في العمق

بقلم
د.عبدالقادر السوداني
الأمراض الإجتماعية في البلاد التونسية في الفترة الحديثة: الصراع بين الساحل و الداخل ( المركز و ا
 كشفت الصّراعات الدّامية التي إندلعت بين العروش عقب الأحداث التي عرفتها البلاد التّونسية في نهاية 2010 وبداية 2011 عن الكثير من المشاكل الإجتماعية التي تخفت حينا لتظهر أحيانا أخرى، فقد أدى إرتفاع منسوب الحرية في الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي إلى تجلي ذلك العداء بين المكونات السكانية، ومن بينها ذلك الصّراع المناطقي بين السّاحل والدّاخل والذي عبّر عن حجم التناقضات الإجتماعيّة لسكّان البلاد التونسيّة، هذه التناقضات ذات أبعاد حضارية ومعيشية، والتي ألقت بتداعياتها على بناء السلطة وتوزيع الثّروة وكذلك مسألة الإنتماء إلى وطن جامع. لذلك وللإحاطة بهذه المسألة إرتأينا العودة إلى جذور هذه القضيّة خلال القرن 19.
المقدمة
بفضل الثّورة أصبحت البلاد التّونسية مكانا مشتركا للإنسانيّة قاطبة جرّاء تشابه هموم البشريّة ووحدة التّطلعات، وقد أكّدت الثّورة على أنّ الإنسان البسيط الذي غبن حقّه ردحا من الزّمن قد إستعاد قدرة الفعل والتّغيير. باندلاع الثّورة في تونس سقطت أصنام مثّلت حجابا أمام قيم كونيّة كالحرّية والعدالة، وعاد المؤرّخون إلى الاهتمام بالأنا الآخر ذلك الفاعل المهمّش الذي أسقط من متون الباحثين.
لا مندوحة أنّ التّاريخ الرّسمي في تونس عكس رؤية لفيف السّلطة والنّخبة العالمة، في المقابل حضر أصحاب الهيعات والثّورات حضورا باهتا سلبيّا في الفكر السّياسي، ولم يفصح الخّارجون عن الرّكب السّلطاني عن روايتهم لأحداث التّاريخ في تونس. 
بقي حضور البدو في الذّاكرة الرّسمية صنو الأعراب الجفاة الهمّج المدبّرين عن الحضارة، وكان هذا الحكم القيمي وليد ذهنيّة مترسّبة تحقّر من شأن البدو، وتمظهرت من خلال تناقضات هيكليّة شقّت الأركيولوجيا الإجتماعيّة كالانطواء والتّماثل والإنتماء والإقصاء والأصيل والدّخيل، وكلّها مفارقات ساهمت الرّابطة السّياسية للحسينيّين في شحذها.
طفت على السّطح في الفترة الأخيرة (بعد 2011) جملة من الأمراض الإجتماعيّة التي تجسّدت من خلال الانشقاقات بين التّكوينيات الإجتماعية والتي أبانت عن حجم الإنقطاعات بين سكّان البلاد في تونس، وقد حجبت حينا من الزّمن بفضل سطوة المركز لكن ما إن تراخت قبضة السّلطة حتّى عادت تلك الفواصل السّكانيّة إلى البروز، فبات المجتمع أشبه بكنتونات ذات خلفيّات حضاريّة متمايزة، ولعلّ ذلك العداء بين سكّان السّاحل والدّاخل كان أبرز مثال على الاختلافات العميقة بين مكوّنات المجتمع، لذلك كان حريّا بنا البحث عن أسباب ومنطلقات هذه الأزمات الإجتماعيّة من خلال الرّجوع إلى الفترة الحديثة التي عرفت تدفّق موجات هجريّة ذات خلفيّات إثنيّة وحضاريّة متنوّعة ممّا خلق فجوات تكوينيّة بين الأطياف الاجتماعيّة ما انفك يتزايد بتواصل مبرّرات وجود هذه الفجوات.
إنّ تغييب إشكاليّة الاختلاف الهيكلي العميق بين الفئات الدّخيلة في السّاحل والعناصر الأصيلة في داخل البلاد، كما أنّ عدم الإتيان على أمرها من قبل الباحثين لا يعني نفيها من الواقع المعيش، لأنّ السّلطة الحسينيّة ركنت في تحالفاتها إلى عناصر مستجلبة من خارج البلاد، كما أنّ المخزن قد طوّق نفسه بحزام بشري محلّي من أهل السّاحل خصوصا، في حين بقيت القبيلة على هامش الفعل التّاريخي وقد تواصل هذا الأمر حتّى بعد بناء الدّولة الوطنيّة .
