تأملات
بقلم |
![]() |
النوري بريّك |
السياسة النبوية وفقه الترجيح |
السياسة هي كما يقال «فنّ الممكن» وحُسن قراءة الواقع، وأكثر من يُطالب في هذا العصربهذه السّياسة الإسلاميوّن لأنّهم في محيط شائك مترصّد يُحتاج فيه الى القدرة على المناورة والمداورة من غير غشّ ولا خداع وإنما بمكر وذكاء، وهو الأسلوب الأصعب في منزلقات السّياسة الحديثة ، فإمّا أن يجتهدوا في إيجاد مكان لهم الى أن يقدّموا أنفسهم بديلا وحلاّ لفوضى ووحشيّة سياسة اليوم القائمة على التّغوّل والافتراس وإمّا أن يبقوا في هذا العالم كالأيتام على مأدبة اللّئام.
لابدّ من القدرة على استلهام الحكمة، حيثما وُجدت فهي ضالّة المؤمن. ولاشك أنّ أوّل معلّم للحكمة هو النبيّ (ﷺ)، وفي سيرته عليه السّلام منهج يعلّمنا فقه التّرجيح ، بدءًا بالعبادة وانتهاء بالسّياسة. لقد علّم النبيّ (ﷺ) أصحابه في الحجّ اختيار أحد الأنساك الثّلاثة : إمّا التمتّع أو الإفراد أو القران وكذلك في النّهاية إمّا التعجّل في نهاية اليوم الثّاني عشر وقبل غروب الشّمس أو التّأخّر الى اليوم الثّالث عشر. والنّظر العميق في نصّ الوحي «وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» (1).
وبالنظرة الشّمولية العامّة واستحضار المغزى وعدم قصره على موضوع الحجّ ينفتح باب في المنهج يحيلنا الى قضيّة مهمّة هي ضرورة الوعي بفقه التّرجيح أو فقه الموازنات وهو الفقه الذي يقوم على أساس بنيان السّياسة الشّرعيّة ممّا يثير مسألة « تعدّد الصّواب» حتّى أنّ بعض الأصوليّين يقرّر إمكانية تعدّد الصّواب في الأمر الواحد(2). ولئن كان الاجتهاد لا يقبل في القطعيّات التي تجسّم الوحدة الفكريّة والوجدانيّة والعمليّة للأمّة وهي ذات مساحة نصيّة ضيّقة، فإنّ المجال فسيح للمجتهدين في الظنّيات التّي هي ذات مساحة أوسع، حيث تسمح بإمكانيّة الاختلاف والتنوّع وفي ذلك رحمة للأمّة وتوسعة عليها، وقضايا السّياسة أكثرها من هذا الصّنف ممّا يجعل منها مجالا قد يتعدّد فيه الصّواب حسب حالات وظروف وملابسات معيّنة منها التغيّر من زمن الى زمن أو من بلد الى بلد أو من وضع الى وضع. فوضع الضّعف ليس كوضع القوّة وحال الاستضعاف ليس كحال التّمكين ووضع الاضطرار ليس كوضع السّعة وحال حديث الإسلام ليس كحال المتربّي بين أحضانه، ولهذا كانت فتوى النبيّ (ﷺ) في الوقائع الشّخصيّة لا تعتبر قاعدة دائمة لجواز أن تكون الخصوصيّة مراعاة فيها ومن هنا قال الأصوليّون والفقهاء : وقائع الأحوال والأعيان لا عموم لها. وقد غيّر الصحابة أحكاما بعد النبيّ كعقوبة شارب الخمر، فجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين حين رأى النّاس تمادوا في الشّرب فتمادى في العقوبة ردعا وزجرا.
