دراسات
بقلم |
![]() |
د.عماد هميسي |
الإصلاح ضرورة قرآنيّة وحاجة إنسانيّة |
الإصلاح كلمة جميلة، تستهوي القلوب، وتتطلّع إليها النّفوس، والقرآن يدعو النّاس إلى تحقيقها، والعيش في ظلّها، ولكن تطبيقها على الواقع العلمي بحاجةٍ إلى إرادةٍ وتصميم وعمل دؤوب ومتواصل،حتّى يدخل الإصلاح إلى كلّ بيتٍ، ويصلح كلّ فردٍ. ومن ثمّ، فقد جاءت الآيات القرآنيّة لتؤكّد أنّ الإصلاح ما كان متوافقاً مع فطرة الإنسان ومنسجماً مع وجدانه وضميره وعقله، وهو ضرورة قرآنيّة وحاجة إنسانيّة ومسؤوليّة جماعيّة. يقول الله تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».(1) كما أكّدت الآيات القرآنيّة في هذا السّياق على الإصلاح بجميع أبعاده ومشتقّاته وعلى جميع الأصعدة الفرديّة والآجتماعيّة وفي مختلف المجالات الآقتصاديّة والآجتماعيّة، إلخ... وبالتّالي فهو المهمّة العظمى للرّسل، والدّعاة، والمصلحين. قال الله تعالى على لسان موسى لأخيه هارون عليهما السّلام:«اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ» (2) وقال تعالى أيضاً: «وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ» (3) .
وترغيباً في مهمّة الإصلاح، والاضطلاع بمسؤوليّاته، وردت الآيات القرآنيّة الكثيرة، الّتي تؤكّد على أنّ الإصلاح في العمل دليل صدق التّوبة عن الذّنوب وقبولها،كما تثبّت الأجر العظيم لكلّ الصّالحين والمصلحين. يقول الله تعالى:« وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ» (4). و يقول أيضاً:«مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (5).
ويكفي للتّنويه بأهميّته والدّلالة على مشروعيّته، أنّ الإمام البخاري رحمه الله، ترجم له في الصّحيح، فقد أورد عشرين حديثاً، في أربعة عشر باباً في كتاب الصّلح منها الباب الأوّل: بــاب ما جاء في الإصلاح بين النّاس، الحديث الأوّل «... أَنَّ أُنَــاسًا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ...» (6) بل إنّ هذه الأحاديث النّبويّة الشّريفة، تضمّ معاني الصّلح المتعدّدة: في النّفس الواحدة، وبين الفردين في الجماعة المؤمنة، وبين المؤمنين وغيرهم من المشركين واليهود والنّصارى. جاء في الباب الثّالث: باب قول الإمام لأصحابه « إذهبوا بنا نصلح»، حديث سهيّل إبن سعد رضي الله عنه أنّ أهل قباء آقتتلوا حتّى تراموا بالحجارة، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال: « إذهبوا نصلح بينهم» (7).
ففي هذا الحديث الشّريف، إشارة إلى فضل الصّلح، والإصلاح بين المتخاصمين، حتّى أنّ الإمام يتولّى أمره ويباشر تنفيذه حثّاً للنّاس على ذلك وترغيباً لهم في الاهتداء والاقتداء لأنّ الإصلاح من أعظم الطّاعات، وأتمّ القربات التّي يحبّها الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه و سلّم ويرضاهما. بل إنّ الله تعالى يفضّل الصّلاة النّافلة والصّوم النّافل والصّدقة النّافلة وذلك لأنّ نفعها متعدّ عكس الفريضة فنفعها قاصر وما كان نفعه متعدّ، فهو أفضل من النّفع القاصر بالاتّفاق.
عن أبي الدّرداء رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ »ألا أخبركم بأفضل من درجة الصّيام والصّلاة والصّدقة»؟ قالوا:«بلى» قال:«إصلاح ذات البين، فإنّ فساد ذات البين الحالقة»(8). فيه إشارة إلى الإعانة على فعل الإصلاح، وإشاعته بين النّاس لذا كان توجيهه صلّى الله عليه وسلّم اللّطيف حثًّا على المحبّة والرّفق وزجراً على الآمتناع على فعله. يقول صلّى الله عليه وسلّم: «والسّمت الحسن والتّؤدة والآقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النّبوّة» (9).
