الأولى
بقلم |
![]() |
م.فيصل العش |
خيريّة الأمّة الإسلاميّة: رؤية إسلاميّة حداثيّة |
جاء في كتاب اللّه قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: 110). آية عظيمة تلخّص هويّة الأمّة الإسلاميّة ورسالتها في الوجود، كثيرًا ما نستشهد بها للدّلالة على تميّز الأمّة الإسلاميّة، غير أنّ هذا «التّميّز» لا ينبغي أن يُفهم على أنّه وصف ثابت يُمنح تلقائيًّا لمجرّد الانتماء، بل هو -كما يتّضح من سياق الآية- مشروط ومؤسّس على أفعال وسلوكيّات وقيم. تضع هذه الآية أمامنا سؤالاً جوهريًّا: هل نحن اليوم خير أمّة؟ وكيف نكون كذلك؟
معنى الخيريّة: ليست امتيازًا بل تكليفا
الخيريّة هنا ليست مجرّد وصف تشريفي أو مجاملة إلهيّة، بل هي توصيف لأمّة تحمل مسؤوليّة الإصلاح المجتمعي، وتنخرط في الفعل الأخلاقي والإيماني. فـ «كنتم» ليست بالضّرورة ماضية زمنًا، بل ماضية معنى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾مادمتم ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾. أي أنّ الخيريّة لا تُمنح للأمّة إلاّ إذا تحقّقت فيها ثلاثة شروط جوهريّة: أوّلا: الأمر بالمعروف ، ثانيا: النّهي عن المنكر، وثالثا: الإيمان باللّه.
وقد قدّم اللّه تعالى الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر على الإيمان باللّه في هذا السّياق، وهو ما يدلّ على أهمّية «الدّور الاجتماعي» للأمّة في تحقيق رسالتها، باعتباره ترجمة عمليّة للإيمان. فلا تكون أمّتنا خير أمّة إلاّ إذا تمثّلت في سلوك أفرادها معاني الإيمان باللّه: العدالة، والأمانة، والرّحمة، والصّدق.
كيف تتحقّق الخيريّة في السّياق المعاصر؟
ليس كافيا أن نتمسّك بالشّعائر أو نعلن انتماءنا الهويّاتي للإسلام لتحقيق هذه الخيريّة، بل يجب علينا استعادة الوظيفة الرّساليّة للأمّة وذلك عبر عدّة عناصر أهمّها:
1. المعروف كقيمة إنسانيّة شاملة
المعروف في المفهوم الإسلامي ليس مقصورًا على الواجبات الدّينيّة، بل يشمل كلّ ما تعارف عليه النّاس من قيم الخير والعدل والرّحمة وحقوق الإنسان، ما دام لا يتعارض مع النّصوص القطعيّة. وبالتّالي، فإنّ الأمر بالمعروف اليوم يشمل:
* الدّفاع عن العدالة الاجتماعيّة؛
* مناصرة المظلومين؛
* حماية البيئة؛
* محاربة الفساد؛
* دعم حقوق الإنسان وخاصّة المرأة والطّفل؛
* ترسيخ قيم العمل والإتقان والشّفافيّة.
2. المنكر بوصفه اعتداءً على الكرامة الإنسانيّة
المنكر ليس مجرّد ارتكاب المعاصي، بل هو كلّ ما ينتهك إنسانيّة الإنسان، من استبداد، واستعباد، وتهميش، وجهل، واحتكار، وظلم. فالنّهي عن المنكر في السّياق الحداثي يعني:
* مقاومة الاستبداد والفساد؛
* فضح التّمييز العنصري والطّائفي والتصدّي إليه؛
* رفض الاستغلال الاقتصادي ومقاومة الاحتكار؛
* مناهضة الجهل والتّضليل الإعلامي.
3. الإيمان بالله كقاعدة أخلاقيّة لفعل حضاري
الإيمان باللّه ليس مجرّد عقيدة بل هو دافع للفعل الأخلاقي والحضاري، ومنظومة متكاملة تنعكس في السّلوك والنّية والعمل. يقول الإمام الحسن البصري: ««لَيْسَ الإِيمَانَ بالتَّمَنِّي ولا بالتَّحَلِّي، وَلَكِنْ هُوَ مَا وَقَرَ في القَلْبِ، وَصَدَّقَهُ العَمَلُ، وَإِنَّ قَوْمَاً خَرَجُوا من الدُّنْيَا وَلَا عَمَلَ لَهُم؛ وَقَالُوا: نَحْنُ نُحْسِنُ الظَّنَّ باللّهِ؛ وَكَذَبُوا، لَو أَحْسَنُوا الظَّنَّ لَأَحْسَنُوا العَمَلَ»(1)،لذلك قرن اللّه سبحانه وتعالى في كتابه بين الإيمان والعمل، فقال: ﴿وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾ (الكهف: 88). والمؤمن الحقيقي ليس من ينعزل عن العالم، ليتفادى الذّوبان فيه أو خوفا من الفتنة، بل من يتحلّى بـ «الانفتاح الواعي»(2) ويشهد على العالم ولا ينغلق دونه، فيسهم في تحرير الإنسان من كلّ أشكال القهر، ويعمّر الأرض بما يرضي اللّه.
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر:
من السّلطويّة إلى الشّراكة المجتمعيّة في السّياق الحداثي
الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ليس مجرّد شعارات، بل هي وظيفة مجتمعيّة شاملة. يقول المفكر الإسلامي مالك بن نبي: «ليست مشكلتنا أن نعرف الحقّ، بل أن نعمل به وننقله إلى الآخرين»(3). فحين يغيب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، يتحوّل المجتمع إلى بيئة خصبة للفساد والظّلم. وقد أكّد القرآن على هذا الواجب في قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(آل عمران: 104).