وإذا كان هذا مراعى في القضايا الفقهيّة فإنّه أولى بالمراعاة في القضايا السّياسيّة وقضايا الإصلاح مرهونا بالظّروف وملابسات الأحوال، فمثلا يمكن أن يشارك الإسلاميّون في المجالس النّيابيّة في بلد دون آخر حسب القدرة على التّأثير سواء كان بالمشاركة أو بالمقاطعة. كما قد يختلف الموقف من المشاركة في انتخابات الرّئاسة إمّا بصفة مباشرة أو بتزكية أقرب المتنافسين حسب قراءة الملابسات والمآلات، وهذا يعود الى القدرة على الموازنة والتّرجيح والاجتهاد في تكييف الواقع وتقدير المسافات مع الخصوم السّياسيّين إلتقاء وتقاطعا فيكون من غير الفقه من بعض المتحمّسين أن يساوي بين الخصوم على أساس أنّهم جميعا أهل بدع معادون للدّين بينما فيهم الخطير والأخطر والصّعب والأصعب، فليس من السّياسة أن نضعهم في مستوى واحد بينما القاعدة الشّرعيّة تقول بـ: ارتكاب أخفّ الضّررين وأهون الشرّين، ولهذا يجوز التّعامل مع خصم على خصم أخطر منه والتّنسيق مع كافر على كافر أشدّ منه كفرا وقد حالف النبي (ﷺ) قبيلة «خزاعة» وهي مشركة ضدّ قريش وهي عشيرته ولكنّها كانت أشدّ عداء للدّين الجديد. قال الزّهري: «وكانت خزاعة نُصُحَ رسول اللّه مسلمها ومشركها لا يخفون عنه شيئا كان بمكّة(3). كما اختار النبيّ (ﷺ) أن يصالح «هوازن» يوم الخندق على ثلث ثمار المدينة بشرط أن يعودوا الى ديارهم وبذلك ينشقّ حلف الأحزاب المحاصر للمدينة، وكذلك اختار (ﷺ) أن يخرج معه أعراب البّوادي ولو كانوا مشركين في السنة السادسة من الهجرة لمّا أراد العمرة حتّى يضع قريشا في مأزق بين القبائل إن ردّته ومن معه من العرب عن زيارة البيت الحرام، أمّا عند الاستعداد لمعركة «حنين» سنة 9هجري فقد استعار من صفوان بن أميّة وهو مشرك سلاحا كثيرا فقد أورد ابن هشام «فلمّا أجمع رسول اللّه السّير الى هوازن ليلقاهم ذكر له أنّ عند صفوان بن أميّة أدراعا وسلاحا فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال : يا أبا أميّة، أعرنا سلاحك هذا نلقى فيه عدوّنا غدا، فقال صفوان: أغَصْبًا يا محمد؟ فقال: بل عارية ومضمونة حتّى نؤدّيها إليك.فقال: ليس بهذا بأس». (4) ومن قبل ذلك عند الهجرة للحبشة اختار النبيّ (ﷺ) أرضا نصرانيّة بعيدة عن كلّ القبائل العربيّة الأقرب مسافة ولغة ومنها ذوو رحم وصلة وذلك لأنّه (ﷺ) رأى مصلحة المسلمين والإسلام في الذّهاب الى الحبشة.
لقد مارس النبيّ (ﷺ) منهج الأصوب والأولى بامتياز وفي ذلك فقه نحتاجه اليوم في معتركنا السّياسي .
الهوامش
(1) سورة البقرة : 2 / 203.
(2) من المصوّبة :
* أبو هذيل العلاّف (تـ 335 هـ) . الزركلي (خير الدّين): الأعلام، دار العلم للملايين، الطبعة 4، 1979، ج7، ص131
* وأبو علي الجبّائي (303هـ). كحّالة (عمر رضا): م.س، المجلّد 5، ج10، ص 269.
* وأبو الحسن الأشعري (324هـ). كحّالة: م.س، مجلّد 4، ص 35
* والباقلاّني (403هـ). كحّالة: م.س، مجلّد 5، ج10، ص 109.
(3) ابن هشام (محمد بن عبد الملكـ) : م.س، ج 3-4، ص312.
(4) م.ن، ج 3-4، ص 440. |