وهذا يعني أنّ صلاح المؤمن يدلّ عليه حركات جوارحه، وآجتنابه المحرّمات واتّقاؤه الشّبهات، وأنّ صلاح الجوارح بحسب صلاح القلب. يقول الرّسول صلّى الله عليه و سلّم :« ... إِنّ الْحلالَ بيّن، وإنّ الحرام بيّن، وبينهما مشبّهات لا يَيعلمهنّ كثير من النَّاسِ، فمن إتّقى الشّبهات فقد آستبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام، كالرّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ألا وإنّ حمى الله محارمه، وإنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب».(10) فالقلب إذا كان سليماً ليس فيه إلاّ محبّة الله وما يحبّه الله وخشيته وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلّها، وإذا كان القلب فاسداً قد آستولى عليه اتّباع الهوى وطلب ما يحبّه ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلّها وانبعث إلى كلّ المعاصي والمشتبهات بحسب اتّباع هوى القلب (11) . يقول إبن حجرٍ العسقلاني: « وخصّ القلب بذلك لأنّه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعيّة وبفساده تفسد، وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحثّ على صلاحه، والإشارة إلى أنّ لطيب الكسب أثراً فيه»(12) .
ومصداقا لذلك يقول الله تعالى: « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ»(13).ويقول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم : « إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»(14).
إنّ صلاح الأجساد وصلاح الظّاهر حقيقة موقوفة على صلاح القلوب، فإذا صلحت القلوب صلح الجسد كلّه، ولن يكون في الأرض صلاح إلاّ بصلاح القلوب، لذلك كان الآهتمام بصلاحها من أعظم الفرائض وأهمّ الأمور. و كان من هديه صلّى الله عليه وسلّم الحثّ على الدّعاء بصلاح الشّأن وصلاح الحال، فقد أوصى إبنته فاطمة رضي الله عنها أن تدعو إذا أصبحت وأمست فتقول: « يا حيّ، يا قيّوم، برحمتك أستغيث ،أصلح لي شأني كلّه ،وَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْن» (15) . وقال صلّى الله عليه وسلّم أيضاً :«اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ صِحَّةً فِي إِيمَانٍ، وَإِيمَانًا فِي حُسْنِ خُلُقٍ، وَنَجَاحًا يَتْبَعُهُ فَلاحٌ وَرَحْمَةً مِنْكَ، وَعَافِيَةً وَمَغْفِرَةً مِنْكَ وَرِضْوَانًا»(16) .
والصّالحون تعمر بهم الحياة، و بسببهم تكون النّجاة، فهم الدّاعون للصّلاح، الآمرون بإحلاله.عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، استيقظ من نومه وهو يقول : « لا إلاه إلاّ الله، ويل للعرب من شرّ قد اقْتَرَبَ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وعقد سفيان تسعين أو مائة قيل أنهلك وفينا الصّالحون؟ قَالَ : نَعَمْ ، إذا كثر الخبث» (17).
وإنّ موت الصّالحين من أشراط السّاعة، فقد قال الرّسول صلّى الله عليه و سلّم: «يذهب الصّالحون الأوّل فالأوّل ويبقى حفالة كحفالة الشّعير أو التّمر، لا يباليهم الله بالة» (18)
كما أثنى الرّسول الله صلّى الله عليه و سلّم في هذا المضمار على الصّالح من المؤمنين، وعلى من يصلح ما أفسده النّاس، وحريص على إشاعة الخير، ونشر سنن الصّلاح.يقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : «إنّ الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فَطوبى للغرباء» (19) ويقول أيضاً: « لا يسنُّ عبدٌ سنّةً صالحةً يُعمل بها بعده إلاّ كُتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيئاً...» (20).
