في الشأن السياسي

بقلم
فيصل العش
المشهد السياسي في تونس والاستحقاق الانتخابي
 مقدمة
ثمانون يوما هي عدد الأيّام التي تفصلنا عن تاريخ إجراء الانتخابات التّشريعيّة لاختيار أوّل برلمان تونسيّ بصفة ديمقراطيّة بعد الحراك الثّوري الذي شهدته البلاد بين 17 ديسمبر 2010/14 جانفي 2011،
فبعد أن عاشت البلاد مرحلة انتقاليّة صعبة شهدت فيها أحداثا كادت أن تعصف بمسار التّحول الدّيمقراطي خلال ثلاث سنوات بالتّمام والكمال بعد أن كانت مبرمجة لسنة واحدة وبعد الوفاق الواسع حول الدّستور الجديد داخل المجلس التأسيسي وتركيز الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات التي قامت بتحديد موعد للانتخابات التشريعية والرئاسيّة، وفتحت باب التّسجيل في قوائم النّاخبين، بدأت السّاحة السّياسية تشهد حراكا تصاعديّا استعدادا للاستحقاق الانتخابي القادم الذي نأمل أن يكون عرسا ديمقراطيّا يقطع نهائيّا مع منظومة الاستبداد والقمع وانتهاك حقوق الإنسان.ويرسي المؤسسات المستقرّة التي نصّ عليها الدستور ويهيئ البلاد للخروج نهائيّا من الوضع الانتقالي الذي لم تعد تتحمّله.
مشهد اجتماعي واقتصادي متأزم
 يأتي هذا الاستحقاق الانتخابي الهام في تاريخ البلاد وهي تعيش مشهدا اجتماعيّا واقتصاديّا صعبا حيث تعمّقت الأزمة الاجتماعيّة وساءت أحوال الطّبقات الشّعبيّة أكثر من ذي قبل وشهدت قدرات المواطن التّونسي في مواجهة ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وتوفير متطلبات العيش الكريم تقهقرا مستمرّا لم تفلح حكومات الترويكا الثلاث ولا حكومة التكنوقراط الأخيرة في إيقافه والحدّ منه. فعلى مدى ثلاث سنوات لم  يتحقّق الكثير في مقاومة الفقر ومعالجة الفوارق الاجتماعيّة بين المناطق الدّاخليّة والسّاحليّة ولم يتمّ تحقيق ما كان متوقّعا من تنمية جهويّة للمناطق الفقيرة المهمّشة مع فشل في مواجهة استفحال البطالة وإيجاد الحلول لتشغيل الشّباب العاطل عن العمل(1) بالإضافة إلى عدم تحقيق نسب نمو جيّدة والعجز على توفير الظّروف الملائمة للاستثمار وتحريك الدّورة الاقتصاديّة وذلك نتيجة عدّة عوامل أهمّها:
(أ) فشل الطّبقة السّياسيّة في ترتيب أولويّات المرحلة الانتقاليّة وغياب برامج ذات جدوى قابلة للتّنفيذ لدى مختلف الأطراف سواء تلك التي شكّلت حكومات الترويكا أو المعارضة التي اكتفت بالضّغط على تلك الحكومات قصد إسقاطها من دون أن تقدّم مقترحات عمليّة مفيدة تخرج البلاد من عنق الزّجاجة .
(ب) تراجع الإقبال على العمل وأداء الواجب مقابل ارتفاع وتيرة الحركات المطلبيّة التي اجتاحت البلاد من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها فتعطّلت المؤسّسات وعمّت الإضرابات والاعتصامات في كل القطاعات وخاصّة قطاع المناجم المصدر الرئيسي لميزانية الدولة مما دفع الحكومات المتعاقبة إلى الاستجابة لأغلب المطالب بالرغم من أنّ ذلك أثقل كاهل الدولة ودفعها إلى مزيد من الاقتراض .
(ج) تكرار العمليات الإرهابية في مناطق مختلفة من البلاد، أدّت إلى استشهاد عدد كبير من سياسيين وإطارات من الجيش والأمن الوطنيين وأدخلت البلاد في حالة ارتباك أثر على الواقع الاقتصادي وأمن المواطنين.
(د) اضطراب الأوضاع بالشقيقة ليبيا وتحوّلها إلى بؤرة صراع بين الميليشيات المسلّحة وهو ما أدّى إلى نتيجتين سلبيتين تتمثل الأولى في توفير مناخ ملائم لتحرّك الإرهابيين وتسريب الأسلحة داخل التراب التونسي والثانية في تراجع الصادرات التونسية إلى ليبيا وضياع فرص الاستثمار والعمل فيها وبالتالي فرص لتشغيل العاطلين عن العمل في السوق الليبية.
