الإفتتاحيّة

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد 52
 يرى البعض أن الأمر قد حسم ، وتمّ انقاذ الثورة التونسية من السقوط المدوي كما حدث في مصر بنجاح الحوار الوطني في استكمال المسارات الثلاث التي رسمها الرباعي الراعي للحوار وهي المصادقة على الدستور الجديد بنسبة عالية لم تكن متوقعة وتشكيل حكومة جديدة برئاسة السيد المهدي جمعة  وانتخاب الهيئة العليا لتنظيم الانتخابات، ويرى آخرون أن الأمر ايضا قد حسم لكن في الإتجاه المعاكس وهو القضاء على المسار الثوري حيث يعتبرون أن ما حصل إنما هو انقلاب ناعم من دون اراقة دماء على عكس ما فعله السيسي في مصر، ويتهمون أياد خارجيّة بأنها وراء كل ما حدث في تونس منذ ظهور نتائج الانتخابات وتسلّم الترويكا السلطة. 
لن نكون في صفّ هؤلاء ولا هؤلاء ، لكنّنا متأكدون أن الأمر لم يحسم بعد، فلا الانقلاب الذي دعا إليه سرّا وجهرا جزء من النخبة لتصفية خصومهم قد نجح وتحققت أهدافه ولا مسار الانتقال الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة قد أصبح على السكّة الصحيحة ولم يعد هناك ما يعطّله فمازال ذلك بعيد المنال ومازالت المخاطر تحدق به من كل جانب. 
إن الحالة التونسية أفضل بكثير من حالات بقية دول الربيع العربي أمثال مصر وليبيا وسوريا واليمن، لكنّها حالة معقّدة تحكمها مفارقات عجيبة لعلّ أهمّها ما يحدث هذه الأيام من ارتفاع نسق الإضرابات المطلبية التي مسّت قطاعات حيويّة وحسّاسة وهو ما يمثّل تعطيلا لعمل الحكومة التي زكّاها الرباعي وعلى رأسه الإتحاد العام التونسي للشغل فهل يعقل أن يؤتى بحكومة لانقاذ الوضع في البلاد من جهة ويتم تعطيلها من جهة أخرى؟ فكيف ينجح الاتحاد في انقاذ الحوار الوطني وتشكيل حكومة لتحقيق الاستقرارمن جهة ثم يفشل في توقيف سلسلة اضرابات لا نتيجة لها الا مزيد من عدم الاستقرار؟ فهل غدا الإتحاد  كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا أم أن في الأمر خفايا لا يعلمها إلا النافذون في هذه المنظمة الإجتماعية الكبيرة؟
 ومن المفارقات أن تنبرى قيادات النظام السابق وركائزه ومنظريه على شاشات التلفاز وعلى صفحات الجرائد والمواقع الاجتماعية لتقدّم نفسها فارس أحلام الثورة الذي سينقذها وينقذ معها البلاد من الرّعاع الذين لا يفهمون في السياسة ولا في فنون الحكم وهم يقصدون طبعا القوى التي أتت بها الثورة في انتخابات اكتوبر 2011. فهل هناك مفارقة أكبر من أن يتحول من قامت ضدّه الثورة إلى منقذ لها ؟ وهل هناك مفارقة أكبر من أن هؤلاء يريدون العودة إلى حكم البلد باسم الزعيم الذي خانوه و أهانوه وحبسوه في شيخوخته؟ إنّ هذا لشئ عجيب!!!
