الإفتتاحيّة

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد 51
 تحتفل يوم 8 مارس من كلّ سنة موظفات منظمة الأمم المتحدة وسيدات الأعمال ورؤساء ومناضلي الجمعيات النسائيّة في العالم باليوم العالمي للمرأة، فتعدّ التظاهرات والحفلات الموسيقيّة والمآدب هنا وهناك في العواصم الأوروبية والأمريكيّة وتنصب المنصّات للسّياسيين والسّياسيات والحقوقيين والحقوقيات ليملؤوا آذان المستمعين والمستمعات، الحاضرين حولهم والحاضرات، بما كتبوه في خطبهم من مدح للمرأة ونضالاتها والإعلان بدون تردّد عن المساندة المطلقة لنساء العالم في نضالهن من أجل الحصول على حقوقهنّ السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وتخصّص وسائل الإعلام بجميع أنواعها الجزء الأكبر من برمجتها للاحتفال بهذه المناسبة، فتذكّرنا بمشاهير النساء في العالم وفي الوطن وتسرد على مسامعنا حزمة القوانين التي صدرت لحماية حقوق المرأة.
وعلى المستوى الوطني، يكون هذا اليوم مناسبة للعلمانيين «اليعقوبيين» ليملؤوا شاشات التلفاز والمواقع الالكترونية والإذاعات والتظاهرات بأصواتهم العالية جدّا لينددوا بما اقترفه الرجعيّون في حق نساء الوطن خاصّة في ملبسهنّ و في تحقيرهنّ بالحدّ من حقّهن في الميراث ملوّحين بضرورة القضاء على هذا الفكر الرجعي وداعين القوى التقدميّة والدّيمقراطيّة (هي بالنسبة إليهم كل القوى المعادية للإسلاميين) إلى الوقوف ضدّ كل الدعوات الرجعية التي تعمل على العودة إلى ما دون المكاسب التي ناضلت نساء تونس من أجلها ودفعن حياتهنّ ثمنا لها وذلك عبر إحباط كلّ محاولة تستهدف حقّهن في المساواة التّامة وفي المواطنة الكاملة والتصدّي للهجمة الشّرسة التي تقوم بها دوائر الدّعاوى والفتاوى الظلامية التي تهدف إلى إرجاعهنّ إلى أدوارهنّ التقليديّة المزعومة وضرب ما تحقّق لهنّ من حقوق. وفي المقابل تحاول القوى الإسلامية والوعّاظ ومختلف الأيمّة أن تستغلّ هي أيضا هذه المناسبة للتذكير بما حبا به الإسلام المرأة من حقوق منذ أكثر من أربعة عشر قرنا وكيف أكرمها شرع الله بنتا وأختا وزوجة كما يستغلها هؤلاء لصبّ جام غضبهم على دعوات التحرّر التي يطلقها الآخرون معتبرين إياها زائفة هدفها تفكيك الأسرة وتبضيع المرأة واستغلالها ومحاربة شرع الله.
وفي الاثناء تحتفل «خديجة» بطريقتها الخاصّة باليوم العالمي للمرأة حيث تستفيق باكرا قبل جميع أفراد العائلة لتجمع الحطب وتجلب مياه الشرب من مسافة تتجاوز أربعة أميال وفي الطريق تتذكّر كيف حرمت من حقّها في الميراث وفرض عليها مغادرة مقاعد الدراسة باكرا للاهتمام بشؤون البيت والعمل بالفلاحة. خديجة، وبالرغم من مواجهتها لظروف الحياة المزرية حيث تقوم بأعمال الزراعة والاحتطاب والرعاية والتربية وغيرها من مشاق الحياة، فهي أفضل حال من آلاف النساء في كافّة أصقاع العالم بما فيها أوروبا وأمريكا يعشن تحت نير الخوف من الاختطاف والقتل والاغتصاب والضّرب. ما تزال كثير من النساء يعشن حياة في غاية القسوة والخشونة حيث تبيّن إحصائيات المنتظم العالمي أن ثلثي الأميين في العالم هم من النساء وأن  603 مليون امرأة في العالم تعشن في بلدان لا تعتبر العنف المنزلي جريمة وهي تتعرض يوميّا إلى انتهاكات جسدية كما تفيد نفس الإحصائيات أن 70 في المائة من النساء في العالم تعرّضهن لعنف جسدي أو جنسي في فترة ما من حياتهن. 
