بهدوء
بقلم |
![]() |
د.عماد هميسي |
مكانة العقل في القرآن الكريم |
(1) مقدمة
لا أحد يشكّ في ما للقرآن الكريم من توجيهات سديدة يسديها إلى النّاس أجمعين أبرزها دعوته إلى التفكّر وحسن النّظر في ملكوت السّماوات والأرض عن طريق أكبر نعمة خصّ بها الإنسان فاكتملت بها إنسانيّته – ألا وهي نعمة العقل- هذه الملكة التي تميّز بها الإنسان عن بقيّة سائر الكائنات. فكان بذلك إنسانا مكرّما مفضّلا على كثير ممّن خلق الله تفضيلا، يصدق عليه قوله تعالى: « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» (1).
فلقد رفع الإسلام من شأن العقل وأوكل إليه المسؤوليّة في كلّ شيء بحيث أعتبره شاهدا ودليلا على كلّ الأفعال والأقوال الشّرعيّة المطالب تنفيذها فهو كما يقول الشّاطبي: «مورد التّكاليف بحيث إذا فقد ارتفع التّكليف رأسا، وعدّ فاقده كالبهيمة المهملة» (2)
ولقيمته الجليّة والجليلة، اعتنى به القرآن الكريم وأحاطه بمكانة هامّة تتّفق مع أهميّته.
2) تعريف العقل:
- لغة: عقل بمعنى أمسك وقيّد فيقال عقلت المرأة شعرها أي أمسكته (3).
- اصطلاحا: وردت هذه المادّة بصيغ متعدّدة في الماضي والمضارع وبصيغة المفرد والجمع وبمعاني متعدّدة فقد ورد العقل بمعنى:
* الوعي: كقوله تعالى:«أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (4).
* الفهم: كقوله تعالى: «وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ» (5).
* الإدراك: كقوله تعالى: « وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ» (6).
* الاعتبار: كقوله تعالى: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا»(7) وقوله: «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» (8) (9)
ووردت هذه المادّة بمعاني أخرى كمعني التّذكير والفطنة والهداية وغيرها.
3) مكانة العقل في القرآن الكريم
أ) أهميّة العقل:
إنّ للعقل كما أومأنا مكانة متميّزة في القرآن الكريم ذلك لأنّه لا فهم لأيّ شيء إلاّ بالعقل- بل لا فهم للقرآن الكريم إطلاقا بمعزل عن العقل، فالعقل حضي بمكانة مهمّة في سور القرآن الكريم فتردّد في غالبيتها- واعتبر القرآن الكون بأسره لغزا، مفتاحه التفكّر والنّظر لما أسّس بنيانه على آيات لا يعلمها إلاّ أولو الألباب فصرّح تعالى بذلك قائلا: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ (*) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا» (10).
ب) لزوميّة إظهار الحجّة المرتكزة على العقل من خلال القرآن الكريم:
من هذا المنطق الذي لاحظناه في باب أهمّية العقل تتأكّد قيمة هذه الملكة التي أوردها القرآن الكريم- ففي معرض مجادلة كلّ من كان في قلبه مرض من المشكّكين والدّهريّين وأصحاب الفتن والزيغ والأهواء، فنجد القرآن الكريم يدعوهم إلى إقامة الحجّة والبرهان مع إحاطتهم علما بأنّ لا حجّة ولا برهان خارج دائرة العقل وأحكامه فيقول تعالى: «هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ» (11) . فالحجّة والبرهان أساس مستند كلّ دعوى- فقد عجز المشركون عن الحوار النّزيه المعقول بعد ما استعرض عليهم الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قصص الأوّلين لغرض الاعتبار والإنذار زاد في تعجيزهم بقول الله تعالى:«آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ» (12) .
ويعلّق الشيخ: محمد الطاهر بن عاشور في كتابه التحرير والتّنوير على هذه الآية بقوله: «الاستفهام مستعمل في الإلجاء وإلزام المخاطب بالإقرار بالحقّ وتنبيهه على خطئه وهذا دليل إجمالي يقصد به ابتداء النظر في التحقيق بالإلهية والعبادة» (13).
وعجز المشركين سببه فقدان البرهان والحجّة حيث واجههم بهما النّبي صلّى الله عليه وسلّم مواصلة لهذه الآية بقول الله تعالى: «أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.» (14)
ج) العقل والتقليد من خلال القرآن الكريم:
طبعا إنّ من لا يرتكز في حججه على مبدأ العقل وحكمه، أصبح كلامه هراء لا يمتّ للفكر بأيّة صلة، بل أنّك إذا دعوت أحدهم إلى إتّباع منطق الحكمة والعقل أعرض وأنكر وأصرّ على التقليد والإتباع الأعمى. ومن هذا المنطق اعتبر القرآن الكريم التقليد قيدا للعقل وعائقا لنشاطه، وسببا في الفتنة والضلال، فرواسب الجاهلية لمّا ألغاها الرّسول عليه السّلام من أذهان أهلها كان الهدف التطهّر منها، لأنّ ذلك مدعاة إلى اختراق أحكام العقل وقوانينه، بل إلى دوْس التّشريعات السّماويّة التي أقيمت ركائزها على مبدإ العقل – فلمّا آمن أهل الجاهليّة بالبحيرة والسّائبة والوصيلة والحام، دلّهم عليه السّلام إلى إتباع مناطق العقل فأرشدهم إلى ذلك في قوله تعالى: «مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ۙ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ» (15).
إذا فلا غرابة أن نعت الله سبحانه وتعالى هذا الصنف من البشر بأبشع النّعوت فقال في شأنهم: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ »(16)
ومن هنا ندرك خطورة التّقليد والتّعصّب إلى إتباع أحكام الظّلال دون الاستشارة بضياء العقل ونوره، وكلّ ذلك سبب في فساد الكثير من المجمّعات التي طغى عليها طابع الجمود والانحطاط.
