الأولى

بقلم
فيصل العش
قرار تشاركي.. حوكمة شفافة .. سياسة صارمة
 أسبوع واحد يفصلنا عن الاستحقاق الانتخابي التشريعي الذي تسعى من خلاله قائمات حزبية  وأخرى ائتلافية أومستقلّة افتكاك موقع لها تحت قبّة مجلس الشّعب حتّى تساهم مع بقية الفائزين في نحت مستقبل تونس بعد فترة انتقالية صعبة دامت ثلاث سنوات كادت تعصف بالانتقال الديمقراطي وترمي البلاد في أتون صراع من الصعب التكهن بنتائجه.
كل الأحزاب تفننت في كسب ودّ الناخبين وإن اختلفت الطرق والأساليب كل حسب امكانياته المادّية والبشرية لكنّ المتتبعين للحملة الانتخابية التي انطلقت يوم 4 أكتوبر الجاري لاحظوا بوضوح انخفاض منسوب الحماس لدى الناس ولامبالاتهم تجاه معلّقات الأحزاب وما تقوم به من أنشطة وحملات مقارنة بما كان عليه حماسهم في أكتوبر 2011. ويعود ذلك كما يقول البعض إلى صدمة الناس من آداء الحكام الجدد الذين جاءت بهم الانتخابات وفشلهم في حلّ المشاكل التي قامت  بسببها الثورة متهمين الأحزاب والسياسيين جميعا باللهث وراء الكراسي وعدم اكتراثهم بواقع البلاد والعباد..
وبالرغم من أن العديد من الأحزاب وخاصّة التي يصنّفها الإعلام بالأحزاب الكبيرة قد تقدّمت ببرامجها للفترة النيابية القادمة، إلاّ أن أغلب المواطنين عبّروا عن عدم ثقتهم في ما طرح من برامج باعتبار أن نفس هذه الأحزاب قد تقدّمت في الانتخابات الفارطة ببرامج طويلة وعريضة  لكنّها لم تحقق منها شيئا. كما أنّ أغلب البرامج المطروحة لا تختلف كثيرا عن بعضها البعض، فالجميع يعلنون التزامهم بخدمة الشعب الكريم وبالقضاء على الفقر والحرمان ومقاومة الارهاب واصلاح منظومات التعليم والصحّة والجباية وحلّ مشاكل النقل ودفع الاستثمار وتشغيل الشباب ومساندة صغار الفلاحين وتطوير السياحة وانجاز المشاريع التنموية بكل شبر من أرض الوطن ... الخ ...الخ . 
كل ما يطرح جميل لكنّه غير قابل للتطبيق حتّى لا نقول مستحيل مادام الموجودون في سدّة الحكم يتّبعون نفس السياسة بآلياتها القديمة. فلا يمكن أن تنجح أفضل البرامج وأقواها ما لم يتمّ القطع نهائيّا مع الماضي واعدام آلياته وتنظيف «ماكينة» الدولة وأجهزتها من عقلية السلطة القائمة على التعسّف والقوّة والترهيب ... ولم تنجح برامج بن علي «الطاغية» لا لأنها فاشلة أو ضعيفة التخطيط بل لأنها طبّقت في واقع يسوده الفساد والرشوة وعدم الشفافية والكيل بمكيالين أو أكثر ... 
إنّ تونس لن تنجح في امتحانها الديمقراطي ولن تحقق قفزة تنموية معتبرة إلاّ إذا عملنا جميعا على القطع مع الماضي وإرساء قواعد للحكم تقوم على مرتكزات ثلاث  وهي «القرار التشاركي والحوكمة الشفافة والسياسة الصارمة». 
فالقرار التشاركي هو نقيض القرار المركزي الذي يتخذ من قبل السّلطة المركزيّة ويقوم على تشريك مختلف الأطراف الفاعلة والمتداخلة في ملف ما، ليس عبر استشارتها فحسب بل بتوزيع سلطة صنع القرارات في ما بينها حتّى يكون القرار النهائي نابعا عن توافق تام وشامل وهو ما يعطيه شرعيّة وقّوة تنفيذ لا تقاوم. وفي هذه الحالة يكون المواطن طرفا فاعلا وليس مفعول به. فإذا شرّكنا على سبيل المثال كل الأطراف المتداخلة في قطاع التعليم من تلاميذ وأساتذة وإدارة وأولياء ومجتمع مدني وخبراء تربويين فإن قرار اختيار المنظومة التربوية المناسبة سيكون قرارَ الجميع مما يجعل مختلف الأطراف تسعى لتوفير سبل نجاحه وعدم معارضته. 
لكنّ اتخاذ القرار لا يكفي فتنفيذه يجب أن يكون بطريقة شفافة وهو ما نطلق عليه بالحوكمة الشفّافة، والشفافية هي عكس الخصوصيّة في الحياة السياسية والمدنية. وتعتبر الحوكمة شفافة حين تمكّن المواطنين عبر آليات وطرق متنوعة من الاطلاع على كل مراحل اتخاذ القرار وتنفيذه من قبل المؤسسات الرسمية.
إن ارساء الحوكمة التشاركية والشفافة سيساهم في إرجاع الشرعية والمصداقية التي افتقدتها أجهزة الدولة والحكام المنتخَبون وسيعيد للمؤسسات الرّسمية هيبتها ومن ثمّ قدرتها على تنفيذ القوانين ومن هنا لابدّ من تحقيق الركيزة الثالثة وهي السياسة الصارمة والتي تقوم على تطبيق القانون بصرامة على الجميع مهما اختلفت مواقعهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لأن سياسة الأيادي المرتعشة التي تريد إرضاء أطراف على حساب أطراف أخرى لا تؤدّي إلى تكريس دولة القانون بل تؤدّي إلى ضياع هيبة الدولة وتحوّل البلاد إلى غاب يأكل فيه القوي الضعيف وتنهك فيه الحريات ويعود عَبْره الاستبداد من جديد.
فبالحوكمة التشاركية الشفافة وتطبيق صارم للقانون يمكن أن نتحدّث عن تحوّل ديمقراطي في بلادنا  ويمكن أن تعود للدولة هيبتها وللقانون سيادته وللدستور حرمته. وبعد أن نرسي حكما ديمقراطيا تشاركيا وشفافا ونضع الآليات الكفيلة لتطبيق القانون على الجميع من دون استثناء يمكن للأحزاب أن تقدّم للشعب برامجها في مختلف الميادين ويتحوّل التنافس الانتخابي إلى تنافس حول البرامج والمخططات. أمّا دون ذلك فهو تحول ديمقراطي أعرج ونظام قديم بلباس مختلف لا غير. اللهم قد بلّغت اللهم فاشهد... 
-  مدير المجلّة . faycalelleuch@gmail.com