يحتفل العالم باليوم العالمي للمرأة وآلاف النساء في سوريا يعشن وضعا مزريا تحت وابل الرّصاص والبراميل المتفجرة ويتعرضن إلى أبشع الانتهاكات الجسدية والجنسية والمعنوية ويتمّ اغتصابهن وقتلهن وأطفالهن بدم بارد ولا تحرّك المنظمات النسوية ساكنا.
يحتفل العالم باليوم العالمي للمرأة وملايين الفتيات الصغيرات يتمّ تزويجهنّ قبل بلوغهن سن الثامنة عشر (60 مليون) في حين تتعرض نسبة كبيرة منهنّ إلى حالات الإغتصاب قبل أن يبلغن سن السادسة عشر خاصّة في مناطق الحروب والصراعات العرقية والدينيّة.
يحتفل العالم باليوم العالمي للمرأة وآلاف النساء في أوروبا وأمريكا «أرض حقوق الإنسان والحريات» يتمّ استغلالهنّ في دور الدّعارة والتّجارة الجنسيّة في شكل جديد من الرقّ المبطّن بالحريات الشخصيّة والجنسيّة (200 ألف إلى 500 ألف امرأة وفتاة في أوروبا أغلبهن من دول البلطيق والبلقان). 
يحتفل العالم باليوم العالمي للمرأة وآلاف النساء في أنحاء العالم يتمّ استغلالهن كعاملات في المصانع بأجر زهيد لا يقارن مع ما يتقاضاه الرجل عندما يقوم بنفس العمل.
نحن لسنا ضد تخصيص يوم عالمي للمرأة نقف فيه إجلالا وتقديرا لها ونسلّط الضوء على مسيرتها في كافة مجالات الحياة وإبداعاتها وتجاربها في مختلف مواقع العمل والإنتاج ونثمّن فيه الدور الاستثنائي الذي لعبته نساء هنا وهناك في الدفاع عن حق المرأة والمطالبة بحقوقها والرفع من قدرها ومكانتها في المجتمع. لكننا ضدّ احتفال «أعور» يرى بعين واحدة، يُستغلّ من أجل فرض ثقافة معيّنة تحت شعار « منظومة حقوق الإنسان الكونيّة» يراد أن تكون ثقافة الجميع من دون الأخذ بعين الاعتبار الخصائص الذاتية للمجتمعات المتنوعة. نحن ضدّ أن نحتفل من دون أن نوجه احتفالاتنا وتظاهراتنا نحو تحليل الواقع الحقيقي للمرأة والبحث في كشف العراقيل التي تحول دون أن تستوفى المرأة حقوقها كاملة. نحن ضد أن نخصص للمرأة عيدا عالميّا وآخر وطنيّا ثم نبخسها حقّها بقية أيام السنة. 
إن تمكين المرأة من حقوقها واعتبارها كائنا مثلها مثل الرجل لا يمكن أن يتحقق في تقديرنا عبر الاحتفالات أو عبر سنّ القوانين والتشريعات التي لا تجد طريقها إلى التنفيذ نتيجة نظرة العقل المجتمعي للمرأة ولهذا فإن المطلوب اليوم مع سنّ القوانين التي تحمي حقوق المرأة أن نغيّر ما ترسّب في عقولنا من وعي فاسد ونظرة دونيّة للمرأة عبر قرون من التخلّف بإرساء منظومة تربويّة وثقافيّة تؤسّس لمبادئ المساواة ودعم مشاركة المرأة في إنتاج الثروة وبناء الوطن وعبر «تثوير» تراثنا الملئ بالجوانب المضيئة والمبادئ السمحة التي تجعل «النساء شقائق الرجال» وشريكا حقيقيا في جميع مجالات الحياة من دون السقوط في التقليد الأعمى للآخر واستيراد مبادئه وتشريعاته تحت غطاء الكونية.