سنسعى في هذا العمل إلى البحث في جذور الأفكار المتراكمة في طبقات ذهنية « الخاصة» وتباين تعامل الطغمة الحاكمة مع «العوام» وخاصّة تعامل البايليك مع إحتجاجات دواخل البلاد واختلاف حيثيّات تمايز السّاحل عن الدّاخل  وإستراتيجيات السّلطة في التّعامل مع كلاّ الجانبين.
1) الإبادة الحضاريّة للبدو
عاصر البدو في تونس مختلف السّلالات الحاكمة ورغم ذلك شهدنا تعايشا ولو مضطربا بين المركز والأطراف، لكن ذلك لم يمنع إطلاق فيض من الخطابات التّيولوجيّة المحقّرة للبدو والتي تخلط عمدا بين العقدي والابستمولوجي والمعاشي. 
وقع حشر المرجعيّة الدّينيّة من أجل تحديد التّراتبيّة داخل المجتمع التّونسي، فتمّ تجميع العوام داخل سلّة بشريّة وباتوا رديف الهمج والتّوحش والمروق عن تعاليم الدّين، فالدّين الإسلامي وسم الأعراب بالكفر والنّفاق ممّا أعطى المشروعيّة للفتك بهم من قبل أولي الأمر، جرّدت سهام الدّين ضدّ البدو لذلك أقتطع من الفيلولوجيا الدّينية زخما من الإستدلالات التي تجزم أنّ البدويّ بمثابة «نفاية بشرية». في مقابل ذلك وقع تغييب بعض المرجعيّات التّراثية التي تحضّ على وجوب الحكم الرّشيد مثل « شرّ الرّعاء الحطمة» وهو من يكون عنيفا في رعيه للإبل، وفي المقابل وقع التّشديد على الآيات ذات الدّلالة المعياريّة في شأن دونيّة الأعراب وعدم دخول الإيمان إلى قلوبهم، في هذا السّياق أفتى بعض علماء المالكيّة بأنّ المرأة التّونسية (البلديّة) يحرم عليها الخروج إلى مدن أخرى لأنّ في خروجها معرّة(1)، فلا مشاحة والحالة تلك أن يفتك به السّياسي ويؤبّده في أدنى المرفولوجيا الاجتماعية. هذا التّراث الدّيني عمّق من ذلك التّمايز بين الحضر والمدر حسب التّقسيم الخلدوني للمجتمع، والذي طبع أغلب الحقب التّاريخية للمشرق ومن بينهم تاريخ البلاد التّونسية وخاصّة في العهد العثماني. فالوحدة الدّينية المزعومة بين عموم سكّان الإمبراطوريّة لم تستطع تجاوز المشكلات النّوعية على صعيد الشّعب التّركي والآخر العربي(2). فمعلوم أنّ الأتراك ومن والاهم من العناصر السّكانيّة المستنبتة في الإيّالة شكّلوا  ما يسمى «بالبلديّة» والذين مثّلوا العصب الرّئيس في أجهزة السّلطة وإستحوذوا على القسط الأكبر من الثروة، في مقابل ذلك بقي البدو قاعا إجتماعيّا دافعا للجباية. 
لا يملك البدويّ - وهو يئنّ في صمت تحت نير السّلطة – غير الإيمان أنّ السّماء قدّرت سياسة الحكام الذين يلونهم، فيكل الأعراب أمرهم إلى من يتسنم السّلطة دون المخاطرة أو الإقدام على تدويل القبيلة، لذلك لم يتوثّب البدو على السّلطة. كان هذا السّلوك السّوسيولوجي وليد تراث ثقافيّ تمّ صقله على مرّ الأجيال، وقد لعبت الزّمرة العالمة الذات الحمالة لهذا المعطى الذّهني المترسّب، فقد أشاعت الانتلجنسيا الرّسميّة أنّ البدوي بعيد عن  تشرّب الرّوح النّظامية، وأنّ الملك العاتي كفيل بالانتقال من طور المجتمع الوحشي إلى المجتمع المدجّن عبر ضرب تنطّع الجماعات البدويّة، فمن المعروف أنّ الأنظمة الدّيكتاتوريّة في كلّ العصور تكتفي عادة بالصّلاحيّة العمليّة والفعالية والاجرائيّة دون أن تلقي بالا لشروط استبطان واجب الطّاعة من قبل البشر وأساليبه، فسواء أطاعوها عن طيب خاطر أم لا فهذا لا يهمها(3). 
