مقالات في التنمية

بقلم
فيصل العش
تنمية شاملة ومستدامة تحفظ للتونسي كرامته وتحقق له الرفاه
 إن الانتقال من الوضع الردئ الذي عاشه الشعب التونسي خلال عقود إلى وضع تتجسّد فيه طموحات المستضعفين الذين خرجوا لإسقاط الدّكتاتور بداية من يوم 17 ديسمبر 2010، لا يتحقّق إلاّ من خلال مشروع إصلاحيّ لتحقيق تنمية شاملة،متوازنة ومستدامة.
مفهوم التنمية المستدامة
تهدف التنمية المستدامة إلى تطوير دوائر الإنتاج والتوزيع والإستهلاك وتحقيق الاستغلال الأمثل للبيئة التي هي الإطار الذي يعيش فيه الإنسان ومنها يحصل على مقومات ومتطلبات حياته من غذاء وكساء ورعاية صحيّة ومأوى وتعليم وفيها أيضا يقيم علاقاته البشرية والإنسانيّة و يعيش مؤثّرا  ومتأثّرا( الأرض / البحر والفضاء ومختلف العناصر والظواهر والعوامل الطبيعيّة المحيطة والتفاعل بين هذه العناصر) قصد تحقيق رفاهيته من دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على تلبية حاجياتها وحقّها في الثّروات الوطنيّة. 
فهي إذا نمط من التنمية لا يسمح بالاستغلال الفاحش للثروات الطبيعية، التي ترتكز عليها هذه التنمية، أو تخريبها، بل يعمل على تجديد هذه الموارد والثّروات وإعادة التّصنيع بشكل يضمن بيئة نظيفة وصالحة لحياة الأجيال الحاضرة والقادمة. 
وتقوم التنمية المستدامة على أبعاد رئيسيّة ثلاث وهي البعد الاقتصادي (إعادة تنظيم للحياة اليوميّة وإعادة هيكلة الاقتصاد على كل المستويات وفي كل القطاعات، أي في كل دوائر الإنتاج والتوزيع والإستهلاك)، والبعد البيئي (ضمان الاستخدام المستدام والحفاظ على الأراضي والغابات والمياه والحياة البرّية والأسماك وموارد المياه)، والبعد الاجتماعي (دمج المهمّشين والفقراء ضمن مؤسسّات المجتمع والدورة الاقتصاديّة، منح كل إنسان، رجلاً كان أم امرأة، صوتاً وقدرة على الاختيار لتحدّي مسار مستقبله).
 و لا تتحقق التنمية المستدامة إلاّ عبر وضع إستراتيجيات وبرامج ومشاريع تخطّط لها الدّولة وتصوغها بالشّراكة مع مختلف الأطراف الاجتماعية (مجتمع مدني، أحزاب، خبراء...) حتّى يكون القرار تشاركيّا لتحقيق أفضل قدر من الرّفاه للمواطنين مع ضمان الحرمة البيئية والمحافظة على التوازنات الطبيعية. إذ لا يستطيع أحد أن يدّعي امتلاك الحقيقة أو المعرفة الشّاملة، خصوصـًا إذا تعلق الأمر بمشاكل كبرى ومعضلات ميزتـُها التعقيد كالمسألة البيئيّة. ولا يتحقق ذلك إلاّ بعد ارساء نظام مجتمعي عماده الحقوق والحريات واحترام الخصوصيات (الحضارية والثقافية والبشرية والجغرافية) للبلاد. 
العلاقة بين البيئة والتنمية
العلاقة بين البيئة والتنمية علاقة عضويّة.. حيث تقوم الأولى كما ذكرنا على استغلال موارد الثّانية ولا تتحقّق التّنمية من دون الموارد البيئيّة وبالتالي فإنّ الإخلال بالموارد من حيث إفسادها سيكون له انعكاساته السّلبيّة على العمليّة التنمويّة وعليه فإنّ موضوع البيئة هو الوجه الآخر لمسألة التّنمية (والعكس بالعكس)،ولابدّ أن ينظر الى البيئة والتنمية باعتبارهما مسألتين متلازمتين. 
إنّ النّظر للإشكال البيئي هو نظر للإشكال التّنموي الذي يبدأ بتحديد المفاهيم واعتماد ما هو متفق عليه دوليّا ثمّ بتشخيص الواقع، وينتهي بصياغة رؤية وإستراتيجية ومنوال تنموي يقوم على مقاربة متعدّدة زوايا النّظر (أي اجتماعية-اقتصادية-بيئية).
لهذا فإنّ الحديث عن إرساء منوال تنموي جديد لتحقيق التّنمية المستدامة لابدّ أن يمرّ عبر النظر بعمق وتدبر في المشكلة البيئيّة التي تعيشها البلاد والتي نرى ضرورة النّظر إليها من زاويتين :
• الأولى : التدهور البيئي الناتج عن دور الانسان ونشاطه وسلوكه.