هؤلاء هم نمط فريد من النّاس، وعملهم شبيه بعمل الأنبياء والرّسل من حيث الدّعوة إلى الخير والحثّ عليه، مكانتهم عالية ودرجاتهم سامية، فإصلاح النّاس لا يقدر عليه إلاّ من أصلح اللّه أمرهم، ووفـّقهم الله في مهمّاتهم، وأعانهم على نشر أسباب الألفة والوئام، فحملوا غصن الزّيتون كحمامة سلام، وهيّأهم الله لنيل الثّواب الجزيل والأجر العظيم الّذي وعدهم الله تعالى به. والسّاعون في هذا العمل يكونون في عبادة، بل من أفضل أنواع العبادة، وحريّ لكلّ من يجد في نفسه أهليّة الإصلاح ألاّ يزهد في هذا العمل، بل يحرص أن ينهض له، ويجدّ في السّعي له. يقول الله تعالى: «... فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ...» (21)
والمتأمّل في كلّ هذه النّصوص النّبويّة يدرك من خلال تنوّعها أنّ الإصلاح ميدان كبير، يتعلّق بكثير من شؤون الإنسان من حيث استقامته مع الله تعالى ومع الخلق، ومن حيث استقامة عمله وعبادته، وكذلك من حيث استقامة صحّة آتّجاهه ومنهجه وعقيدته وأخلاقه، وإلاّ تحوّل كلّ ذلك إلى نوعٍ من الانحراف عن الهدى والصّراط المستقيم، وإلى نوعٍ من أنواع الفساد في الأرض وفي المنهج وفي المعتقد.
في المقابل، نجد أنّ الآيات القرآنيّة، اشتملت على أدلّة متنوّعة، بيّنت أنّ الإفساد، هو ما كان عكس فطرة الإنسان. يقول الله تعالى: «... فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ...» (22) . وهو منهي عنه شرعاً. يقول تعالى أيضا على لسان شعيب عليه السّلام: « ...وَلَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا...»(23). فكلّ ما كان مخالفاً للفطرة الإنسانيّة وإرادة الخير في الأرض، فهو بعينه انحراف وفساد. يقول اللّه تعالى: «...الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ» (24). بل إنّ بعض المفسدين في الأرض حاولوا آختطاف شعار الإصلاح نذكر منهم على سبيل المثال، فرعون حيث اتّهم موسى عليه السّلام بإظهار الفساد وهو من المصلحين، ونسب إلى نفسه الإصلاح، منهجا، مع أنّه من أكبر المفسدين. يقول الله تعالى: «... وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُّظْهِرَ فِى الأَرْضِ الْفَسَادَ...» (25)
وكعادة المفسدين في كلّ زمانٍ ومكان، فقد تشابهت قلوبهم، فآتّحدت مشاربهم، وظنّوا أنّهم على خير، وأنّهم حماة الإصلاح، وروّاده. يقول الله تعالى : «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ»(26)
لقد كثر ذكر الإصلاح والمصلحين في القرآن الكريم، في مقابل ذمّ الإفساد والمفسدين، لتكتمل الصّورة الرّبانيّة الّتي يريدها الله ربّ العالمين للبشر، والمجتمعات البشريّة. يقول الله تعالى:«وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ» (27).
والعمل في إطار الإصلاح يقع ضمن التّكاليف، والواجبات الشّرعيّة، الّتي نصّ عليها القرآن الحكيم، بل هو أحد التّكاليف التّي تضمّنها معنى الآستخلاف في الأرض. يقول الله تعالى:«وَّإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُّفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(28). على اعتبار أنّ الفعل الإصلاحي يتجّه صوب العمل النّافع والصّالح، حيث إزالة الفساد أو تحسين الصّالح، أو محاولة إيجاده من العدم في كلّ موجودات الكون ككلّ. وعلى اعتبار أيضاً أنّ العمل للإصلاح هو أحد العوامل الأساسيّة الّتي تحقّق السّموّ الفردي في مراقي الفضيلة والعلم والمعاني الإنسانيّة، والسموّ الجماعي في مراقي التّعاون والتّراحم والتّكافل والسّموّ المنهجي في التّعامل مع بيئة الكون، بما يضمن الانتفاع بها، والمحافظة عليها، وكلّ ذلك في نطاق الاقتراب من الله تعالى. ومن هنا اكتسب الإصلاح في القرآن الكريم أهميّة لا يستهان بها، وشكّل محوراً أساسيّاً من محاور الشّريعة الإسلاميّة، ومبدأ قامت عليه الدّعوات، والرّسالات السّماويّة (29) .