نجح التّاريخ الرّسمي في خلق ذهنيّة إلتباسيّة تجاه سكّان التّخوم القصيّة المختلفين في معاشهم عن لفيف السّلطة، ففقدت الحياة البدويّة إحترامها الإجتماعي وقوّتها الحربيّة وبات العالم البدويّ رديف التّخلف، العامّة هم رعاع سفلة يُؤمَرون ولا رأي لهم ولا صوت(4) 
كرّس التّاريخ السّلطاني ذلك القالب النّمطي حول العربان وتجسّمت هذه الذّهنية إلى موجود إجتماعي وسياسي، ذلك أنّ السّلطة السّياسية ومن تعلّق بركابها قد مارست استحقاقاتها وفق قاعدة الإخصاء السّياسي للذّات القبليّة وإقصاء القبلي عن دائرة النّفوذ الفعلي في القرار السّلطوي، فلم يشهد التّاريخ الحديث للمغاربة -  وخاصّة في تونس -  بروز زعامات سياسيّة بدويّة أو أنّ قبيلة ما تمكّنت من الإستحواذ على السّلطة ، ممّا يعني إقصاء سكّان الدّواخل من الدّائرة الأولى للحكم.
لم تنتج النّظم الاستبداديّة أفكارا بل ركنت في عمومها إلى الأنماط والسّلوكيات وطغت العقليّة الكليانيّة على وشائجها، وقد تعدّدت العلامات الدّالة على إحتقار السّلطة المركزيّة للبدو، فعند خروج سفن القرصنة كان الأتراك مجهّزين بالثّياب والطّعام وسيفا ومسدّسا في حين كان الأعرابي لا يملك غير برنس هو ثيابه وغطاؤه بل دون سلاح ويقتصر نشاطهم على التجديف(5) . أمّا الافاقيون الذين وفدوا من دواخل البلاد فقد إستوطنوا حول المدن في إشارة إلى تدنيهم عن البلديّة (6). 
خلقت هذه السّياسة جفوة بين الحاكم والمحكوم وفجوة بين أعلى الهرم الاجتماعي وقاعه. وقع فرز التّشكيلات الإجتماعيّة إلى شقّين جمهور الطّائعين وعماده سكّان المدن وذوي الطّاعة الممرضة من البدو، ويعكس هذا التصاف تلك الثّنائية التي طبعت تاريخ البلاد التّونسية وهي ثنائيّة الأصيل والدّخيل، فقد خيّرت الفئات الأصيلة والمتبدية الانزواء في دواخل البلاد حيث الطّبوغرافيا العصية من الجبال والصّحاري التي تسمح لهم بهامش من الاستقلالية(7)، وتركت الحزام السّاحلي حيث السّهول والإنبساط إلى العناصر الوافدة والمستجلبة من خارج البلاد .
أعلى الأتراك في تونس من قيمة المدينة وضربوا القبيلة، وبقيت دواخل البلاد خاضعة لأحكام المنتصر ومن فتحها عنوة، وقد يقول قائل إنّ في «المخزنة» تسفيها لهذا الزّعم، ولكن هذه السّياسة لم تتجاوز حسابات المنفعة التي قد يغنمها هذا الجانب أو ذاك، ولم تصل إلى طور الالتحام الهيكلي بين البلاط والقبيلة، فقبيلة الهمامة وهي قبيلة ديوان كانت كثيرا ما تعلن تمرّدها في وجه البلاط، فشاركت في أغلب الإحتجاجات الإجتماعية، فالتّغالب وحسابات المنفعة كانت من العوامل المحدّدة لعلاقات المركز بالتّخوم. 
فسنة 1735 هاجمت الهمامة الباي حسين بن علي ثم نشطت بشكل حثيث في تمرّد 1864 قبل أن تجد سبيلا للتّسوية مع الوزير مصطفى خزندار وتلتحق بمناصري البايليك، وتواصل صدام هذه القبيلة (المخزنيّة) مع أجهزة السّلطة حتّى بداية العصر الكولينالي(8)، ممّا يكشف ضعف تحالفات السّلطة السّياسية بإعتبار أنّ الهمامة كانت من القبائل الدّيوان أي الأكثر تحالفا مع المركز. 
فطوال الفترة الحسينيّة عرفت تونس نوعا من الفصام المعلن بين الطّغمة الحاكمة وبين الجماعات البشريّة في النّواحي الغربيّة والجنوبية للإيالة، فخريطة تحالفات المركز كانت متماهية مع التّوزع الإثني للسّكان، فمنطقة السّاحل والشّمال الشّرقي للإيالة كانت مجالا لإستيطان المماليك والأتراك والأندلسيين والغرابة وكانت هذه العناصر منطقة داعمة للمركز في مقابل إستئثارها بالعمل في أجهزة السلطة.