• الثاني : التدهور البيئي الناتج عن التغيّرات المناخيّة التي هي في حدّ ذاتها من نتاج النّشاط الإنساني، غير أنّ أسبابها تتجاوز البعد القطري. وهذا التّدهور هو الأخطر على مستقبل بلادنا ونظام عيشنا. ودورنا لا يتعدّى البحث في سبل الوقاية من مخاطره والتأقلم مع نتائجه وهو أمر من الأهميّة بمكان لأن وضع استراتيجيات تنمويّة مهما كان مجالها لا تأخذ بعين الاعتبار تأثيرات التّغيرات المناخيّة على البيئة ولا تقرأ لها حسابا ليس أمامها غير الفشل. 
كان الوضع البيئي في تونس سيئّا قبل الثورة ولكنّه ازداد سوءا وتعكّرا خلال السنوات الثلاث الأخيرة فهو يشكو في كامل أنحاء البلاد من هشاشة المنظومة الطبيعية ( التعدّي على الغابات بالرعي الفوضوي والحرائق المتعمّدة والتحطيب وارتفاع ملوحة الأراضي الزّراعيّة وتعّرضها لمخاطر التّصحّر وقلّة المياه النّظيفة) وفوضى المنظومة العمرانيّة (توسّع التجمّعات السكنيّة على حساب الأراضي الزّراعية والمناطق الأثريّة وتكاثر الأحياء العشوائيّة)، ومحدودية الموارد الاقتصاديّة، وتفشّي الفساد التّنموي،(أي البشري والاقتصادي والبيئي) بالإضافة إلى تراكم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والبيئية (بطالة، انحراف، نفايات صلبة وسائلة، أمراض، الأوساخ...) 
أي منوال تنموي نريد
إن الترقيع والبحث عن الحلول الجزئيّة لا يؤدّي إلى نتائج إيجابيّة ولا يمكن أن يغيّر في واقع بلادنا التنموي شيئا. والحلّ لا يكون إلاّ عبر اصلاح جذري يتمثل في ارساء منوال تنمويّ يقضي على الاختيارات الفاسدة ويستهدف محاربة الفساد والاستبداد والفقر من جهة ويقترح  توجهات جديدة وحلولاً حقيقية تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والنجاعة الاقتصادية وحماية التوازنات البيئية وتحقيق الرفاه والرخاء للجميع من جهة أخرى، وهو غاية منى الاستدامة.
ولكنّ إرساء هذا المنوال التّنموي يتطلّب إحداث ثورة وانتقال بيئي تنموي في الذّهن التّونسي بدءًا بالنّخب والقيادات والمؤسّسات (على اختلاف أنواعها ومستوياتها) يقوم على الوعي البيئي الشّامل وعلى مبدإ المواطنة وما يفرضه من انخراط في العمل التّشاركي بين الدّولة والمواطن وبين العمومي والخاص وبين مؤسّسات المجتمع المدني فيما بينها بالإضافة إلى استحضار المخاطر التي تهدّد البيئة وما ينجر عنه من فشل في كل عمل تنموي.
مقترحات 
إن التفكير الجدّي في المسألة البيئيّة بجزئيها (الانساني والمناخي) سيكون في حدّ ذاته مدخلا أساسيّا وهامّا لتحقيق التنمية بما أن ما نقترحه من تصورات ستساهم في تحقيق بعض أهداف الثورة وهي التشغيل وتخفيض نسبة البطالة والقضاء على التهميش الاجتماعي لمواطني الأرياف والجبال وحماية المدن والممتلكات والتقيلص من الخسائر المادية والبشرية الناتجة عن الكوارث الطبيعيّة. 
ومن بين هذه المقترحات :
(1) الدفع نحو اعتماد « الاقتصاد الأخضر» الذي يعتبر من وسائل التخفيض من نسبة البطالة نتيجة طاقته التشغيلية (يمكن أن توفر 300 الف موطن شغل في ميدان الطاقة البديلة وفي مجال الخدمات البيئية كرسلكة وتثمين النفايات وفي الزراعة البيولوجية وفي السياحة البيئيّة ( في الصحراء التونسية وفي الجزر والمحميات ) ويخفض من التلوث ومن التبعيّة في مجال الطّاقة ويحمي البيئة ويحافظ على الموارد الطبيعيّة ويثمنها ويساهم في تخفيض نسبة الفقر ويحسن الظروف الاجتماعية لعدد كبير من المواطنين. 
 يمثل «الاقتصاد الأخضر» دعامة لكل المقومات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة ومخرجا وفرصة لتصحيح المسار الاقتصادي في مجال التّنمية المستدامة. وهو يتماشى مع الواقع التونسي الذي يعاني من ارتفاع نسبة البطالة وتضخّم كبير في ميزانية استهلاك الطّاقة (إن جميع التجارب في مجال الطّاقة المتجدّدة تدلّ على وجود فرص عمل لتشغيل الشّباب التّونسي وخلق ثروات جديدة).
لكن إدراجه ضمن الدورة الاقتصادية للبلاد يتطلب إرادة سياسيّة قويّة ووعيا جماعيّا بأهمية دوره في التنمية والحفاظ على البيئة، ولهذا فإنّنا نرى ضرورة أن يسبق ذلك تأسيس مرصد للاقتصاد الأخضر من أجل التعريف به وبمواطن الشغل التي يمكن أن يوفرها هذا النوع من الاقتصاد كلّ سنة. ووضع استراتيجيّة تعتمدها مختلف الهياكل المتداخلة في هذا المجال لتطوير الكفاءات وخلق مؤهلات بيئيّة خاصّة تستجيب لمتطلبات سوق الشغل. 
