العنصري، وتلك هي «نظريّة الملأ والأراذل» التي نتحدّث عنها، والتي تعبّر عن بلوغ قمّة الفساد في الأرض.
(23) سورة فصلت - الآية 15
(24) سورة الشعراء - الآية 130
(25) سورة القمر - الآيتان 19 و20 
(26) سورة القصص - الآية 4
(27) سورة الأعراف - الآية 136
(28) سورة الشعراء - الآيتان 165-166 
(29) سورة النمل - الآية 56
(30) سورة القمر - الآية 34
(31) سورة الأعراف - الآية 31 
(32) سورة الشعراء - الآيات 147-149 
(33) سورة القمر - الآية 28
(34) سورة الشعراء - الآية 155
(35) سورة هود - الآية 65
(36) سورة الشعراء -  الآيتان 151 و152 
(37) سورة القمر - الآية 31 
(38) سورة البقرة - الآية 65
(39) سورة يونس - الآية 91 
(40) سورة النجم - الآيات 50-52
(41) سورة يونس - الآية 13
(42) سورة الأنعام - الآية 82
(43) سورة لقمان - الآية 13
(44)والغريب في الأمر؛ أن الإمام البخاري عنون أحد أبواب كتابه الصحيح ب (باب اثم من أشرك بالله، وعقوبته في الدنيا)، لكنه لم يذكر ولا حديثا واحدا يثبت العقوبة الدنيوية للمشرك !!
(45) سورة سبأ - الآية 17 (46) سورة النحل - الآية 112
(47) سورة المائدة - الآية 72
(48) ورد في السنة أن الله تعالى يعاقب في الدنيا مانعي الزكاة (ولم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا) رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين. والزكاة تدخل ضمن العبادة؛ إلا أنها عبادة متعلقة أيضا بحقوق الغير، وهم الفقراء، ومن هنا؛ فهي ليست عبادة خالصة لله تعالى.
(49) سورة الشورى - الآية 20
(50) سورة طه - الآية 124 
 (51) سورة الحج - الآية 31
(52) يبدو والله أعلم؛ أن الاجتثاث التام سنة الله في الأمم السابقة، أما الاستئصال الجزئي والتعذيب والشقاء؛ فسنته في الأمة الإنسانية القائمة.