في العمق

بقلم
د.عماد هميسي
حرية التفكير مدخل ‏إلى الإصلاح الدّيني (2) ‏
  المطلب الثاني: الضرورة الفكريّة بين المعنى الشائع و إدارة التجديد
إنّ التّطورات السّريعة التي تجري في العالم، تؤكّد لنا جميعا ضرورة القيام بمراجعة فكريّة حضارية، ‏تقرأ من خلالها أصولنا الفكرية ومفاهيمنا الأصيلة قراءة جديدة تكتسي طابع التجديد والإضافة، وإلاّ كانت استعادة لأقوال السّلف وسلخا للتاريخ أو خطابة وتجييش للعواطف.‏
ولذلك على المفكّر الإسلامي أن يتسلّح برؤية تجديديّة وموضوعيّة بما تمثّله من روح نقديّة مرتبطة ‏بالمشاغل الحقيقية للنّاس ومستفيدة من التّقدم الحاصل في أذهانهم ومناهج البحث والتحليل لديهم. ‏فهي تشكل نافذة أساسيّة يطلّ من خلالها المسلم على العالم وأحداثه وتطوراته ويتحوّل الفكر البشري ‏في محيطنا العامّ الى فكر إيجابي ينقل المسلم من موقع الصّمت السّلبي أو الاستهلاك الدّائم الى ‏المشاركة الإيجابيّة في مسيرة المجتمع وتأسيسا على الحقائق، من الأهميّة بمكان إعادة النّظر في ‏علاقة الوحي بالتّفكير وذلك من خلال السّعي الى رفع الحدود الغامضة بينهما لأنّه الكفيل بتحقيق ‏الإطار المعرفي في القرآن الكريم، فالوحي لوحده لا يمكن ان يكون مصدرا معرفيّا كما العقل كذلك. و‏بالتالي خيار الكلّ المشترك هو الخيار الذي يشمل كلا المصدرين في حقيقة واحدة تحقّق في عقل ‏مستبصر ببصائر الوحي و ينمو و يتكامل معه، و من ثمّ نرفض كلّ محاولة عقليّة خارجة عن إطار ‏النصّ، كما نرفض كلّ محاولة تحاول أن تربط النّصّ بواقع معيّن فيكون النّصّ حينها مهيمنا على ‏حركة الزمان دون أن يتأثّر بها لأنّ إطار تلك المركزيّة الجديدة هو المعرفة بما هي القابلة للجري و‏الانطباق مدى الأزمان وحينها يكون النصّ بمثابة النّور الذي يكشف الظّلمات.‏ 
يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا»‏ (1)
ولكي يكون لنا فكر جديد يتّصف بالدّيمومة والشّموليّة، لا بدّ أن يكون مستنبطا لقيم كليّة صالحة ‏للجري مدى الزّمان والمكان والانطباق على المتغيّرات اليوميّة لأنّها كفيلة بجعل القرآن الكريم مشرقا ‏فلا يمكن أن نتصوّر بأيّ شكل من الأشكال أن يكون هناك فكر متجدّد وفي نفسه تصوّرات جزئيّة ومصاديق محدودة تجسّدت في شكل صور مثالية لسلف الأمّة، وبذلك ابتعد المسلمون عن الإسلام ‏الصحيح وعن الواقع الذي يعيشون فيه. فعاشوا حالة من الانفصام بين قدسيّة التّاريخ وانحراف ‏الواقع فما كان منهم الاّ الكفر به ومقاطعته.‏
يقول نصر حامد أبو زيد: «إنّ الخطأ الجوهري في موقف أهل السنّة قديما وحديثا هو النظر إلى حركة ‏التّاريخ وتطوّر الزّمن بوصفها حركة نحو الأسوأ على جميع المستويات ولذلك يحاولون ربط معنى ‏النصّ ودلالته بالعصر الذّهبي، عصر النبوّة والرّسالة ونزول الوحي متناسين أنّهم في ذلك يؤكّدون ‏زمانيّة الوحي لا من حيث تكوّن النصّ وتشكّله فقط بل من حيث دلالته ومغزاه كذلك، وليس هذا ‏مجرّد خطأ مفهومي ولكنّه تعبير عن موقف إيديولوجي من الواقع، موقف يساند التخلّف ويقف ضدّ ‏التقدّم والحركة» (2).‏ 
إنّنا إذن أمام تشخيص مشكلة حصرت معارف القرآن الكريم في أطر شكليّة تراثيّة ضمن أدبيّات إمّا ‏بالية أو غير صحيحة، ممّا جعل فهم النّصّ القرآني في مشكلة مزمنة. فالذي يجب أن نكافح من أجله ‏هو تفكيك النصّ القرآني من الفهم التّراثي الذي علق به وفق معطيات زمانيّة ومكانيّة واستلهام معرفة ‏قرآنيّة جديدة، فتتمكّن بالتّالي من التّعامل الأمثل مع القرآن الكريم، وتحفزنا إلى الاقتراب منه أكثر في ‏الوقت الذي نتلمس فيه الواقع المعيشي ونتفاعل مع تفاصيله.‏
علينا أن نقدّم رؤية تكامليّة تنظر لكلّ الوحدات الزمنيّة في أفق عرضي واحد، ليس لأيّ وحده حقّ ‏الأولوية أو المحوريّة، عندها نصل الى فهم القرآن الكريم في عمق مراده، وهذا لا يعني تجاوز ما قيل ‏من معانٍ وتجارب أنتجت ضمن معطيات خاصّة لفهم النصّ، وإنّما عدم الوقوف عنده، واعتباره الصورة المثلى والنّهائية للقرآن الكريم. فاكتشاف هذه المحوريّة في نظري هو مساهمة كبيرة ‏في حلّ مشكلة المعرفة القرآنيّة، ولا شكّ أنّ هذا التّمشي المنهجي المرتبط بالواقع وبواقعيّة معاصرة ‏جعلت من الفكر في شكله العامّ فكرا حداثيّا حوّل العقل البشري الى عقل يفكّر ولا يتوقّف أبدا.‏ 
وأخيرا تقتضي الضّرورة الفكريّة مرونة عقليّة وإلماما بالتّراث واطلاعا على العصر وتمكّنا من ‏الرّؤية المتبصّرة والأدوات المنهجيّة الكافية لإعادة الإشعاع إلى الفكر الإسلامي مع الاعتماد على ‏العقل المفكر والعزم المتحرّك، فالعالم اليوم متسارع الخطى والعزلة مستحيلة والتجدّد نداء الكون ‏الأزلي الأبدي والوقوف عند البدايات مهما كانت أهميتها وإغراؤها أمر يعاكس سنة التطوّر و‏يخالف قوانين الطبيعة القاضية بالتبدّل والحركة المستمرّة ولا جمود إلاّ الموت. 
ولا يمرّ التجديد عبر ‏تكديس المفاهيم والتلويح بالشّعارات، ولا يمكن لأحد أن يفكّر بدلا من الآخر، وإنّما ينبغي إعادة ‏منظومة التّفكير الإسلامي انطلاقا من مقدماتها وأصولها العقدّية بشكل ينسجم مع روح التّقدم و‏التحرّر في القرآن الكريم ولا يغفل الانفتاح على المنجز الإنساني عبر التّاريخ من خلال وعي ‏استخلافي يرى نفسه الشّاهد على التّاريخ والمكلف الأول برعاية  الكون وتعميره، كدحا الى الله ‏تعالى.‏ 
الهوامش
(1) سورة النساء - الآية 174
(2) سالم المساهلي: تجديد التفكير – 35 الى 37‏