كما يمكن الإشارة أيضًا، إلى أنّ الإصلاح في القرآن الكريم عامّ يشمل العقيدة، والسّلوك والأخلاق ونظام المجتمع والحضارة وسائر وجوه التّقدّم والرّقي، وما بناه المرسلون وأتباعهم المصلحون، وما شيّده العلماء المخلصون من النّواحي الماديّة والمعنويّة (30) .
ويشمل هذا الرّاجح الأقوى، إصلاح الأرض (الكون) بما بثّ فيها الله تعالى من سنن ونواميس وقوانين البناء والتّعمير، فجعلها بالتّالي صالحة للإنسان.
ومن الصّلاح في هذا الإطار، عدم مصادمة هذه النّواميس والقوانين، بل يجب التّفاعل معها وفق سنّة التّسخير ووفق مبدأ الاستخلاف، فالإنسان جاء إلى الأرض وهي صالحة بمائها وهوائها ونباتها وتعاقب ليلها ونهارها والفصول، وكل كائن حيّ فيها، فكلّ اعتداء سافر على شيء من هذه المنجزات، هو إفساد فيها (31).
فالإنسان في بناء حضارته وعمرانه، وفق منهج الإصلاح، يحتاج إلى استخراج، واستكشاف تلك السّنن، والتّفاعل الإيجابي معها، لأنّه محتاج إليها في أمنه وغذائه وسائر احتياجاته، مثلما يحتاج أيضا إلى الاستجابة للقيم والمثل العليا، والاستعداد النّفســـي للتّعامل معها إيجابيـــا من خلال التلقّي الواعي. يقول الله تعالــى: «... فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ» (32) .
وقد بعث الله عزّ وجلّ الأنبياء والرّسل عليهم السّلام، من أجل القيام بدور إصلاحي في حياة النّاس من خلال التّذكير، واستثارة العقول. يقول الله تعالى: «..وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّار فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَّخَافُ وَعِيدِ.»(33) ويقول أيضا: « لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ»(34). ولكنّهم في نفس الوقت، تركوا للنّاس حرّية الآختيار، من دون إكراه. يقول الله تعالى: « لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ.......» (35) لأنّهم هم وحدهم من يتحمّلون مسؤوليّة اختياراتهم، وهم وحدهم من يتحمّلون نتائج ذلك، إن خيرا فخير وإن شرّا فشرّ. يقول الله تعالى: « كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» (36). ويقول أيضا:«فَمَن يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَّرَهُ. وَمَن يَّعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَّرَهُ»(37).
كما يقرّر القرآن الكريم في عديد المواضع، أنّ المصلحين في الحقيقة لا يعيشون لأنفسهم ولا لأجيالهم فقط، وإنّما هم ينظرون بعيدا في أفاق المستقبل وفي ما ينفع المجتمعات، وفيما فيه عزّتها ومجدها، بمعنى أن غايتهم إصلاح الشّبيبة والشّيب، الكبار والصّغار، الرّجال والنّساء، الغنّي والفقير وأمس واليوم، وغدا...
يقول محمّد الطّاهر بن عاشور رحمه الله: «و في كلام نوح عليه السّلام، دلالة على أنّ المصلحين يهتمّون بإصلاح جيلهم الحاضر ولا يهملون تأسيس أسس إصلاح الأجيال القادمة، إذ الأجيال كلّها سواء في نظرهم الإصلاحي. وقد انتزع عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قوله تعالى:«وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ»(38) دليلا على بقاء أرض سواد العراق غير مقسومة بين الجيش الّذي فتح العراق، وجعلها خراجا لأهلها، قصد دوام الرّزق منها لمن سيجيء بعد ذلك من المسلمين.» (39) ويقول الشّاطبي: « تكاليف الشّريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام : أحدهما أن تكون ضروريّة، والثـّاني أن تكون حاجيّة، والثّالث أن تكون تحسينيّة»(40) ثمّ أضاف: «ومجموع الضروريّات الخمسة وهي حفظ الدّين، والنّفس، والنّسل، والمال، والعقل، وقد قالوا إنّها مراعاة في كلّ ملّةٍ» (41).