ومن المفارقات أيضا أن يقود «التكفيريّون» حملة إعلاميّة على «التكفير»!!! ونقصد هنا ذلك الجزء من النخبة الثقافية والإعلاميّة التي افتضح زيف شعاراتها حول الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان. أليس من صفّق لعسكر مصر وبارك انقلابه  وقتله بدم بارد مئات المصريين المستضعفين هم من التكفيريين؟ أليس من دعى إلى سحل الإسلاميين في الطرقات من «التكفيريين»؟ ولقد قال فيهم  الدكتور ابو يعرب المرزوقي قولا بليغا جاء فيه « هم يسبّون ويشتمون ويحرّضون على شعوبهم بتهم لم يعد يقبل بها حماتهم لافتضاحها وابتذالها. إنما مدار تعليقاتهم الساخرة ومنابزتهم لكل من ينحاز إلى الثورة هو ما يعادونه من قيم الثورة وما يحقدون عليه من صلتها بتراثهم حقدا مرضيا لم يسبق أن رأت البشرية له مثيلا: إذ يذهبون على حد نفي الإنسانية عن الإسلاميين خاصة وعمن لا ينتسب إلى رؤاهم عامة. لذلك فهم التكفيريون حقا رغم وصمهم بهذه العاهة غيرهم حتى وإن كان أساس تكفيريتهم ليس التعصب الديني بل التعصب لسطحيات الحداثة والتقدمية».
ومن المفارقات أن تجد الحكومة الجديدة نفسها مجبرة على الإقتراض لتغطية نقص الميزانيّة في حين أن هناك من يتحدث عن آلاف المليارات  قد اقترضها من رضي عليهم النظام البائد وأرضوه من البنوك التونسية ولم يقوموا بتسديدها وهم بعد مرور ثلاث سنوات من الثورة طلقاء. الم يكن من الأجدر أن تفتح هذه الملفّات ويكشف عن مصير تلك الأموال ليحاسب من لم يقم بتسديد ما عليه ويعيد المال المنهوب؟ 
هذه المفارقات وغيرها مؤشرات على أن الأمر لم يحسم بعد بالنسبة للحالة التونسية وأن قطار الانتقال الديمقراطي مازال يراوح مكانه ولم يغادر المحطّة بعد لأن المعطّلات كثيرة بل أن المتتبع للسّاحة التّونسية يستطيع أن يستنتج بوضوح أن الكفّة قد مالت بعض الشيئ لقوى الحنين إلى عهد الإستبداد والفساد لأنها لا تستطيع العيش إلا في واقع تحكمه المافيا وعصابات الإتجار في كلّ شيئ بما في ذلك الشعارات والكلمات وأن هذه القوى تتجه نحو توحيد صفوفها في انتظار كسب المعركة سواء عبر الإنتخابات القادمة أو بطرق لا يفقه سرّها إلاّ من وجّه وجهه قبل قوى الهيمنة العالمية يستجديها ويطلب العيش تحت حمايتها وفي رعايتها على عكس بقية القوى المنحازة للثورة التي زادتها الأزمات تشتتا.
هل يعني هذا أن البلاد تسير نحو عودة النظام القديم ولو بشكل جديد؟ أمّ أنه مازال هناك فسحة من الأمل للقوى المنحازة للثورة وبعض من الوقت تستطيع فيه أن تعيد القطار إلى سكّته الصحيحة فيسير بالتونسيين نحو بناء مجتمع تتحقق فيه الكرامة والحرّية ومبادئ المواطنة وحقوق الإنسان وتخفت فيه ألاعيب المافيا والفاسدين. ولا يمكن تحقيق هذا الحلم إلا بتكاتف جهود كل الغيورين على هذا الوطن فيتركون صراعاتهم جانبا ويفكرون كيف يوحدون الصفوف وإن اختلفوا ففي الاختلاف رحمة وقوّة مادام الاختلاف ليس في الغاية بل في الوسيلة. 
إن الحوار مع الصبر على بعضنا البعض والعمل بكل جدّ هو السبيل الوحيد لإتخاذ موقف ينحاز للمستضعفين من أبناء شعبنا الأبي وهو الطريق لبناء استراتيجيّة وطنيّة تقطع مع القديم وتؤسس لتنمية شاملة يقطف ثمارها كل أبناء الوطن. 
أمّا أؤلئك الذين يبيعون أوطانهم وشعوبهم مقابل ما يضعونه في بطونهم ويمتّعون به فروجهم ويبدون للناس ما لا يخفون، ويعملون ليلا نهارا على إطفاء نور الثورة في صدور التونسيين، فلن يكون مصيرهم غير الذلّ والهوان وسيذكرهم التاريخ ضمن الخائنين.