كلمات
بقلم |
عبداللطيف العلوي |
لو كان الزّعيم يريد |
أنا الّذي قضيت أكثر من سبع وعشرين سنـــة نائمـــا على مخدّة محشوّة بالأفاعي دون أن أعلم...
كنت أرى كلّ ما يراه عامر ورفاقه، لكنّني لم أتوقّف يومــا لأسأل نفســي عن السّبب في كلّ ذلك ... كنت أتصوّر أنّ ذلك من طبائع الأشياء، الله يخلق الغنيّ والفقير بمشيئته وحدها، كما يخلق الذّكر والأنثى، والغبيّ والذّكيّ، والأبيض والأسود، وكما يولد بعض النّاس بعاهة خلقيّة، يحدث كذلك أن يولد بعضهم بعاهة طبقيّة أو اجتماعيّة أو وجوديّة، فيعيش فقيرا أو مريضا أو جاهلا، ولا دخل للدّولة ولا ذنب لها في كلّ ذلك...
لم أكن أعرف الشّيء الكثير عمّا يسمّونه «الدّولة»، لم تكن تعني لي شيئا محدّدا سوى أنّها غيمة بعيدة تدفعها الرّيح فتمطر في كلّ مرّة حيثما أرادت لها الأقدار. العلاقة الوحيدة الّتي كانت تربطني بها هي بطاقة التّعريف القومية والأداءات الّتي أدفعها ونشرة أخبار الثّامنة.
حتّى الأداءات والضّرائب، لم تكن لي مصدر إزعاج أو تساؤل. فلقد كنت أعتقد أنّ الدّولة تملك المجتمع والنّاس، ومن صميم حقّها أن تستأثر بما تملك، مثلما خلق الله الكون، خلقت الدّولة المجتمع. ومثلما لا يسأل الله عمّا يفعل، فإنّ الدّولة أيضا لا تسأل عمّا تفعل.
أبي كان يؤمن إيمانا صوفيّا بأنّ بورقيبة هو الّذي جعلنا بشرا جديرين بالحياة. هو الّذي حرّرنا من غول الاستعمار وفتح لنا المدرسة الوحيدة الّتي تبعد عن بيتنا ما يزيد عن خمسة كيلومترات، مع أنّني قرأت في اللاّفتة المعلّقة على بابها الرّئيسيّ أنّها تأسّست سنة 1932. لكنّني لم أكن أجرؤ أبدا على مجادلته في أمور كانت بالنّسبة إليه عقيدة مستحكمة...
كثيرا ما كان يردّد بأنّ بورقيبة هو الّذي خلّصنا من القمل والبراغيث، مع أنّ وباء القمل بقي منتشرا في قريتنا حتّى بداية الثّمانينات، وقد خطر ببالي دائما أن أسأله: لماذا انتظر الزّعيم ثلاثين سنة كي ينزع القمل من رؤوسنا؟ كنت أريد أن أقول له: إنّ أمّي هي الّتي نزعت القمل من رؤوسنا...
كنت أقعي أمامها على ركبتيّ، وأتخلّص من رأسي تماما، كأنّني أنزعه عن كتفيّ، وأروح أنبش التّراب بعود يابس، أرسم عليه بيتا مستطيلا بنافذتين عاليتين، وبابا واسعـــا، أو أرسم شمسا ونجوما، في حين كانت هي تضغط على رأسي بغضب حنون، وهي لا تنفكّ تقول بتشفّ: « هاهي ... هيه ... لقد قتلتها... إنّها مثل بقرة سمينة... اللّعينة... لقد امتصّت دمك كلّه...»
أحيانا كانت تمسك الفلاّية العاجيّة، وتنكس رأسي إلى الأمام، وتروح تكشطه بصبر وأناة، فتأخذني نشوة لذيذة... وأتمنّى لو يبقى رأسي على ركبتها حتّى ينقضي العمر... وليأت القمل بعدها، ولْيأت البعوض والجراد والضّفادع، وليستوطن رأسي ومفاصلي وعظامي... كان يكفي أن أضع رأسي على ركبتيها، لأستشعر تلك السّعادة الّتي يعيــش الكثيرون ما يعيشون، ويرحلون، دون أن يذوقوا طعمها ويعرفوا سرّها...
بعد ذلك كانت تسخّن الماء، وتحضر القصعة الكبيرة، وتروح تدلكني بأصابعها الخشنة وكفّها المتين المتشقّق... تغسل شعري بالطَّفْلِ، وأحيانا قليلة بالصّابون الأخضر، فأتخفّف لأيّام من ذلك الضّيف الثّقيل، لكنّه سرعان ما يعود، لأنّ بيوتنا كانت مبنيّة بالطّوب، ومطليّة بالطّين ومسقوفة بالقشّ...
لو كان الزّعيم يريد فعلا أن يحرّرنا من القمل، فلماذا لم يحرّرنا من تلك الأكواخ المتربة، ولم يلبسنا ولم يغطّنا بمّا يليق بالبشر...؟ |