ويجب أن يُفهم «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر» كمسؤوليّة جماعيّة ومؤسّسيّة وليس كتسلّط فرد على آخر. وفي هذا السّياق، لا يتجلّى الأمر بالمعروف في مراقبة الأفراد أو فرض الوصاية عليهم بل في :
* تدعيم مؤسّسات المجتمع المدني وتشجيعها؛
* تكريس حرّية التعبير و تدعيم الصّحافة الحرّة؛
* الدّفاع عن استقلاليّة القضاء؛
* توفير الأرضيّة المناسبة لخلق النّخب الفكريّة والدّينيّة المسؤولة؛
* الإعتناء بالتّربية والتّعليم، عبر مراجعة المضامين والمناهج ؛
فالنّهوض لا يكون بالأفراد فقط، بل بالمؤسّسات التي تحمي القيم وتنفّذ السّياسات. لذلك علينا أن نعمل مجتمعين لتأسيس إعلام هادف، وتعليم نزيه، واقتصاد عادل، وقضاء مستقل. وقد لخّص المفكر الجزائري عبد الحميد بن باديس هذا المعنى بقوله: «إنّما الأمم تبنى بالعلم والعمل، وتنهض بالعدل والحرّية»(4).
نحو تجديد الوعي بالخيريّة
خيرية الأمّة ليست حتميّة، بل مشروطة بالفعل الإيجابي المستمر. وهي لا تُمنح مجانًا، بل تُستحق بالعمل الجادّ، والإصلاح الدّاخلي، والتّكامل بين الإيمان والسّلوك، وبين الفرد والمجتمع، و«ليس في الإسلام وضعٌ اجتماعي يُكتسب بالنّسب أو الادّعاء، بل بالعمل والشّهادة للّه في كلّ مجال»(5).
وقد لخّص الإمام محمد عبده، أحد أبرز رواد التّجديد في الفكر الإسلامي، مفهوم الخيريّة في ثلاث درجات تصاعديّة تعبّر عن تطوّر وعي الأمّة برسالتها:
أولى الدّرجات: أن نعرف الحقّ ونؤمن به، حيث تبدأ الخيريّة من الوعي، أي إدراك الحقائق الكبرى في الدّين والحياة، والإيمان بها إيمانًا صادقًا. وهذا يشمل فهم التّوحيد، ومعنى العدل، وكرامة الإنسان، ومقاصد الشّريعة. فالمعرفة شرط أوليّ، لأنّها تمنح الإنسان البوصلة الأخلاقيّة التي توجّهه. ﴿..قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾(الزمر: 9)
ثاني الدّرجات : أن نبلّغ الحقّ للنّاس بالحكمة، إذ لا تقف الخيريّة عند حدود الذّات، بل تنطلق نحو الآخر، عبر البلاغ الرّاشد، المبني على الحكمة والموعظة الحسنة. وهذا البلاغ لا يفرض بالقوّة ولا بالعنف، بل يشارك المعرفة والخير بأسلوب يفهم الواقع ويخاطب العقل والوجدان معًا. هنا يظهر دور الدّعوة الفكريّة والإعلاميّة والتّربويّة في العصر الحديث. ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..﴾(النحل: 125)
ثالث الدّرجات وأعلاها: أن نقيم مجتمعات راشدة، عادلة، راقية وهي ذروة سنام الخيريّة، حيث يتحوّل الإيمان والفكر إلى مشروع حضاري يغيّر الواقع، ويقيم مجتمعًا يتّصف بـ :
الرّشد: حيث يكون النّاس قادرين على التّمييز واتخاذ القرار دون وصاية.
العدالة: التي تضمن الحقوق وتمنع الظّلم والاستغلال.
الرّقيّ: في الفكر، والعلم، والفنّ، والعلاقات الإنسانيّة.
آية الخيريّة إذا، هي دعوة للأمّة أن تعيد تحديد دورها في ضوء قيم الإسلام الكبرى: الحرّية، الكرامة، العدل، الرّحمة، والتّكافل. فكلّما أحسنّا ترجمة هذه القيم إلى واقع ملموس، استعدنا موقعنا كخير أمّة «أُخرجت للنّاس» لا على النّاس. إنّ مسؤوليّتنا أمام اللّه، وأمام الإنسانيّة، أن نستعيد هذا الدّور الرّيادي، لا بالتّغني بأمجاد الماضي، بل ببناء واقع جديد يحقّق مقاصد الإسلام في الإصلاح والرّحمة والعدل.
الهوامش
(1) ابن القيم مدارج السالكين، ابن القيم، ط. دار الكتاب العربي، بيروت، ج1، ص110
(2) مصطلح «الانفتاح الواعي» للأستاذ فتحي يكن ويعني أن يستفاد من الآخر دون أن يذوب فيه، لمزيد التوسّع أنظر «ماذا يعني انتمائي للإسلام»، فتحي يكن، ط. دار الأرقم، بيروت، ط5، 1996، ص61
(3) شروط النهضة، مالك بن نبي، ط. دار الفكر، دمشق، 2002، ص92
(4) الآثار الكاملة، عبد الحميد بن باديس، ط. وزارة الشؤون الدينية، الجزائر، ج2، ص244
(5) في ظلال القرآن، سيد قطب، ط. دار الشروق، القاهرة، ط17، 2003، ج2، ص821
|