(2) وضع استراتيجية وطنيّة لإدماج سكّان المناطق الرّيفية والجبليّة في الدّورة الاقتصاديّة بمساعدتهم على العمل في القطاع الغابي والرّعوي مع التّركيز على تحسين ظروف معيشتهم، بتمكينهم من استغلال الموارد الغابيّة والرّعوية بطريقة متوازنة وتنظيمهم ضمن مجامع التنمية الزراعيّة ودعمهم مادّيا وفنّيا وذلك تكريسا للبعد الاجتماعي والبيئي للمنوال التنموي الذي نبشر به.
(3) بعد أن تمّ تضمين الدستور الجديد فصولا خاصة بالبيئة وادراج هيئة مستقلّة خاصّة بالتنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة ضمن المؤسسات الدّستورية الدّائمة (الفصل 129 ). أصبح من واجب السياسيين الوطنيين الضغط من أجل إصدار مجلة البيئة التي تهدف إلى تقنين السّلوك البيئي وإرساء تشريعات تتماشى مع الخصوصيّات البيئيّة التونسيّة والاستئناس بالتّجارب الدّوليّة. مجلّة تقطع مع النقائص والتّضارب والتكرار في النصوص القانونية المتعدّدة المتعلّقة بالبيئة وعدم ملائمة هذه النّصوص للواقع على المستوى الوطني والدّولي وتأخذ بعين الاعتبارات كل المواثيق الدّولية الخاصّة بالبيئة التي وافقت عليها تونس كما تضمن نجاعة الهياكل المكلّفة بالمسائل البيئيّة في آداء دورها بتجاوز التداخل في المهام والتنازع في اختصاصاتها. 
كما نريد من المجلة أن تضمن تطوير التقنيات القانونيّة البيئيّة وخاصّة الاستقصاء ودراسة التأثيرات البيئيّة وتطوير نظام المراقبة والتتبع والعقوبات ووضع نظام للوقاية والتّصرف في المخاطر الصناعيّة والتكنولوجيّة ووضع الآليّات الاقتصاديّة والماليّة الضروريّة لدعم أنشطة مقاومة التلوّث وحماية البيئة... 
«نحن نريد أن يكون قانون البيئة الجديد.. قانونا يحمي ويبني قبل أن يعاقب» 
(4) أمّا في ما يتعلق بموضوع التغيّرات المناخيّة فإنّ بعث هيكل وطني يعنى بالمسألة من حيث المتابعة والبحوث تشرف عليه إطارات متخصّصة في المجال، قادر على وضع الاستراتيجيّات النّاجحة للحدّ من مخاطر التّغيّرات المناخيّة والتّأقلم معها ويقترح على أصحاب القرار سياسات على المدى المتوسط والبعيد تهدف حماية المواطنين وممتلكاتهم وتحافظ على اقتصاد وطني يتفاعل مع بيئته ومحيطه. 
(5) بث الوعي البيئي في أذهان التونسيين سواء كانوا كبارا أو صغارا وذلك عبر انخراط جميع المؤسسات ( التعليميّة، التربوية، الثقافية، الإعلاميّة، الإجتماعيّة...) كل حسب اختصاصه ومجال تاثيره على أن يكون هذا الانخراط منظّما ومبرمجا (المضمون ) وذلك عبر التزام الجميع بالسياسة التوعويّة المتفق عليها مسبّقا والصادرة عن مؤسسات الدولة التي تعود إليها المسؤوليّة الكبرى في بثّ هذا الوعي .
الخاتمة
تعيش بلادنا مشكلة تخلف اقتصادي واجتماعي من جهة، وتسعى في سبيل تحقيق تنمية حقيقية تقطع مع عقود من الفقر والحيف الإجتماعي من جهة أخرى، وهي من ثمّ في قلب مشكلات البيئة، سواء من حيث ما هي عليه من تخلّف، أو من حيث ما تستهدفه من تنمية وتقدم.
ولذا فنحن في حاجة إلى مزيد من الوعي البيئي، ومن الوعي العميق بالروابط الإيجابية والسلبية الموجودة بين البيئة والتنمية حتى نتمكن من تدعيم الروابط الإيجابيّة والاستفادة المثلى منها، وإزالة الرّوابط السلبيّة أو على الأقل إضعافها. ويتوقف الأمر في ذلك على نوعية التّنمية المنشودة ونمطها، وضرورة أن تكون مغايرة لنوعيّة التنمية التي أنجزها الغرب والتي قامت على أساس إهلاك البيئة واستنـزافها. 
إنّنا بإيجاز في حاجة إلى منوال تنموي ينطلق من واقعنا ويستغلّ امكانياتنا البشرية والمادّية والطبيعيّة من دون التعسّف على البيئة أو إفسادها.
-------
- مدير مجلّة الإصلاح
faycalelleuch@gmail.com