فقدت السّلطة الحسينيّة جاذبيّة الفعل وقوّة القيادة فتمّ التّعويل على إصطناع زمر إجتماعية يربطها مبدأ التخاوف والتغالب، وبقت السلطة المركزيّة بعيدة عن السّكان لإستناد كيانها إلى مماليك غرباء طارئين ممّا أدّى إلى ضعف الوشائج العضويّة للبناء الاجتماعي، وحبا البلاط الفئات الدّخيلة بالتجلة الاجتماعيّة، فقد حدّدت «فالنسي» التّراتبية الاجتماعيّة كالآتي: الأتراك ثمّ الكورغليّة ثمّ الأندلسيون ثمّ المماليك ثمّ أبناء البلاد ثمّ اليهود(9)، وخلال القرن 19 تراجع دور الأتراك لصالح المماليك الذين تبؤووا رأس الهرم الاجتماعي، وقد كشفت المحلاّت الموسميّة للبايليك (بإعتبارها فسطاطا إجتماعيا متنقلا) عن ذلك التّمايز بين التّكوينيات الإجتماعية، فأثناء تجوال المحلّة سريعا ما تحدث المناوشات بين عناصرها ويتصافّون حسب الإنتماء الإثني، حتّى بتنا أمام كونتنات اجتماعيّة متمايزة يعمل الجهاز السّياسي على الفصل بينها، والتحالف مع الفئات الوافدة التي تركّزت أساسا في الشّريط السّاحلي، فبعد هزيمة حسين بن علي ضدّ علي باشا سنة 1735 وجّه ابنه محمد باي إلى بلدان السّاحل لأجل مساعدته على استعادة ملكه،ولم يطلب دعم القبائل ليقينه بضبابيّة ولائهم(10) ، في مقابل بقاء دواخل البلاد مجرّد خزّان بشريّ للأجناد زمن الحرب ومناطق تقتطع منها الضّرائب .
استنبتت السلطة الفئات الوافدة في الساحل(11)، وتمتع المماليك والأتراك بامتيازات رفقة السلطان وخدمته وغنموا لقاء ذلك العطاءات المادية، وشكّل غلاة القصر من الأتراك والمماليك جبهة تمنع الانفتاح على سكّان الدّواخل، فإختصّت نخبة المدن – من الأتراك والكروغليّة - بالعلم وإحتكر المماليك الوظائف الإدارية والعسكرية، ولبث أعيان الدّواخل مجرّد جسر جباية ومراقبة.
خلال النّصف الثّاني من القرن 19، ولمّا رامت السّلطة القيام بإصلاحات إستبدلت الأجناد القبليّة بجيش نظامي من أبناء السّاحل والحاضرة أساسا، فكسّرت تلك الرّابطة التّقليديّة التي تربط القبيلة بالسّلطة الحسينيّة، وخلال هذا الطور «الإصلاحي» رفض أعيان الساحل أن يطبق عليهم القانون مثل العوام، ووقع تغييب كلّي لسكّان الدّواخل في المجلس الأعلى الذي هيمن عليه المماليك .
لم يقم نظام الحكم بالفهم الأصيل لطبيعة البناء الإجتماعي وذهنيّة جموع النّاس، وغاب عن البلاط ذلك الفكر الإنسيابي القمين بإحتواء الإستياء الشّعبي لأنّ الرّعية لم تلمس في الحكم المركزي سوى الجانب العنيف، فكان الصّدام بين دواخل البلاد وبين البلاط الحسيني أمرا لا محيص عنه .
  2) السّلطة المركزيّة وتكريس الإقصاء الاجتماعي 
 توالدت عن السّلطة كلّ الرّسائل والرّموز المفعمة بالقوّة ولبثت علاقاتها بالمجموعات القبليّة رهينة لعبة التّسالم والتّغالب واستخدام الموارد في الخطط الاحترابيّة، وكان من الحتمي أن تنخرط دواخل البلاد في الحركات الاحتجاجية وأن تنحو نحو المسلك العنفي في الدّفاع عن هويّتها وأن تدفع بغي الحكّام وأعوانهم لا سيّما بارونات الجباية، فقد مثّلت الضّرائب الداخلية 75,56 % من جملة موارد البايليك ثمّ تراجعت سنة 1813 إلى 66,16 %   ثم عاودت الارتفاع إلى 87,1 %. تحمّلت الدّواخل الوزر الأكبر من القيمة الضّريبية، ولم يراع البايليك في تحديدها الفاقة والأزمات الدّورية التي تعصف بالبدو أساسا، بل وقع هيكلة الضّرائب وفق الولاء السّياسي، فبين 1705 و1824 أكثر المجموعات عرضة للردع هي قبيلة ماجر (12). 