مشهد سياسي غير سليم
 بالإضافة إلى تأزم المشهد الاجتماعي والاقتصادي التونسي، فإن المشهد السياسي الحالي لا يخلو من سلبيات وعاهات من  بينها:
(أ) سيطرة حركة النهضة ونداء تونس على المشهد السّياسي مما يزيد في حدّة التجاذب وخلق جوّ من الاستقطاب الثنائي كاد يعصف بالمشهد كلّه لولا النجاح بصعوبة في خلق توافق هشّ أنتج الحكومة الحالية وسيكون هذا الاستقطاب بالتأكيد أشدّ حدّة كلّما اقتربنا من تاريخ إجراء الانتخابات.
(ب) كثرة الأحزاب وتشابهها في الأهداف والتّسمية وفقدان عدد كبير منها للفاعليّة نتيجة عدم تواجدها الفعلي في الحراك السياسي، وهي بهذا الشكل لا دور لها سوى تضخّم عدد الأحزاب ممّا يخلق ردّ فعل سلبي لدى الناخبين وارتفاع نسبة عزوفهم عن المشاركة في التصويت .
(ج) ضعف وتشتّت القوى المنحازة إلى الثورة وانعدام آليات تثبيت الشراكة الوطنية بينها وفشل بناء مشروع سياسي جدّي يلتزم بأهداف الثورة ويستند إلى الثقافة العربية الإسلامية ويعتمد توجّها ديمقراطيا اجتماعيا ويتجلّى ذلك في فشل مختلف الأحزاب التي تدّعي الوسطيّة وتتبنّى نظريّا التوجه الديمقراطي الاجتماعي في رصّ صفوفها وتشكيل جسم سياسي سواء كان في شكل حزب جديد أو ائتلاف انتخابي قادر على المنافسة في الانتخابات القادمة وتكون لديه القوة التي تضمن له التأثير في الحياة السياسية الوطنية بما يساهم في إعادة تشكيل الخارطة الحزبية وكسر حالة الاستقطاب الثنائي وخلق التوازن المطلوب لبناء الديمقراطية السّياسية ولإعادة الأولوية لاستكمال أهداف الثورة.
(د) عدم وجود البلاد في مأمن من تداعيات الوضع السياسي الإقليمي والعالمي الذي تميّز بالتأزّم والعنف والسقوط المدوّي لمبادئ الديمقراطية والعيش المشترك والتعاون مقابل صعود فكرة الإرهاب والعودة إلى ظاهرة الانقلابات العسكرية وإشعال فتيل الحرب المدمّرة والإبادة الجماعيّة.
(ه) تراجع منسوب الرغبة في المشاركة في الشأن العامّ والانخراط في الأحزاب حيث أصبح هناك عزوف متنامي خاصة لدى الشباب بما يؤشر على استمرار أزمة التنمية السيّاسية وضعف ثقافة المواطنة والديمقراطية لدى نسبة كبيرة من الناس.
(و) استعادة القوى المضادّة للثورة للمبادرة ومحاولة قلب الأوضاع لفائدتها من خلال عودة رموز النظام السابق ممن يتحمّلون المسؤولية السياسية في منظومة الاستبداد والفساد وتسويقهم إعلاميّا كشخصيات سياسية قادرة على الفعل والإفادة.
(ز) غياب أدنى المعلومات حول تمويل الأحزاب السياسية في تونس وعدم تطبيق المرسوم عدد 87 لسنة 2011 والذي يقرّ بنشر التقرير المالي للأحزاب السياسيّة في أحد الجرائد اليومية أو في الموقع الالكتروني للحزب هو مؤشر غير مبشر للقضاء على ظاهرة المال السياسي الذي بمقدوره التأثير السلبي على نتائج الانتخابات وتوزيع الخارطة السياسية بالبلاد.
من الثقب يأتي الأمل
 بالرغم من خطورة الوضع التونسي، إلاّ أنه ليس بالقتامة التي يروج لها البعض، فثمّة مؤشرات عديدة قادرة على خلق ثقب في جدار تلك القتامة ليأتي الأمل للتونسيين في نجاح تجربتهم الديمقراطيّة ولو نسبيّا.
  ومن بين هذه المؤشرات نذكر :
(أ) نجاح الأحزاب المشاركة في الحوار الوطني ولو بصعوبة في الاتفاق على تعيين حكومة لمواصلة المشوار الانتقالي.
(ب) اتفاق جميع الأطراف السياسية على استنكار العنف ومساندة الجيش الوطني والمؤسسة الأمنية في مواجهتها لخطر الإرهاب.