و أردف قائلا ً: « المقاصد الضّروريّة في الشّريعة أصل للحاجيّة والتّحسينيّة، فلو فرض اختلال الضّروري بإطلاق لاختلا باختلاله بإطلاق» (42) . ويقول الغزالي من جهةٍ أخرى: « ومقصود الشّرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكلّ ما يتضمّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة» (43). أمّا إبن عاشور فيقول: «المقصد العامّ من التّشريع هو حفظ نظام الأمّة، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه، وهو نوع الإنسان، ويشمل صلاحه صلاح عقله وصلاح عمله وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الّذي يعيش فيه» (44) .
بعبارة أخرى المقصد العامّ للشّريعة يقع بمعنى الصّلاح وإزالة الفساد، وفي موضعٍ آخر خصّ القرآن الكريم، وهو أوّل مصادر التّشريع. يقول إبن عاشور: «إنّ المقصد الأعلى له هو إصلاح الأحوال الفرديّة والجماعيّة والعمرانيّة، بحيث يستطيع الإنسان بآتّباع تعاليمه والعمل وفق أحكامه وتوجيهاته وتمثّل قيمه وإرشاداته، والسّعي لتحقيق مقاصده وغاياته، أن يقيم مجتمعه على أرسخ أساس ويشيّد حضارته على أدوم مقام»(45). وعبّر إبن تيميّة بقوله أيضاً: « يكفي المؤمن أن يعلم أنّ ما أمر الله به فهو مصلحة محضة أو غالبيّته، وما نهى الله عنه فهو مفسدة محضة أو غالبيّته، وأنّ اللّه لا يأمر العباد بما أمرهم لحاجةٍ إليهم، ولا نهاهم عمّا نهاهم بخلاً به، بل يأمرهم بما فيه صلاحهم ونهاهم عمّا فيه فسادهم» (46).
إنّ الحاجة إلى الإصلاح تظهر حين يتمّ الشّعور بالفساد ومعاناته، وحين توجد الرّغبة في إزالته، أمّا حين لا تكون الرّغبة مع وجوده واستفحاله، إمّا قصداً أو جهلا ، فتلكم لا شكّ أعلى درجات الفساد، إذ اقترن إذاّك بالمكابرة وانعدام الوعي. ولكي تكون هذه الكيفيّة صحيحةً وإيجابيّة لا بدّ من أمور أهمّها ثلاثة:
أوّلاً : تحديد فكرة واضحة للإصلاح.
ثانياً : وجود إرادة لإنجاز هذا الإصلاح.
ثالثاً : تهيّؤ وسائل تنفيذ هذه الرّؤية.
وإجراء هذا الإصلاح منوط بطرفين أحدهما مكلّف بالتّصوّر، والثّاني مكلّف بالتّنفيذ. أمّا التّصوّروالتّخطيط، فذلك يجب أن ينهض به المثقّفون في توفيق محكم بين الحلم والواقع، وبإشراك جميع فئاتهم، بعد أن تعود الثـّقة بينهم. وعلى أن يكون المنظور قائماً على إقامة دعائم جديدة لإشاعة العدل والمساواة والحقّ والحريّة، والتّأمّل بذلك لانفتاح سليم على العالم والتّفاعل معه ومع مستجدّاته. فالإصلاح يتطلّب المعرفة والتّعليم والتّعلّم، والتّربية والممارسة، وخلق تراكم له في واقع النّاس يجعلهم مقتنعين به، وبمن يدعو له ويعلّمه للنّاس، لأنّ ادّعاء الإصلاح وإفراز نقيضه قصداً أو جهلا، لا شكّ أنّه لا يخدم لا الآجتهاد البشري السّاعي إلى التّطوّر، ولبناء المجتمع العادل والمنصف، ولا شرع الله الذي أساسه العدل على كلّ المستويّات ذات الصّلة بالحياة اليوميّة للنّاس سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وتعليميّاً...