تبعا لذلك لم يجد سكان الدّواخل غضاضة في رفع راية العصيان أمام حكّام المركز، فعند التجاء «علي باشا» إلى «وسلات» في فيفري 1728 كتب الباي إليهم يحذّرهم شرّ الفتنة ويرغبهم خير الصّلح على أن يسلموا إليه ابن أخيه. إعتمد الباي على تقنية المخاتلة في حسم أمر الثّائرين، لكنّ الكثير من القبائل إرتأت نصرة المتغلّب الجديد، فعندما حاول «علي باشا» تمتين تواصله مع دواخل البلاد وسلك سياسة تعلي من شأن القبائل كان هذا الإجراء أحد الأسباب التي أدّت إلى تفتيت حكمه وخذلان الأتراك له سنة 1756، وعند تعيينه إمامة جامع الزّيتونة فقيها من الكاف ممّا أثار استياء أشراف مدينة تونس(13)، لتنقسم البلاد إلى جمهور السّلطة وعصبها من الأتراك والمماليك وسكّان السّاحل وفي الجانب المقابل شيعة «علي باشا» الذي عوّل على القبائل لتقوم بدعوته.
عبّرت نصرة أغلب القبائل لعلي باشا عن مدى الحيف الذي مارسه المخزن تجاه سكّان الدّواخل، كما كشفت الفتنة الباشيّة الحسينيّة عن تعارض إستراتيجيّات الفاعلين في البلاط، ففي حين كان «حسين بن علي» يميل إلى العناصر الدّخيلة كان «علي باشا» يعتمد على القبائل كأحد رافعات الحكم، ومعلوم أنّ نشوء الباشا في دواخل البلاد (جهة الكاف) ثم إضطلاعه بباي الأمحال جعلته يدرك أهمّية القبيلة في بناء السّلطة وعمل أجهزتها، وهذا ما قد يفسّر كذلك إصطفاف «البلدية» وراء «حسين بن علي» بإعتباره ممثّل الارستقراطية الحضرية التي عوّل عليها منذ توليه الحكم سنة 1705 خاصّة أنّ سكان الدّواخل لم يأبهوا كثيرا بصراعاته من أجل الإستحواذ على الحكم، لذلك مثلّت الفتنة الباشيّة الحسينيّة صراعا بين سكّان السّاحل والدّاخل .
في فترة لاحقة ساندت القبائل «إسماعيل بن يونس» في ثورته سنة 1759، فبعد فشل وساطة الفقيه «أحمد الأصرم القيرواني» رسول «علي باي» وتهديد الغوغاء له، إنضمّ إلى الثائر أولاد سعيد والسواسي والمخازنية وأولاد مناع علاوة على ماجر وأولاد عيار، وقد التجأت السّلطة أمام إنتصارات الثّائرين واتساع أنصار الثّائر من القبائل الغربيّة إلى استعمال المدافع وإفساد الزّرع ورهن الشّيوخ والاستنجاد بمحمد بن سلطان شيخ الحنانشة لوأد هذه الثّورة سنة 1762.وغني عن البيان أنّ دعم «إسماعيل بن يونس» مثّل مواصلة لرغبة الدّواخل في الإنعتاق من غلواء الأتراك . 
فشل «إسماعيل بن يونس» في الانقضاض على الحكم و لكنّه بيّن مدى الشّرخ الذي يفصل الرّابطة السّياسية عن القاعدة القبلية، وقد تعاملت السّلطة بكلّ قسوة مع الثّائرين، إذ قابلتهم بالمدافع وتعرّضت مرابض القبائل التي آزرت «إسماعيل بن يونس» إلى النّهب وامتدت الأيدي إلى الحرم وسلّطت عليهم الخطايا واستعمل الأسرى في الأعمال الشّاقة، أمّا في السّاحل – فإذا استثنينا «جمّال» التي تعرّضت إلى النّهب والسّلب – فحتّى القرى و تخوم المدن التي تشيّعت للثّائر لم تتعرّض إلى الزّجر العنيف، فالمثاليث رهن بعض أعيانهم حتّى يعودوا إلى الطّاعة، أما بقيّة عروش السّاحل فقد صودرت مكاحلهم.