د- الظنّ وإخلاله بمبادئ العقل من خلال القرآن الكريم:
هذا ونجد فريقا آخر يكاد يكون شبيها بأصحاب التّقليد والمعوّقين لعقولهم وهي الفريق الذي أهمل أصحابه استعمال عقولهم فباؤوا بضلال مبين ولو أنّهم تدبّروا في ما في إهمال استعمال العقل من وعيد ينتظرهم، ما توانوا لحظة واحدة في تحريك ألبابهم، فعدم استعمال العقل في المسائل الهامّة من حياة الإنسان سبب في دخول الكثير إلى نار جهنّم مصداق قوله تعالى: «وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ»(17) ذلك لأنّ الله تعالى ميّز الإنسان عن البهيمة بالعقل، وفي ذلك تشريف وتكريم لخلقته الحسيّة والروحيّة، غير أنّ هذا الإنسان لم يعتبر بما أنعم الله به عليه، فكان في تفكيره كالأنعام بل أضّل – يدلّنا على ذلك قوله تعالى:«أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا» (18) .
فزاد الله في شدّة قبح وصفهم فصنّفهم إلى أشرّ الدّواب على وجه الأرض ونطق بذلك فقال: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ»(19) وما كان الله ليصفهم بهذا لولا دعوته إلى سلوك مسلك العقل الهادي إلى صراط مستقيم، لذلك فإنّ كلّ من يهمل استعمال عقله كان من أهل من يتّبع الظنّ فيزيغ عن حجج العقل و قوانينه، ولذلك فحسب نودي بالتخلّي عن المسلك والاهتداء بهداية الفكر حتّى يتجنّب كلّ ما من شأنه أن يكون سببا في تضليل النّاس وإفسادا لمعتقداتهم (20) .
يقول تعالى: «وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» (21).
هـ - العقل و نواميس الكون من خلال القرآن الكريم:
لا يختلف اثنان في ما للكون من تماسك وترابط وطيدين وفي ما عليه من إبداع حيّر فيه العقول والألباب، فكان آية بيّنة على وجود مبدع خلقه على هذه الشاكلة. إذ أنّ الإنسان بعد استعمال فكره في مختلف الظواهر الكونيّة توّصل إلى إثبات هذه الحقيقة التي دعا القرآن إلى إثباتها عن طريق ملكة العقل، والآيات الحاثّة على هذا المجال كثيرةّ، من ذلك قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (22) و في قوله تعالى: «أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ»(23) وقوله تعالى: «قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ» (24) .
وهكذا فالعقل يحافظ على مكانته التي أرادها الله أن يكون عليها فهي مكانة عظمى تتناسب مع سرّ هذه الملكة وعظمتها حتّى قال الشاطبي: « لو عدم العقل لارتفع التديّن» (25) .
و- الإيمان والعقل من خلال القرآن الكريم:
إنّ أغلب من لا يستعمل عقله ويتبع هواه لا إيمان له. بمعنى أنّ الذين عاندوا وجادلوا في إثبات وجود الله وصفاته وبعثة أنبيائه ورسله وغير ذلك من المسائل العقائديّة التي يعرفها كلّ مسلم. إنّما كان مرتكزهم في ذلك على إتباع أوامر نفوسهم المضلّلة وعلى تركهم وحيادهم عن مبادئ العقل حتّى شبّههم الله تعالى بشرّ الدّواب وعدّهم من أهل الكفر – فخاطبهم قائلا: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»(26) فلو أنّهم تفكّروا ما كفروا، لذلك فقد اعتبر الإيمان مقرونا بالعقل، والكفر مقرونا بالرجس لعدم استعمال العقل، وفي هذا يقول تعالى: «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ»(27) .
إنّ ما ورد في القرآن الكريم من مكانة عالية للعقل وحثّ على التفكير إنّما هو إعلان عن فضل جدوى هذه الملكة التي لا يستطيع بحال أن يستغني عنها أحد، فهي مصدر كلّ شيء وطريق موصل إلى سبيل النجاة والهدى.
الهوامش
(1) سورة الإسراء - الآية 70
(2) الشّاطبي: الموافقات في اصول الشريعة- دار الكتب العلمية – 125هـ/2004 م -3/209
(3) بن فارس: معجم مقاييس اللّغة- دار الفكر – 199هـ/ 1979م -6/69 – مادّة عقل
(4) سورة البقرة - الآية 75
(5) سورة العنكبوت - الآية 43.
(6) سورة البقرة - الآية 170
(7) سورة الحجّ - الآية 46
(8) سورة الأعراف - الآية 176
(9) الفيروز آبادي: بصائر ذوي التمييز – المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية – 3- 1416 هـ/1996م- 4/85.
(10) سورة آل عمران 66
(11) سورة آل عمران 66
(12) سورة النمل 59
(13) بن عاشور : التحرير و التنوير – الشركة التونسية للنشر-20/910
(14) سورة النمل - الآية 64
(15) سورة المائدة - الآية 103-104
(16) سورة البقرة - الآية 171
(17) سورة الملك - الآية 10
(18) سورة الفرقان - الآية 44
(19) سورة الأنفال - الآية 22
(20) علي الشابي و أصدقاؤه : العلم في الإسلام- سلسلة آفاق اسلامية – عدد2- 10
(21) سورة الأنعام - الآية 166
(22) سورة النحل - الآية 12
(23) سورة الغاشية - الآية 17-18-19-20-21
(24) سورة يونس - الآية 101
(25) الشاطبي: الموافقات – 02/10
(26) سورة الأنفال - الآية 55
(27) سورة يونس - الآية 100
|