إنّ الإصلاح لا يمكن أن يتمّ ما دامت شعوبنا جاهلة وأميّة، يستشري فيها التّخلّف ومتزمّتة ومتعصّبة ورافضة لكلّ ما هو مخالف لرأيها، ولو كان هو الأصلح وتهتمّ بالقشور والشّكليّات وإدمان المهاترات وإصدار التّهم، والأحكام الجاهزة لمواجهة كلّ ما هو متنوّر ومتجدّد، ولو كان في صميم العقيدة وروح الإصلاح.
لذلك لابدّ من تثبيت العلوم وتهذيب العقول وتذليل الشّهوات وتوسيع الأفكار الكليّة حتّى ينشأ في مجتمعاتنا الرّأي والرّأي المخالف. أمّا التّنفيذ فيقع على عاتق القائمين بالشّأن العامّ من مسؤولين وحكّام. وفي تجاوب مع الهيئات السّياسيّة ومع مكوّنات المجتمع المدني بمختلف أفراده، وحين يتجاوبون ويثقون ويساندون ويساهمون بحريّة، يخرجون بذلك من اليأس والإحباط واللاّمبالاة، ومن حالة الاغتراب إلى حالة الفعل والتأثير. وهذا من شأنه أن يتيح فرص الاستقرار الدّاخلي، نفسيًّا وواقعيّاً واجتماعيّاً ويمكّن من تحقيق التّنمية والآزدهــار، لأنّ استمراريّة الإصلاح أمر توجبه القوانين وتقتضيه الفطرة البشريّة، فكلّ الدّول تسنّ القوانين سعياً لإصلاح ما فسد وترميم ما خرّب، وإلاّ فسد البشر وأصبحوا أكثر فتكاً من الوحوش.
الهوامش
(1) الرّوم: 41.
(2) الأعراف:142.
(3) فصّلت : 33.
(4) غافر : 40.
(5) النّحل : 97 .
(6) البخاري: الصّحيح - كتاب الصّلح – باب ما جاء في الإصلاح بين النّاس2/958 - حديث رقم : 2544.
(7) سهيّل بن سعد: هو إبن سعد بن مالك بن ثعلبة. روى عدّة أحاديث عن الرّسول صلّى الله عليه و سلّم- هو آخر من مات بالمدينة من الصّحابة و كان من أبناء المائة- آنظر محمّد بن أحمد الذّهبي: سير أعلام النّبلاء- مؤسّسة الرّسالة- طبعة 1- 1422هـ/2001م-3/423-424.
(8) البخاري: الصّحيح- كتاب الصّلح- باب قول الإمام لأصحابه إذهبوا بنا نصلح 2/982 حديث رقم: 2547.
(9) أبو الدّرداء: قاضي دمشق، صاحب رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، وهو عمير بن زيد بن قيس، روى عن النّبيّ صلّى الله عليه و سلّم عدّة أحاديث قيل مائة وتسعة وسبعون حديثا، مات قبل عثمان بن عفان بثلاث سنين- آنظر الذّهبي: سير أعلام النّبلاء- 2/336الى 338.
(10) أبو داود: السّنن- كتاب الأدب- باب إصلاح ذات البين-2/208- حديث رقم 4919.
(11) محمّد بن عيسى التّرمذي: السّنن- سلسلة الكتب الستّة-دارالدّعوة1401هـ/1981م إسطنبول- كتاب البرّ والصّلة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- باب ما جاء في التّأنّي- 4/322- حديث رقم:2010.
(12) البخاري: الصّحيح- كتاب الإيمان-باب فضل من إستبرأ لدينه-1/29- حديث رقم:52.
(13) انظر عبد الرّحمان بن أحمد بن رجب: جامع العلوم و الحكم- دار عمر بن الخطّاب-الإسكندريّة- مصر- 100.