يظهر الجانب العنفي للسّلطة تجاه سكان الدّواخل كذلك سنة 1795 أثناء ثورة عرش أولاد مساهل بقيادة «حامد بن شريفة» وهو من عائلة مرابطة مخزنيّة ورفض الأعيان دفع الخطايا التي سلّطها عليهم «حمودة باشا» عقب صراعهم مع الهمامة والفراشيش، فبعث لهم الباي بخمس مائة جندي انكشاري مجهّزين بالأسلحة النّارية لقمع هذه الحركة، وتمكّن الكاهية «رجب بونمرة» من القبض على رأس الثّورة وأوثقه كتافا وطاف به في الحاضرة مجرّدا من الثّياب وقال للباي « يا سيدي عريبي من أجلاف البادية جنّ وأتى به سعدك وهو الآن في محبس باردو»(14)، ثم عاود «محمد بن عمار الفرجاني» ثورة ثانية سنة 1812 انتهت بفراره نحو الجزائر وقمع أولاد مساهل وتشتيت بعضهم.
أبان خطاب السّلطة عن تلك الذّهنية الإستعلائيّة للفيف الحضري والتي ترى في البدو أجلافا وشذاذَ أفاق مساعير الحروب ومواقيد الفتن.....، كما شاع بين التّرك ذلك المثل القائل « العربي خذ ماله واقطع رأسه»، ولبثت كلمة «عرب» صنوا لكلّ ما هو سلوك همجي في إمتداد للتّحقير الذي تعرّض له سكان الدّاخل / العرب من قبل لفيف السّلطة.
وقد بان العسف في منطوق أعوان السّلطة (15) ، الذي يعكس ذهنيّة ترى في «شذاذ الأفاق» كمّا بشريا يكفل الاستجابة لنزعات السلطة و لفيفها، و تم ربط الاحتجاج وليد الاحتياج بالفعل البربري الموجب للزجر العنيف.
قد تبدو انتفاضة 1864 أوضح بيان على إشكاليّة السّاحل والدّاخل والمفارقات الأصيلة التي تفصل الطّغمة الحاكمة عن السّكان، فقد انطلقت إرهاصات الثّورة منذ 1861 عندما رفض سكّان الجريد دفع المجبى ثم رضخوا قسرا تحت عنف المحلّة، ثمّ أحجم سكّان جبال خمير سنة 1862 عن الاستجابة للعسف الضّريبي فلم يجد الباي غضاضة في الاستنجاد بفرقة من الجند الفرنسيّين لجبر الأهالي على دفع الضّرائب، لتأخذ الانتفاضة أبعادها الشّاملة سنة 1864 عندما قام «علي بن غذاهم» بتاطيرها والإشراف على هيكلتها ومطلبيتها، وما يجدر تسجيله في هذه الحركة هي المشاركة النّشطة لأهل السّاحل، رغم أنّ بعض المجالات السّاحلية امتنعت عن الالتحاق بركب الثّائرين، ففي أكتوبر 1864 دامت الحرب بين سكّان القلعة الكبيرة ومتمردي السّاحل 6 ساعات بيد أنّ المدينة  أبت الإلتحاق بالحركة الإحتجاجيّة .
انخرط أعيان السّاحل في الحركة الاحتجاجيّة لسنة 1864 لأن «الإصلاحات» أردتهم خارج الفعل السّياسي وأفقدتهم امتيازاتهم الاقتصاديّة التي ألفوها، ولم يقبل أهالي سوسة على مساندة المنتفضين إلاّ بعد قدوم «الدهماني البوجي» من مساكن وتيقّن برجوازيّة السّاحل أنّها باتت تحت وطأة العامّة وكذا رغبتهم في الحدّ من تغوّل المماليك الذين قطعوا أمامهم سبل الترقي الإداري والمالي(16)، فيمكن الجزم أنّ أهل السّاحل قد دفعوا قسرا إلى الاستجابة لدعوة الثّوار بعد الضغط الذي سلّط عليهم من  قبل المثاليث وأكودة وجمال، رغم النّضج الذي فرضه «علي بن غذاهم» على المنتفضين باحترام الأموال والأشخاص حرصا على اجتناب كلّ ذريعة لتدخّل أجنبي(17) ، فإنّ ردة فعل السّلطة اتسمت بالشّطط في العنف. 