(ج) عدم انخراط المؤسسة العسكريّة في التجاذبات السياسية وعدم انحيازها لطرف دون آخر وهو ما يمثّل صمام أمان لاستقرار البلاد. 
(ح) وجود بوادر إيجابيّة للوعي الشعبي بخطورة المرحلة وقد تجسّد ذلك خاصّة في ارتفاع نسبة المسجّلين في القوائم الانتخابية بعد العملية الإرهابية الأخيرة في جبل الشعانبي خلال شهر رمضان. (2)
(خ) إمضاء 23 حزبا سياسيا على ميثاق شرف انتخابي تعهّدت فيه بتقبّل نتائج الانتخابات وعدم ارتكاب أيّة تجاوزات خلال المرحلة المقبلة. وهي بادرة إيجابية قد تساهم في المرور من المرحلة الانتقالية وسط جوّ من التعامل الديمقراطي والحضاري. 
(د) تقاطع خيارات القوى الإقليمية والعالميّة المؤثّرة في الوضع السياسي التونسي مع طموحات التونسيين في الوصول إلى حكم مستقر ووضع أمني يسمح بالخروج من الأزمة والبحث عن حلول لمختلف المشاغل التي كانت سببا في الثورة وازدادت تفاقمها بعدها (3) 
مستقبل العمليّة السياسية في تونس
من خلال المؤشرات الإيجابيّة والسلبيّة، يمكن  القول بأن  تونس تسير بحذر شديد ويقظة عالية نحو انجاز انتخابات تشريعيّة ثم رئاسية قبل نهاية هذا العام بالرغم من المخاطر الإرهابية والأزمة الاقتصادية التي تعيشها، 
وسيكون نجاحها مرهون بحسن استعداد الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات والمحافظة على استقلاليتها وتطبيق القانون الانتخابات بدون محاباة لأي طرف خاصّة في مجال التمويل والحضور الإعلامي كما يرتبط نجاح هذه الانتخابات بيقظة مؤسستنا الأمنيّة وجيشنا الوطني الذي سيكون مكلّفا بفرض الأمن وحماية المسار بأكمله إلى حدود صدور النتائج والفصل في الطعون إن وجدت. غير أن الطرف الرئيس في نجاح هذا العرس هو صاحبه وهو الشعب، فبقدر مشاركته في التصويت بقدر ما تكون نتائج الانتخابات معبّرة عن اختياراته وطموحاته فهو صاحب السيادة وعليه أن يعي بأن مشاركته في الانتخابات هي الضمانة الأساسية لتكريس سلطته والقطع مع الدكتاتوريات وحكم الفرد وجعله المرجع الوحيد لأية شرعيّة سياسية في البلاد. وبقدر ما يحافظ هذا الشعب على مكسب الانتخابات ويعمل  على إنجاحها وضمان تعدّديتها وشفافيتها بقدر ما يظلّ التداول على الحكم مضمونا وتظلّ الأحزاب المتنافسة على السلطة تستحضر أهميّة الناخبين وتجتهد في التفاعل مع مطالبهم والقيام بجهد أكبر للبحث عن حلول لمشاغلهم.
ستحاول بعض الأطراف من الدّاخل والخارج زعزعة الاستقرار وخلط الأوراق وستتصاعد وتيرة محاولات الإرهابيين الذين تحرّكهم تلك الأطراف لإرهاب الناس وتخويفهم على أمل تعطيل العملية الانتخابية غير أن محاولاتهم ستبوء بالفشل إن تكثفت جهود الجميع وقامت بمهامها على أحسن وجه، ومضت قُدما في إنجاح المسار الديمقراطي وتنظيم الانتخابات في موعدها الدستوري، باعتبار ذلك إفشالا لمخططات الإرهابيين ومن يقف وراءهم.
