بهدوء
بقلم |
![]() |
أ.د.احميده النيفر |
الصبح القريب أيّ تعليم وطني أصيل للمجتمع الحديث؟ |
-1 ليس من قبيل المبالغة القول بأنّ إحدى المعضلات الكبرى التي تطبع الفترة الرّاهنة في العالم العربي-الإسلامي تتمثّل في تكوين النّخب التي تخرّجها المؤسّسات التّعليميّة الجامعيّة عامّة والإسلاميّة خاصّة. تلك معضلة لا توضَع عادة في مصافّ التحديّات الجسام لَكَأنها من القضايا الثّانوية التي لا تستدعي إلاّ عناية اللّجان الفنيّة ورجال الاختصاص الضيّق رغم أنّها في العمق لا تقلّ خطورة عن مسائل الحكم وتوزيع الثّروة والتّحولات الاجتماعيّة والاختيارات الاستراتيجيّة. عند التأمّل يتبيّن أنّه على عاتق تلك النّخبِ المتعلّمة تقع مسؤوليّة اتخاذ القرارات التي تصوغ المستقبل، ذلك أنّنا -رغم كلّ ما يقال- ما نزال «مجتمعات نخب» ليس للجمهور الواسع فيها أثر يُذكر في تحديد الاختيارات ونحت الآفاق.
لا أدلَّ على خطورة المؤسّسات الجامعيّة عندنا ممّا يظهر من نشاز أو قطيعة بين النّخب التي تخرّجها وبين مجتمعاتها إبانّ الأزمات الكبرى. مع التّحديات الجسيمة يبرز التّناقض المفضي إلى الاصطدام بين توجّهات عموم المواطنيــن وطبيعة مطامحهم وبيــن رؤى النّخب وما تؤدي إليه من سياســات يعتمدها الحكّـــام. إلى هذا يمكن أن نعزو جانبا من أزمة الحكم العربي المتمثّلة في التوجّس المتبــادل بين من يمتلك السّلطــة (السّياسية والمعرفيّــة) وبين مجتمعــات لا تُستشار فعلا لأنّه لا يُطمأَنُ إلى وعيهــا. يحصل هذا في ظلّ تراجع هائـــل لمكانة المثقّف، ذلك العنصر الرّئيس في إزالة الفجوة الهائلة بين أصحاب السّلطة وبين من تُمارَس عليهم.
-2 ثم إنّ معضلة المؤسّسات التّعليميّة قديمةٌ قِدمَ تنافس شيوخ العلم وما أورثه من تمذهب ثمّ صراع بين أطراف الملّة الإسلاميّة. وراء جانب من ذلك السّجال وتلك المناظرات تكمن تصوّرات متباينة للسّبل المحقّقة للمشاركة في العلوم. تأكّد ذلك مثلا فيما بين المغاربة والأندلسيّين من اختلاف في مناهج التّعليم نبّه إليه «ابن خلدون» مرجّحا ما اعتمده أهل الأندلس لتحقيق نسبة عالية من نباهة أبنائهم واقتدارهم على تحصيل المَلَكات. أمّا في المشرق، فمن الشّواهد على اختلاف النّظر إلى المسألة ما نقله بعض المتقدّمين في تقويمه لظاهرة «المدارس» التي أُنشئت على نمط المدرسة النّظامية معتبرا أنّ ظهور «تلك المدارس أفسد العلم» إذ أبعده عن التّخصّص الذي كان عند العلماء.
في الفترة الحديثة تفاقمت أزمة التّعليم لتبلغ حدّا غير مسبوق، فبعد أن كان التّعليم كما قرّره النّظر الخلدوني مجالا واحدا و« صنعة أساسيّة من صنائع العمران» تصاغ ضمنه الشّخصيّة الحضاريّة للجماعات، انشطرت المؤسّسة التعليميّة إلى شقّين: شقٍّ مدنيّ يرمي إلى سعة الفكر في وجيز الوقت وغايته القصوى التنميّة وشقّ دينيّ قاعدته تركيز قيم التّراث ونظامه الاجتماعي ومقصده عقديّ وخُلقيّ.
حاول التصدّى لهذا الفصام رجال الإصلاح في البلاد العربيّة منذ منتصف القرن التاسع عشر بدرجات متفاوتة من الاهتمام.
-3 لعلّ من أفضل ما دُوِّن في هذا الباب تأليف نادر المثال للعلاّمة التّونسي «محمد الطاهر ابن عاشور» اختار له عنوان: «أليس الصبح بقريب؟»
اهتم المؤلف بهذا الموضوع في مطلع حياته العلميّة قبل أن تتّجه عنايته إلى تفسير القرآن والأصول والمقاصد إدراكا منه لمدى حساسيّة القضيّة وبالغ أثرها في حياة النّاس ومستقبلهم.