(14) إبن حجر العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري- دار مصر للطّباعة و النّشر- طبعة 1-1421هـ/2001م-1/128.
الحجّ: 46.
(15) مسلم: الصّحيح- كتـــاب البرّ و الصّلة والآداب - باب تحريم ظلم المسلم و خذله و آحتقاره، وذمّه، وعرضه، وماله-4/1987- حديث رقم: 4651.
النّسائي: السّنن - سلسلة الكتب الستّة- دار الدّعوة-1401هـ/1981م-إسطنبول- كتاب عمل اليوم واللّيلة- باب ما تقول إذا أمسى- 6/147- حديث رقم: 570.
(16) النّسائي: السّنن-كتاب عمل اليوم و اللّيلة- باب ما تقول إذا أمسى -6/147 - حديث رقم: 569.
البخاري: الصّحيح - كتاب الفتن-باب قول النّبي صلّى الله عليه و سلّم ويل للعرب من شرّ قد إقترب- 4/2590- حديث رقم: 6650.
(17) حفالة: أي رذالة من النّاس كرديء التّمر و نفايته و هو مثل الحثالة و هو الرّديء من كلّ شيء./أنظر محي الدّين بن الأثير: النّهاية في غريب الحديث و الأثر- تحقيق طاهر أحمد الزّاوي و محمود الطّنّاحي-المكتبة العلميّة-1399هـ/1979م- بيروت- لبنان-1/339- مادّة حفل+409 مادّة حثل.
(18) البخاري: الصّحيح-كتاب الرّقائق- باب ذهاب الصّالحين ويقال الذّهاب المطر-5/2364- حديث رقم 6070.
(19) التّرمذي: السّنن- كتاب الإيمان-باب ما جاء أنّ الإسلام بدأ غريبا و سيعود غريبا-5/20-حديث رقم: 2629.
(20) مسلم: الصّحيح- كتاب العلم- باب من سنّ سنّة حسنة أو سيّئة- 4/2059- حديث رقم: 1017.
(21) الأنفال:1.
(22) الرّوم: 30.
(23) الأعراف: 85.
(24) الشّعراء : 152.
(25) غافر:26.
(26) البقرة:11.
(27) الأعراف: 130.
(28) البقرة: 30.
(29) انظر القرطبي: الجامع لأحكام القرآن-مجلّد 4/ 7/177./ وانظر محمّد رشيد رضا: تفسير المنار- مجلّد 5 -/ 5/28./وانظر وهبة الزّحيلي: التّفسير المنير في العقيدة والشّريعة والمنهج-دار الفكر المعاصر-طبعة 2-1418هـ/1998م- بيروت- دمشق- 5/331.
(30) المصدر نفسه: مجلّد 5/8/177+240.
(31) انظر محمّد الطّاهر بن عاشور: التّحرير والتّنوير- 9/245-246.
(32) الزّمر: 17-18.
(33) قَ:45.
(34) الغاشيّة: 22.
(35) البقرة:256.
(36) المدّثر:38.
(37) الزّلزلة: 7-8.
(38) الحشر: 10.
(39) انظر إبن عاشور: التّحرير والتّنوير- 29/199.
(40) إبراهيم الشّاطبي: الموافقات في أصول الشّريعة- المكتبة التّجاريّة الكبرى-طبعة2-1395هـ/1975م-القاهرة- 2/17.
(41) المصدر نفسه-2/20.
(42) المصدر نفسه-2/31.
(43) أبو حامد الغزالي: المستصفى- مكتبة الجندي- مصر-2/241-242.
(44) محمّد الطّاهر بن عاشور: مقاصد الشّريعة- تحقيق الحبيب بن الخوجة- وزارة الأوقاف والشّؤون الإسلاميّة- طبعة 1-1425هـ/2005م- قطر- 147.
(45) المصدر نفسه - 60.
(46) انظر أحمد بن تيميّة: زيارة القبور والآستنجاد بالمقبور- دار الصّحابة للنّشر- طبعة 1-1412هـ /1992م - 37. |