أي خريطة سياسية  بعد الانتخابات؟
إن الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة القادمة ستكون بلا شكّ محطّة فاصلة في التّاريخ السّياسي للبلاد وستكون فيها القوى المستفيدة من المنجز التاريخي 17 ديسمبر 2010 / 14 جانفي 2011 في معركة حامية الوطيس ومنافسة شديدة مع القوى الممثلة للمنظومة القديمة فهل ستنجح في إزاحتها انتخابياّ وتأكيد تصميم الإرادة الشّعبية على القطع مع الاستبداد والفساد؟ أم سيكون للشعب رأي آخر بعد تجربة قصيرة من حكم الترويكا؟
 أجمع المحلّلون والسّياسيون على ضرورة سعي الأحزاب المتنافسة إلى بناء أكبر عدد ممكن من التّحالفات الانتخابية لضمان حضور مشرّف في الانتخابات القادمة ومن ثمّ التواجد في مجلس الشعب الجديد. ولقد نجحت نسبيّا بعض الأحزاب اليسارية والقوميّة في خلق تحالف يقطع مع تشتّتها من خلال إنشاء الجبهة الشعبيّة (4) واستطاعت القوى الدستورية والتجمعيّة الاقتراب من بعضها البعض (5) وقد تجد صيغا متنوعة للتّعاون فيما بينها في حالة عدم الدّخول في الانتخابات بقوائم مشتركة لما لديها من تجربة وخبرة في مثل هذه المناسبات. أمّا بقيّة العائلات السّياسيّة وخاصّة عائلة الأحزاب الدّيمقراطية الاجتماعية وعائلة الأحزاب المحسوبة على التيار الإسلامي فقد فشلت إلى حدّ السّاعة في بناء تحالفات انتخابيّة جدّية توفّر قدرة تنافسيّة عالية خلال الاستحقاق الانتخابي القادم بالرغم من المحاولات العديدة والحوارات المتكرّرة، فقرّرت أغلبها خوض الانتخابات بصفة منفردة. وهو ما سيمثّل نقطة ضعف ستقلّص من فرص نجاح هذه الأحزاب وستسفيد منها حتما قوى المنظومة القديمة  لتمنع أي امكانيّة لتكوين ائتلاف حكومي كبير بعد الانتخابات يجمع قوى منحازة للثورة ينكبّ على إيجاد الحلول لمختلف الملفّات الحارقة  في مختلف القطاعات والمجالات.
 ولإن تنطلق حركة النّهضة بأكثر الحظوظ للمحافظة على موقعها في طليعة الفائزين بالانتخابات من دون بلوغ النسبة التي حقّقتها في أكتوبر 2011 نتيجة تجربتها في الحكم خلال السنوات الفارطة، فإنّها قد تكون أفلتت عن نفسها فرصة بناء حزام داعم لها من الأحزاب القريبة منها بقرارها دخولها إلى الانتخابات بقوائم نهضويّة وقد تجد بالتالي كتلتها النّيابية القادمة نفسها وحيدة من دون حلفاء، محاطة بآخرين أقرب إلى النّظام القديم ستضطرّ إلى التحالف معهم لضمان موقع في الحكم.
أمّا بقيّة الأحزاب فستحاول الدخول من باب «أكبر البقايا» لكسب بعض المقاعد في مجلس الشعب وضمان موقع في السّاحة السّياسيـة. فهل ستنجح في مسعاها أم ستكتفي بالمشاركة تدعيما للديمقراطيّة وتكريسا لمبدإ الانتخابات؟
الجواب على هذا السؤال لن يكون قبل نهاية اليوم السّادس والعشرين من أكتوبر القادم بعد أن يقول الشّعب التونسي كلمته الفصل ويختار من يمثّله في مجلس الشّعب. 
الهوامش
(1)  بلغت البطالة في ماي 2011 نسبة 18.3 % بعد أن كانت سنة 2010 في حدود 13.0 % ثم شهدت انخفاضا محتشما لتصبح 15.3 % في ماي 2014 لمزيد من التوسع يمكن الاستفادة من الرابط التالي:
http://www.emploi.gov.tn/fileadmin/user_upload/Emploi/PDF/Etat_marche_Emploi-Chomage_Tunisie-Fevrier_2014-ONEQ-Ar.pdf
(2) ارتفع العدد اليومي للمسجّلين في القوائم الانتخابية من  29782 يوم 20 جويلية إلى 73366 يوم 21 جويلية ليبلغ أقصاه 92296 يوم 22 جويلية لمزيد التفاصيل:
http://www.isie.tn/documents/rapport-general-22-07-2014.pdf
(3) لمزيد من التفاصيل والتوسع في هذه النقطة يرجى العودة إلى مقالنا السابق في العدد 45 من مجلّة الإصلاح بتاريخ 13 ديسمبر 2013 تحت عنوان: « نحو سيناريو للإنقاذ وانتقال ديمقراطي مشوّه ». 
(4) الجبهة الشعبية هو ائتلاف سياسي تونسي يضم 11 حزبا وتجمّعا يساريّا وقوميّا وبيئيّا، بالإضافة إلى عدد من المفكّرين المستقلّين. أسّست الجبهة في 7 أكتوبر 2012، وأسندت مهمّة النّاطق باسمها لحمة الهمّامي، الأمين العام لحزب العمّال.
(5) اندماج أربعة أحزاب (حزب حركة التونسي وحزب الاستقلال وحزب الخيار الثالث وحزب تونس) في حزب المبادرة برئاسة كمال مرجان. (الشروق 30 جويلية 2014).
-----------
-  مدير مجلّة  «الإصلاح»
faycalelleuch@gmail.com