عقب الانتفاضة قام «أحمد زروق» بحملته على السّاحل واعتصر الجهة ضريبيّا لكنّ حراب ألة القمع توجّهت أساسا نحو سكّان الدّواخل، فقد تسلّطت أيدي العدوان على الأهالي بسلب الأموال والقتل والضّرب بالسّياط المؤدّي إلى القتل، لأنّ الوزير «مصطفى خزندار» اشتد حنقه عليهم حتّى دخل عليه أحد الأعيان يوما وهو يقول طلبوا دمي فلا أرضى إلاّ بدمائهم طلبوا مالي فلا أرضى إلاّ بأموالهم(18)، وسامت زبانيّة السّلطة الثّائرين بأبشع ألوان التّعذيب والتّنكيل لمجموعات طالبت بالحدّ من الغلواء الضّريبي للأتراك والمماليك.
 واصل الملك العاتي في تونس الحسينيّة حكم الحديد والنّار واجتثاث كلّ نفس احتجاجي، وجبر الأهالي إلى أن يدفعوا ثمن التّهاوي الإقتصادي والسّياسي حتّى زمن السّنوات العصيبة (19). 
  الخاتمة
 لم يقدّم التّاريخ الحديث نموذجا لحكم البدويّ للدّولة، نتيجة لذلك لبثت المجالات الطّرفية حبيسة مفارقة الانطواء والتّماثل، فيمكن أن نعزو تمايز العنصر الدّخيل عن الأصيل وما أنجر عنه من هيمنة مجال على آخر إلى الاختلاف الهيكلي العميق بين الحضر والبدو، والتغالب الذي طبع علاقة المركز بالأطراف فكان لكلّ منهما صولة في ثوب شعوبيّة جديدة، فسعت الاوليقارشية التّركية في تونس إلى أن تدفع العامّة ثمن التّهاوي، فتزايد البون الحضاري بين فئة مستحوذة على السّلطة والثروة وبين فئة أخرى لم تتردّد في انتهاج الحرابة والإحتجاج سبيلا للمنافحة عن كيانها.
اغتنم الفرنسيّون إفلاس السّلطة ووهنها وضعف القبائل وتشتّتها وصمت المدن وغربتها ليمرّروا مشروعهم دون عناء، ثمّ كان السّعي لبناء وحدة وطنيّة دون محاولة تجاوز وتوحيد الاختلافات ليصطدم هذا التّمشي بسيطرة الحكم الاراقلي – وهو النّظام السّياسي الذي تحركه الأطماع والشهوات والجشع وامتطاء السّلطة لإشباع نهمه -  ولم يراع الإختلاف في البناء الاجتماعي التّونسي .
ثم عبّرت الثّورة عن مرحلة الخواء الحضاري والقيمي للبلاد التّونسية، فكان من الضّروري إعادة دراسة جانب من التّاريخ الاجتماعي التّونسي دراسة متأنّية رصينة ووجوب إعادة تركيب الأحكام والمفاهيم .
 الهوامش
(1) خوالدية ( الضاوي) ، الأسر والذّوات التّونسية في القرن 19 من خلال الإتحاف لابن آبي الضياف، مطبعة دنيا، الطبعة الثانية، تونس 2008، ص 104.
(2) التيزيني، الطيب.فصول في الفكر السّياسي، ص 49.
(3) أركون، محمد. أين هوالفكر الإسلامي، ص 91.
(4)  المرزوقي، رياض. العرب والعربان في إتحاف أهل الزمان، ملتقى ابن أبي الضياف للفكر السياسي والاجتماعي الحديث، الدورة الأولى حول المجتمع ونظام الحكم بتونس في القرن 19، منشورات مجلة الإتحاف، سبتمبر 1978، ص 46.
(5) Courtinant ,R.la piraterie barbaresque en méditerranée, préface d’evelyne joyaux,dulapha édition, paris 2008,  p 92. 
(6)  ben Salem ,Lilia.  Hypothèses a propos des hiérarchies sociales. Cahiers de Tunisie .N 129-130.p16.
يتفق الرّحالة موسكاو مع هذا المذهب ويرى أنّ سكان المدن يعتبرون أنفسهم أرفع من البدو شأنا ويعاملونهم بازدراء.....بوكلير، موسكاو.سميلاسو في إفريقيا رحلة أمير ألماني إلى الإيالة التونسية سنة 1835، تقديم منير الفندري والصحبي الثابتي، بيت الحكمة ، تونس 1989، ص 413.
(7)  لعبت الأسباب الجيو سياسية دورا في تفسير استقلالية المجموعات السّكانية تجاه المخزن، فالمناطق الجبليّة والمناطق المتاخمة للصّحراء لم تخضع بشكل دائم أو كامل حتّى أواسط القرن 19 
(7) ..بوطالب( محمد نجيب) ، سوسيوليجيا القبيلة ، ص 115.   
