الإفتتاحيّة

بقلم
فيصل العش
مسارات
 على إثر الأحكام المخففة التي صدرت هذه الأيام  في قضايا شهداء وجرحى الثورة التونسية عمّ الغضب مختلف القوى وعبّرت أغلبها عن صدمتها من طبيعة تلك الأحكام التي برأت تقريبا أهمّ المسؤولين الأمنيين الذين دافعوا إلى آخر لحظة على النظام الذي صنعهم . وتحدّث البعض عن اغتيال للثورة التونسية ودعى إلى ثورة ثانية مختلفة عن الأولى. وإذا استثنينا بعض الوطنيين والثوريين الحقيقيين، فإن البقية الباقية من هذه القوى التي تعالت أصواتها إنّما تفعل ذلك نتيجة فشلها في استغلال اللحظة التاريخية التي وفرها لها الشعب ولم تحقق له فيها ما كان يحلم به. هل كانت تلك الأطراف تنتظر عكس ذلك؟  فإذا كان الجواب بنعم، فذلك دليل آخر على فشلها في فهم السياق التاريخي الذي تعمل فيه وعجزها عن معرفة موازين القوى في الساحة وجهلها للمسار الذي انساقت فيه بوعي أو من غير وعي. ألم تكن كل المؤشرات تدلّ على التوجه نحو القضاء النهائي على المسار الثوري وتبديله بمسار للتسوية تحت إشراف أجنبي لا يفكّر إلا في ضمان مصالحه؟
من يعتقد أن الثورة التونسية قد حققت نجاحها في 14 جانفي 2011 بعد هروب بن علي إلى السعودية وأن البلاد قد تحررت أخيرا من الاستبداد ووضعت قدما في طريق الانتقال الديمقراطي خاصة بعد نجاح مجلسها الوطني التأسيسي في كتابة الدستور الجديد والمصادقة عليه ، مخطئ في قراءته للواقع ومتجنبا الصواب في تقديراته. فما حدث يوم 14 جانفي كان الحلقة الأولى لوأد الثورة التونسية وهي في المهد. لقد سارعت بعض القوى الداخليّة المرتبطة بالنظام القديم وبعض القوى السياسية التي أخطأت التقدير أو التي فكّرت في السلطة قبل مصلحة الجماهير إلى ترويض الثورة الشعبية التي بلغت أوجها بهروب بن علي إلى خارج البلاد .وحوّلت ذلك النصر إلى شبه سراب بعد أن تمّ بقدرة قادر تعيين رئيس مجلس نواب النظام الفاسد رئيسا للدولة وعيّن رئيس حكومة الفساد رئيسا لحكومة الثورة !!!  
ما عاشته البلاد خلال السنوات الثلاث بعد رحيل بن علي لا يمكن أن يكون مسارا ثوريّا سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي لأن ما حدث ليس إلاّ إعادة صياغة نفس النظام من جديد وإن كان بوجوه مختلفة. لقد سعى الحكام الجدد، الذين فوضهم الشعب لكتابة الدستور وتحقيق الأهداف التي من أجلها ضحّى بالنفس والنفيس، إلى التعويل على قوة الدولة أكثر من الاهتمام بتطوير المجتمع، لكنّهم لم يقدروا على ارجاع هيبة الدولة ولا على ترويض أجهزتها ولم يستطيعوا مدّ جسور التواصل مع الشعب ولا حتّى التفكير في مراجعة المنظومة الفاسدة والقطع مع قوانينها الجائرة. أمّا المعارضة فلم تكن في مستوى مسؤولياتها ولم  تفكّر إلا في اسقاط الحكومات المتتالية وخلط الأوراق من جديد حتّى وإن لزم الأمر الإستقواء بالأجنبي، فكانت النتائج مخيبة للآمال لذلك استمرت مظاهر الفساد والتخلّف والتفاوت بين طبقات الشعب وعمّت الاضطرابات أرجاء البلاد مما دفعها إلى حافّة الانهيار والفوضى فكان لابدّ من «توافق» بين مختلف الأطراف لم يأت مع الأسف إلاّ بعد تدخل الأجنبي. فهل يمكن الحديث بعد هذا عن مسار ثوري؟
الثورة ليست حدثا سياسيا معزولا بل عمليّة معقّدة تمتدّ في التاريخ تتطلب جهدا وصبرا لتتحقق وهي ليست اسقاط رأس نظام أو تغيير في السلطة السياسية أوكتابة نصوص قانونية جديدة مخالفة لما كانت عليه، وإنما هي تغيير ثقافة شعب بأكملها من ثقافة الرضا بالقهر والتملّق والأنانيّة والانتهازية والعمل من منطلق الخوف والرهبة إلى ثقافة تبنى على مفهومي الحرية والمواطنة تعيد الاعتبار للاخلاق ولقيم العمل الطوعي والتفاني في خدمة الصالح العام وهي ليست عمليّة ميكانيكية سهلة بل أخذ وردّ ومدّ وجزر وتضحيات جسام وصبر وعزيمة. والثورة لا يصنعها سياسيون أو مثقفون مرفّهون لا يغادرون مكاتبهم وإنّما سياسيون ومثقفون ملتحمون بشعبهم يأكلون مما يأكل ويشربون مما يشرب، يتفهمون معاناة المواطنين ويعرفون كيف يخاطبونهم ويوجّهونهم نحو المسار الصحيح من دون «ثورجيّة» زائدة أو بطولة زائفة. لعلّهم مفقودون الآن لكنهم سيأتون ومن رحم هذه الأمة سيبعثون. قد تكون تونس خسرت شوطا من المعركة  لكنها في الأخير ستربحها...