الإفتتاحيّة

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد 49
 الآن وقد خرجت تونس من عنق الزّجاجة ودخلت مرحلة انتقالية جديدة وأصبح لديها دستور جديد وحكومة جديدة لتأمين المرحلة القادمة وهيئة عليا للانتخابات من المفترض أن تنطلق في شغلها قريبا لتنظيم العمليّة الانتخابيّة القادمة على جميع واجهاتها الرئاسية والبرلمانية والجهوية والبلديــة. على الجميع أن يتوقف الآن قليلا ليعيد قراءة ما حدث طيلة ثلاث سنوات منذ هروب بن علي وإعـــلان انتصار ثـــورة الكرامة أو الياسمين كما يحلو للبعض تسميتها. على جميع الأطراف أن تقرّ بمحدودية إمكانياتها وتقوم بمراجعة أفعالها وأقوالها خلال هذه الفترة وتخصّص من زمنها لحظات تأمّل لتسأل نفسها هل وفّقت في مهامها وحراكها وهل كانت وفيّة لمطالب الثورة والثوّار؟
 سيضحك القارئ ملأ جدقيه ويتساءل عن مدى وعي كاتب هذه الأسطر وعن جدّيته في ما يطرح وهو يشاهد بعينيه الأطراف السياسية التي يدعوها إلى التوقف للحظة نقد ذاتي وهي تهرول إلى سباق الانتخابات منذ الآن وكأنّ شيئا لم يقع . أحزاب وجماعات وكتل ، الجميع انطلق في حملة انتخابية استباقية من دون أن يعرف متى وكيف ستجرى الانتخابات. ألهذا الحدّ أصيبت نخبتنا بهلوسة الحكم وجاذبية الكراسي؟ 
ليضحك القارئ العزيز، فقد يكون في الضحك دواء وشفاء لما أصابه من همّ وغمّ وما عاشه من غصرات خلال السنوات الثلاث الماضية، لكنّ ما نفعله هنا في هذه الورقة إنما تذكير وتنبيه لنخبتنا عملا بقول الله عز وجلّ « فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ... لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ». علينا أن نقول كلمتنا ونبدي بآرائنا فإن قبلتها نخبتنا المصونة فقد ساهمنا في إنقاذ المركب بما فيه وإن فشلنا في إقناعها فلا حرج علينا إن غرق المركب ولو كنّا فيه من الغارقين!!!
من عادتنا أن لا نتشاءم وأن ننظر إلى الجزء الملآن من الكأس وإن كان فيه القليل، فالقليل أفضل بكثير من الفراغ ... فما تحقق في تونس ليس بالأمر الهيّن، فقد نجحت النخبة في كتابة دستور جديد للبلاد ساهمت فيه مختلف الأطراف من داخل المجلس وخارجه واستمر مخاض ولادته طويلا لكنه وُلد في النهاية...يقول البعض أنّه ولد مشوّها وأن فيه من المتناقضات والألغام الكثير وأنّه ليس دستور الشّعب بل هو دستور النخبة المتعالية على الشعب. ولم يكن معبّرا عن مطالب المستضعفين الذين خرجوا منذ 17 ديسمبر يواجهون آلة قمع بن علي بصدور عارية وقدّموا فلذات أكبادهم شهداء وجرحى، بل جاء في سياق تسوية بين الفرقاء السياسيّين وإرضاء لأطراف خارجيّة فاعلة تريد أن تحافظ على مصالحها وتواصل تحكّمها في مفاصل البلد. لكنّ الكثير يعتبر المصادقة على الدستور إنجاز عظيم وهو تحقيق لأحد أهداف الثورة المتمثل في القطع مع الاستبداد ومع فترة حكم الشخص الواحد والحزب الواحد وهو «وفاء للثورة وتأسيس للديمقراطية» .
ليس المهم الانتهاء من كتابة الدستور ولا يهمّ معرفة الأطراف التي أُريد إرضاؤها من خلال كتابته وإن كانت غير مجهولة الهويّة. المهمّ بالنسبة لنا هو ما سيكون بعد الانتهاء من كتابة الدستور وكيف سيتم ترجمة فصوله على أرض الواقع، لأن الدستور مجموعة من المبادئ القانونية المجرّدة التي لا قيمة لها إن لم تتحول إلى أفعال وإنجازات على الميدان عبر سنّ القوانين والتراتيب التي تغيّر الواقع المعيشي للمهمشين والفقراء والمحتاجين وتحفظ بعض المكاسب كحرية الضمير وحرية التعبير.
ما تحقق في تونس إلى حدّ الآن وإن كان لا يلبّي حاجيات الثورة، أفضل بكثير مما تحقق لدى إخواننا العرب، فجميع الثّورات لديهم تحوّلت إلى كابوس رهيب ودخل الجميع (مصر وسوريا وليبيا واليمن) في متاهات العنف والخراب، ولم تعد تشتم في شوارع القاهرة ودمشق وصنعاء وطرابلس غير رائحة الموت والتفجيرات ودماء الأبرياء. يكفي أنّ ما تحقق قطع الطريق أمام أصحاب النفوس المريضة الذين راهنوا طويلا على إفشال التجربة والعودة إلى نقطة الصفر بل إلى ما قبل نقطة الصفر،الذين أصبحوا يجاهرون بالحنين إلى سيّدهم وإلى عهده مستغلّين صعوبة المسار وحالة الإحباط التي أصبح عليها  الناس محاولين عبر أبواقهم المتنوعة إقناع الناس بأن الثورة كانت وبالا على البلاد والعباد.
من يقرأ التاريخ جيّدا ويعرف الجغرافيا، ويدرك من هي القوى المتحكمة في مجريات الأمور على الكرة الأرضية، يستطيع أن يستوعب ما حدث في تونس وعند الأشقاء العرب. إن الشعوب الفقيرة الجائعة والمحرومة تستطيع أن تثور وتطيح بأنظمة الحكم، لكنّها لا تقدر على بناء دولة قويّة ذات سيادة إلاّ إذا كانت لديها نخبة ناضجة واعية باللحظة التاريخية التي تعيشها، تعرف ما يمكن إنجازه وما يقبل تأخير التفكير فيه، متوحدة في هدفها وفي أولوياتها، تعرف من هو العدو ومن هو الصديق ولا تتكبّر على شعبها ولا تحتقره. فهل لدينا نخبة مثل هذه؟     
علينا كنخبة أن نقرّ بضعفنا وبعدم قدرتنا على الذهاب بعيدا في تحقيق أحلام هذا الشعب وهذا يعود إلى ما عايشناه من استبداد وقمع وتنكيل وغربة وإلى عقد إيديولوجية من الصعب تفكيكها وتجاوزها، لكننا في المقابل قادرون إن أردنا، أن نهيئ الطريق للأجيال القادمة لتصنع ما عجزنا عن صنعه. لذلك نرى أن علينا في اللحظة الراهنة أن نعمل جاهدين على المحافظة على مكسبي حرية التعبير والتفكير ونعضّ عليهما  بالنواجذ إن لزم الأمر  لنحوّلهما إلى واقع حقيقي يتربّى في أحضانه الجيل القادم وعندها نكون قد وضعنا لبنة جيل حرّ قد يصنع العجائب ويحقق الأحلام فلا يصنع العجائب إلا الأحرار.