(8) تواصل صدام الهمامة القبيلة الديوان مع المخزن طوال الحقبة الحسينية وقد عبّرت أشعار أولاد عزيز عن مدى الفجوة الحضارية بينهم وبين السلطة السياسية : 
« نجع أولاد عزيز ... تسمع ليه دريز ...ما يحملــــش الــذل    ها الباي الطحان ... ناوي يغز البل»
عمايرية ( حفناوي)، في تشكّل الوعي الحديث بالرّيف التونسي : من القبلية إلى الوطنيّة ، مجلةالحياة الثقافية،السنة 21، العدد 73،مارس 1996، ص 21.
(9) لوسات( فالنسي)، المغرب العربي قبل إحتلال الجزائر1790-1830 ،نقله إلى العربيّة حمادي السّاحلي، دار سراس للنشر ، تونس 1994، ص ص 36-37.
(10) روسو( الفونس)، الحوليّات التّونسية، ص 183 .
(11)  لئن كان سكان المدن في القرن 19 لا يتجاوزون 15 % من مجموع السّكان ....الجدي( أحمد)، وثائق تنشر لأوّل مرّة عن قبيلة ماجر في القرن 19، مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، تونس أفريل 1998، ص8 .......فإنّ الأتراك والمماليك تمتّعوا بالمناب الأوفر من الثّروة، ففئة الحنفيّة في المهدية ويقدرون بـ 90 نفرا يملكون 52 % من أصل زيتون الجهة زيادة على الإدارة المحلّية للمدينة.... الأرقش( دلندة)، التّطور اللامتكافئ والهيمنة الخارجية الفئة الحنفية ومكانتها في المهدية والمنستير في القرن 19، المجلة التاريخية المغربية، السنة 14، العدد 45-46، تونس 1987، ص 9 .
(12) بن طاهر( جمال)، الفساد وردعه: الردع المالي وأشكال المقاومة والصراع بالبلاد التونسية 1705-1840، تقديم محمد الهادي الشريف، منشورات كلية الأداب منوبة، تونس 1995، ص 119.
(13) بن سليمان(فاطمة)، الأرض والهويّة نشوء الدّولة الترابية في تونس 1574-1881، منشورات edusud ، تونس 2009، ص202.
(14) ابن أبي الضياف(أحمد)، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، ج 3، طبعة تونس 1979، ص 49.
(15) بدا منطوق السّلطة مفعما بالعبارات الدّالة على دونيّة الأعراب، الفراشيش فرقة ضالّة لم يكن لها قهر أو زجر، أ- و- ت ، المصدر نفسه، س ت، م 199، ص 18، و 15912، ت 1850.. الفراشيش شرذمة ضالّة خلو افريقية، المصدر نفسه، م 200، ص 18، و 15461،ت 1850.  
(16)  slama. Bice.l’insurrection de 1864 en Tunisie .M T E .Tunis 1967. P 137.
(17) ردّد  الأهالي أنّ « الباي باع البلاد للرّوامة» في دلالة على تيقض الوعي الجمعي ورفعته،.....فعند قبول علي بن غذاهم الصلّح بعث له فرج بن دحر برسالة يذكره فيها أنّ قيامهم كان أوّلا لله وأنّه سيبقى كذلك، الأرشيف الوطني التونسي، سلسة تاريخيّة، صندوق 184،ملف 1049، وثيقة 49، تاريخ أوت 1864.
وفي مراسلة للقنصل الانقليزي إلى الباي بتاريخ أفريل 1864 يشدّد على أنّه لم يوجد في تواريخ تونس مثل سيرة العروش في هذا الزّمن بما لهم من الشّكايات وهم متسلّحون على عاداتهم السّابقة في سالف الأزمان، لكن لا يتعرّضون بسلاحهم إلاّ للاحتماء من أداء ثقيل فوق طاقتهم ...المصدر نفسه. 
(18) الخامس (محمد بيرم)، القطر التونسي في صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار ، تحقيق علي الشنوفي وعبدالحفيظ منصور، بيت الحكمة، تونس 1999، ص 171.
(19) تكشف مراسلات القيّاد عن الضنك الذي يجابهه سكّان الدّواخل، فقد هاجر بعض أنفار من أولاد وزاز من الفراشيش وعاشروا الطرابلسية وامتنعوا عن دفع المجبى، ا و ت،نفس المصدر ، س ت، م 201، ص18، و15531، ت 1867
وخلال السّنة الشّهباء موّل الفراشيش الخزينة بما يزيد عن 295›817 ريالا و239 جملا و28 حصانا. الجدي( أحمد)، قبيلة الفراشيش في القرن 19،مؤسّسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات ، تونس 1996، ص 45.