إذا كان الكتاب قد وُضع سنة 1910 إبّان اضطرابات طالبيّــة شلّت التّعليم لعدّة أشهر في الزّيتونة، أقدم جامعة عربية إسلاميّة، فإنّه لم يلمّح إلى تلك الأزمة إلاّ لماما. حرص المؤلف على معالجة فلسفيّة وحضاريّة لمسألة التّعليم مع استيعاب لتاريخ المؤسّسة لدى المسلمين والفرس واليونان وأروبا الحديثة.
لكنّ السّؤال النّاظم لهذا الأثر بكلّ فصوله هو البحث عن أسباب فساد التّعليم في بلاد المسلمين وكيف تتمّ معالجتها؟
إذا أردنا التّركيز فإنّ هذا العمل الضّخم الذي مرّ عليه اليوم ما يزيد على القرن يظلّ معاصرا لعدّة أسباب أهمها:
- اعتمادُ معالجةٍ خلدونية لقضايا المؤسّسة التّعليميّة الإسلاميّة في سياقها الحديث. لذلك جاءت الرّؤية متكاملة وغير مقتصرة على الاعتبارات المحليّة بل نزّلها ضمن سُنّة حضاريّة تربط بين التّعليم والعمران.
- التوصّلُ من خلال هذه المعالجة إلى زوايا تحليل تتيح فهمًا أعمق وحلولا أكثر جرأة. أهميّةُ هذا التّمشي فيما يُقدِر عليه من تمييز في مستويات النّظر بين المتعلّق بنظام التّعليم وإدارته وبين الخاصّ بالمناهج وطرق التّفكير وبين أساليب التّعليم وطرق التّبليغ.
- إقرار واضح بمركزيّة مسألة المؤسّسة التّعليمية ضمن التوجّه الإصلاحي العام المنطلق مــن مبـــدإ: « تكرار الأصل ليس أصالـة بل نســخٌ وتشويــهٌ». لذلك يثبت الشّيخ ابن عاشور حدًّا للعلم فيقول: «هو ليس رموزا تُحَلُّ ولا كلمات تُحفظ ولا انقباضا وتكلُّفا ولكنه نور العقل واعتداله وصلوحيته لاستعمال الأشياء فيما يحتاج منها فهو استكمال النّفس والتطهّر من الغفلة والتأهّل للاستفادة والإفادة».
-4 ظلّ هذا التّأليف مخطوطا عند مؤلِفه لم يُنشر على النّاس إلا سنة 1968بعد أن تغيّرت أحوال المؤسّسة بصورة كاملة إذ ظهر تعليم مدنيّ عالٍ همّش المؤسّسة العتيقة مُعرِضا عنها وعن مناهجها ومرجعيتها وعمّا بذله الشّيخ من جهود إصلاحيّة غايتها الارتقاء بالتّعليم.
اعتنت الكلّيات الجديدة ذات الاهتمام بــ «الإنسانيّات» بــ«عبقريّة المُحدَث» وحذق أفنان المعرفة الحديثة بالاطلاع على إنتاج الفكر الكوني إطلاعاً مباشراً بينما انزوت الدّراسات الإسلاميّة فيما تبقّى من الزّيتونة في معارف تقليديّة تقتصر على نقل ما قال المتقدّمون مع إضافة بعض الفنون الجديدة كالفلسفة والتّاريخ ظنّا بأنّ ذلك يوجد مَلَكة علميّة ويحصّن الهويّة الوطنيّة.
ما تحقق فعلا مع المؤسّسة النّاشئة هو استحكام أزمة النّخب الجديدة التي تؤكّد مفارقة المؤسّساتِ التّعليميةَ الحديثة في عجزها عن تجاوز الفصام الثّقافي الذي يطالَب معه الخرّيجون ببناء روح وطنيّة تتمثّل التّراثَ وتجاربَ الماضي لكنّهم يكونون في ذات الوقت مندفعين إلى ولوج الحضارة العصريّة في ظروف استثنائيّة تلزم استغناءهم عن جانب هامّ من خصوصيّاتهم الثّقافيّة.
في الجانب الآخر لم يثمر حشد معارف جديدة إلى جانب أخرى تقليديّة في توليد ملكة علميّة وفكر معاصر، لم يظهر جدل بين الدّاخل والخارج المعرفيين والثّقافيين ولم تظهر معرفة متّسقة تتجاوز النّسيج المعرفي السابق من حيث التمكّن والراهنية من خلال القدرات الكامنة في الفكر والشخصية الذاتيين.
-5 بين هؤلاء وأولئك لم يعر أحد اهتماما بمشروع « أليس الصّبح بقريب؟»، رغم النّزعة التّفاؤلية العالية التي حملها العنوان بخصوص إمكان التغلّب على علل المؤسّسة التّعليميّة الوطنيّة. لقد بقي هذا التوجّه مغمورا في الأدراج طوال حياة المؤلِف ثم مهملا بعد وفاته.
