الإفتتاحيّة

بقلم
فيصل العش
افتتاحية العدد 46
 قبل ثلاث سنوات من الآن كان الشارع التونسي في أقصى حالات غليانه وكان الشباب يواجهون نيران القناصة في تالة والرقاب وقابس والقصرين وصفاقس بصدور عارية هاتفين بإسقاط النظام ومطالبين بالحق في العيش الكريم والحرية والتشغيل. كنت كغيري من الكهول في تلك الأيام أشك في قدرة هؤلاء على الإطاحة بالدكتاتور. فجيل التغيير لم يكن حسب رؤيتنا للأشياء سوى جيل مشّوه قد أحسن بن علي ترويضه بسياسة تعليميّة مهزوزة وسياسة تثقيفية منحطّة وكنّا نرى فيه شبابا يمتاز بالميوعة واللامبالاة والفراغ الأخلاقي والروحي. لكنّ الأيام الفاصلة بين 17 ديسمبر2010 و 14 جانفي 2011 أثبتت عكس ما ذهبنا إليه وأظهرت قدرات الشباب التونسي الذي باستعماله لشبكات التواصل الإجتماعي والهواتف النقالة وتمرّده في الشوارع استطاع أن يمرر العديد من الشعارات ويفضح الممارسات القمعيّة للآلة الأمنية للدكتاتور ويعلن عن عدم رضاه بالوضع الذي يعيشه. وبالرغم من القتل المتعمّد للعديد من الشباب ، فقد استطاع هؤلاء في «السنة الدولية للشباب» أن يجبروا الطاغية على الفرار ثمّ كانوا في صدارة الذين ذادوا ببسالة عن أحيائهم ومدنهم في فترة الانفلات الأمني الذي حدث بعد 14 جانفي . ثمّ أثبتوا قدراتهم النضالية في القصبة 1 و2 وأرغموا السياسيين على تغيير الحكومة في مناسبتين والتوجه إلى انتخابات مجلس تأسيسي لكتابة دستور جديد للبلاد يقطع نهائيّا مع الماضي ويرسي دعائم الدولة المدنية الحديثة. والآن بعد ثلاث سنوات من تلك الملحمة الشبابية يحق لنا أن نتساءل عن موقع هؤلاء الشباب ؟ وماذا كسبوا من ثورتهم ؟ وأي دور لهم اليوم في بناء بلدهم من جديد؟
يقال أن من مفارقات الثورة التونسية أنه صنعها الشباب واستفاد منها الشيوخ فمن بيده مفاتيح الأمور اليوم شيوخ قد بلغوا من العمر عتيّا. ولا وجود للشباب في سدّة الحكم أوفي مواقع القرار. ولم يكن تعامل الحكومات المؤقتة المتتالية سواء قبل 23 أكتوبر أو بعده مع ملف الشباب سليما فقد حصرت جميعها قضية الشباب التونسي في مشكلة التشغيل وبالتحديد تشغيل حاملي الشهادات العليا من دون أن تقدّم حلولا جدّية. في حين فشلت الأحزاب السياسيّة قديمها وجديدها والتي يفوق معدل أعمار قادتها الخمسين سنة، في استيعاب متطلبات الشباب واستقطابه ليكون أحد أعمدة البناء الجديد ولم تولّه المكانة التي يستحقّها التي تتماشى مع دوره المحوري والأساسي في نجاح الثورة فكان من نتائج ذلك أن الشباب لم يعد يثق في الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة على حدّ سواء فخيّر البعض وهم الجزء الأكبر الانسحاب نهائيّا من الساحة تعبيرا عن رفضه لما آلت إليه الأمور في البلاد في حين خيّر البعض الآخر الالتحاق بصفوف التنظيمات الراديكاليّة المتطرفة التي لديها من الأساليب الذكيّة الكثير لجلب وتأطير الشباب والاستفادة من حماسه ورباطة جأشه.
إن الشباب هم عماد الوطن وهم القوّة الضاربة التي باستطاعتها بناء الدولة وصناعة المستقبل وبدونهم لا تقدر تونس أن تقف على قدميها من جديد وتتخطّى عتبة الفقر والتخلّف . وبالتالي فإن إبعاد الكفاءات الشبابية عن المشاركة في القضايا المصيريّة للبلاد وعدم فسح المجال لهذه الفئة التي تمثّل ثلثي التونسيين لهو خطأ كبير تقع فيه القوى السياسية سواء في الحكم أو في المعارضة ستكون له تأثيرات وخيمة على استقرار البلاد ونجاح انتقالها من الاستبداد إلى الديمقراطيّة وبالتالي تحقيق التنمية والتقدم والازدهار.  ليس الكلام هنا موجها إلى سماسرة وشيوخ السياسة فهؤلاء لا يستطيعون تجاوز عقلياتهم القديمة التي تتعامل مع الشباب كمعطى كمّي تستنجد به في حملاتها الانتخابية ومواعيدها الحزبية أوتجييش الشوارع للضغط على الخصوم وإنما الكلام موجّه للشباب أنفسهم . فكما أنقذتم النّخبة السياسية من تعسّف الطاغية وفسحتم لها الطريق لتعيش حرّيتها التي سلبت منها طيلة نصف قرن بالتمام والكمال، عليكم أن تخلّصوها من العقليات القديمة والأساليب البالية التي يتّبعونها في سياساتهم وعليكم أن تفتكّوا قيادة القاطرة قبل أن تحيد عن السكّة وتدخلنا في نفق مظلم لا نهاية له، فقد أثبتم خلال الثورة وبعدها جدارتكم وقدراتكم العالية في التعامل مع الواقع والاستجابة لحاجياته وفرض مسار جديد يقطع مع الماضي بجميع جوانبه. فلا تتركوا الساحة لمن هو في أرذل العمر أو يكاد وتواجدوا في الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني واعملوا على تقويم مسارها نحو الأفضل ... «ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» (المائدة 23)