اليوم حين ترتفع أصوات مطالبة بإصلاح التعليم الإسلامي توقيّا من التطرّف والتكفير لا نملك إلاّ أن نستحضر فذاذة هذا الرّجل الذي بنى رؤيته الإصلاحيّة للمناهج التعليميّة منذ زهاء القرن على مفاهيم ثلاثة: الغاية الحضارية - الإبداع - الموضوعيّة.
في المفهوم الأول يتأكّد التّلازم بين عنصرين في كلّ تعليم سليم: تكوين المَلَكة العلميّة ضمن منظومة ثقافيّة منفتحة على الأفق العمراني. في هذا يقول ابن عاشور: « بإهمال الآداب والأخلاق اعتقد النّاس أنّ العلم منحصر فيما تتضمّنه القواعد العلميّة كالنحو والفقه ...فمالت طائفة من العلماء إلى الحفظ والاستكثار من فروع المسائل ومن عدد العلوم».
-6 يرتبط ثاني المفاهيم بالوعي بأحد أهمّ أسباب تأخّر التّعليم في العالم الإسلامي: إنّه «غياب حرّية النّقد الصّحيح في المرتبة العاليّة وما يقرب منها وهذا خلل بالمقصد من التّعليم وهو إيصال العقول إلى درجة الابتكار ومعنى الابتكار أن يصير الفكر متهيّئا لأن يوسّع المعلومات ولا يكون ذلك إلاّ بإحداث قوّة حاكمة في الفكر».
أما الموضوعيّة فهي لا تنبثق إلاّ عند التّمييز بين ما هو من متطلبات الأهداف القريبة للتّعليم وما هو من لوازمه الغائيّة. يقول صاحب الصّبح القريب: واجب التّعليم هو «التّدريب على العمل وحبّ التّناسب في المظاهر كلّها وإدراك الأشياء على ما هي عليه والتّباعد عن الخفّة والطّيش وعن الجمود والكسل وسوء الاعتقاد في الأمور الوهميّة بحيث يكون العدل في جميع الأشياء صفة ذاتيّة».
من هذا المفهوم الثالث بالذّات تبرز حقيقة التّحدّي الذي يواجه النّخب الجامعيّة العربيّة في تعاملها مع ثقافتها وخصوصيتها في سياق ثقافة العولمة المتوحّشة.
أخطر ما في هذا الفصام التعليمي- الثقافي هو عدم الاتفاق على دلالتي الموضوعيّة العلميّة والانتماء الثقافي.
-7 في هذا المستوى من البحث تُطرح جملة أسئلة منها قسم للنّخب الحداثيّة:
- لأيّ غاية نؤطّر تعليم الدّين أو الظّاهرة الدّينية بعلوم الحداثة في البلاد الإسلاميّة؟
- حين ننطلق من مقولة: النصّ المقدّس نصٌّ تاريخي أساسا معتبرين أنّه يحول بين عقول المسلمين وبين الانفتاح على العصر بمعارفه ومناهجه، حين نفعل هذا ألا نكون قد اعتمدنا موقفا قبْليا من الإسلام وهل نكون عندئذ متلزمين بشروط الموضوعية والحياد العلميّ؟
- هل كلّ ولاء ثقافي وكلّ انتماء عقدي مناهضٌ للبحث العلميّ الجادّ؟ أليس من التعسّف القول بأنّ هناك مستوى واحدا من الموضوعيّة؟
أمّا النخب التراثيّة فينبغي توجيه ما يلي إليها:
-هل الحرص على الهويّة الثقافية يستلزم إنكار القول بأنها مكوَّنة من جملة عناصر مختلفة وبأنّها دوما في حالة تشكّل وحراك؟
- أيجوز لنا علميّا أن نعتبر أنّ التراث حاوٍ للتاريخ والواقع المستجدّ في آن؟ وكيف يتأتّى عندئذ تفسير حالة تعطّل المؤسسات الجامعيّة التقليديّة وعجزها عن الإبداع الفكري والعلمي؟
- أليــس من الخلط اعتبــار المطالبة بالتجرد لاكتشاف تاريخيــة « فَهْمٍ ما لنصٍّ مقـــدّس اعتــداءً على إيمـــان المؤمنيــن؟ أليس من جوهر الإيمـــان النّظر إلى أنّ النّص - لكونــه مقدّســـا- فإنّه يظلّ أوسع من فهم واحدٍ؟
في كلمة، إنّ تحرّي الموضوعيّة المعرفيّة في التّكوين الجامعي أمر أساسيّ لكنّ اشتراط التّجرّد من كلّ أثر للمقدّس عند إنجاز أعمال جامعيّة وفكريّة حديثة حقيقةً إنّما هو التّعسّفُ باسم العلم. هو إقرار بأنّ الموضوعيّة لها وجهة واحدة وهو إصرار على الفصام النّكد الذي لا يسعى في تقريب ساعة الصّبح من مؤسّساتنا الجامعيّة.
|